عاد أبو السعيد إلى مخيمه، لم يختر العودة كما لم يختر الهجرة، هذا ما يبدو للعيان ولكنّ كثيراً مما يبدو للعيان خادع. “عاد” أبو السعيد إلى عين الحلوة ولم “يعد” إلى طبريا فهل عاد أم تابع منفاه، أم هو فحسب “حركاته تنتقل” كما قال الشاعر اللاجئ صالح هواري معارضاً صفي الدين الحلي: “حركات اللاجئ تنتقل”؟
كان محمود درويش قال: “وإذا رجعتم فلأي منفى ترجعون؟” سؤال وجيه لكنه لا يخص حالنا نحن اللاجئين “الصافين”، “الكلاسيكيين”، بحصر المعنى، لأن محمود درويش كان حالة خاصة جداً ممن لجأ في وطنه، خرج من البروة مع أهله إلى لبنان لاجئاً ثم عنّ للعائلة أن “تعود”،
وبالتحديد “تسللاً”، “تسللت إلى فلسطين” فعادت والولد لم يبلغ السابعة فلم “يتمتع” بصفة اللاجئ في جمهورية لبنان أكثر من سنة. هذه “المتعة” نالها أبو السعيد وشرب كأسها حتى الثمالة. هل قلت إن عائلة درويش “عادت”؟ حتى هذا القول ليس صحيحاً. فالعائلة أولاً لم تعد إلى البروة بل عاشت في دير الأسد، في الصف الثاني كان المدير يخبئه في غرفة ضيقة عند زيارة مفتش المعارف لأنه “متسلل”، يعيش في “إسرائيل” بشكل غير قانوني. وعاشت العائلة لم يسمح لها بأن تسترد أرضها في البروة المهدمة وظل درويش بدون حصول على “جنسية إسرائيلية”. للحصول على هوية علمه أهله أن يقول إنه كان عند عائلة بدوية وأن لا يقول إنه “تسلل” من لبنان، ولكنه ظل بلا جنسية. في أحد فصول كتابه “يوميات الحزن العادي” يصف كيف طلب أن يسافر إلى اليونان يقول: “تطلب جواز سفر فتكتشف أنك لست مواطناً. لأن أباك أو أحد أقاربك قد هرب بك أثناء حرب فلسطين (..) تيأس من جواز السفرو تطلب جواز مرور، تكتشف أنك لست مقيماً في “إسرائيل”، لأنك لا تحمل شهادة إقامة(…) تفاجأ بأن القانون معهم وبأنه يترتب عليك أن تثبت وجودك. تقول لوزارة الداخلية: أنا موجود أم غائب؟ أعطوني خبيراً في الفلسفة لأثبت له أني موجود. ثم تدرك أنك موجود فلسفيا، وغائب قانونياً”.
لكن حالنا نحن “اللاجئين” بحصر المعنى مختلف. أنت في لبنان موجود بل أكثر من موجود: وجودك فائض عن اللزوم وعن الحاجة. تحرض على وجودك 14 آذار وجزء من 8 آذار أيضاً ولا سيما محطة ال أو تي في. بل هم يخوّفون الشعب من عدد لاجئين غير موجود بل تناثر في أرجاء العالم الفسيحة أو الضيقة كخرم الإبرة التي يطلب من اللاجئ أن يدخل فيها.
رأيت أبا السعيد لأول مرة مع صديقه أحمد شناعة الذي عرفني عليه. لم أرتح في اللقاء الأول. انتابني إحساس أنه “مسؤول” والمحبة بيني وبين “المسؤولين” محدودة كما يعلم من يعرفني. اختلفنا في السياسة وهذا هو الداء القاتل عندنا نحن اللاجئين. نحن لا نعرف كم هو اللقاء بيننا كبير وكم هي الفروق صغيرة. نتقاتل على برامج أناس لا يعرفون مصيبتنا ولا تهمهم. عرفت أن أبا السعيد من عين الحلوة لأن أخانا أبا نزار شناعة حدثني عنه، لكني لم أعرف وا أسفاه كم هو من عين الحلوة! مررت بعين الحلوة في هروبي الكبير عام 1989 فرأيت أن أهل عين الحلوة يقتلون بلا سبب واضح. كل يوم كنت تسمع عن قتيل جديد ترمى جثته بالشارع. قتل ناس لا يعرفون هم أنفسهم لم قتلوا. أنا لم أسمع بهذه الجريمة، جريمة قتل ولديه، التي كانت ستهزني لو عرفتها في وقتها، حتى مات أبوهما أيضاً وحدثني عنها رضوان وقرأتها في نعيه. كان أبو السعيد لاجئاً من عين الحلوة إذن وشرب من كأس عين الحلوة حتى الثمالة. وأنا لم أكن أعرف كم كان من عين الحلوة. كل ما عرفته أنه من الجبهة الديمقراطية وأنه “مسؤول”. معرفة غير كافية ويا للأسف. وهذا حالنا نحن اللاجئين. نعرف بعضنا معرفة غير كافية فنتقاتل وهم يعدون الحبال لشنقنا.
الفلسطيني بجوهره هو اللاجئ. من لم يصدق فليراجع الإحصائيات ليعرف أن اللجوء هو حال الأكثرية الساحقة و”البقاء” هو حال الأقلية الزهيدة. لكن الإحصائيات ليست هي برهاني. إن برهاني هو فلسطين. لا يوجد برهان على وجود فلسطين إلا من خلال وجودنا نحن كلاجئين. هل فهمت الآن يا أخي لماذا يريدون تغيير صفتنا هذه؟ كيف توجد فلسطين الآن إن لم يوجد على الأرض لاجئون من فلسطين؟
ويحدثونك عن العودة إلى أرض الدولة العتيدة. جليل القدر يتفهم مخاوف “إسرائيل” وأن عودة اللاجئين ستقودها إلى الانهيار. يطرح التعويض وعودة جزء إلى أراضي السلطة. يتناقش فلسطينيان على التلفاز فيتباهى واحد أنه تحقق جزء من شعار حق العودة بعودة 400 ألف فلسطيني من الشتات إلى الوطن. عادوا إلى طولكرم وغزة ورام الله. تبارك عند سماعك هذا معجزة الله الكبرى التي اسمها الشعب الفلسطيني. لو نظرت مثلاً إلى لاجئ من أم الزينات وهو يرحل في “ليلة ما فيها ضوء قمر” عام 1948 من أم الزينات هارباً لتحط رحاله في طولكرم في موضع سيسمى لاحقاً مخيم طولكرم. انظر إلى ابن أم الزينات هذا. هذا ليس مجرد لاجئ فلسطيني أو إنسان بل هو معجزة لله في خلقه. هو المعجزة الثامنة. لماذا يا محترم؟ لأنه حقق الشيء الذي لم يحققه إنس ولا جن. إنه وهو يلجأ عام 48 يحقق من خلال فعل اللجوء نفسه فعل العودة. لقد كان ابن أم الزينات طليعياً فقد عاد عام 1948 على حين أن 400000 غيره لم يعودوا إلا بعد ذلك بعقود. هو لجأ وفعل لجوئه هو فعل عودته. هذا هو الجدل. هذا هو الديالكتيك الذي طورناه نحن الفلسطينيين فأخمدنا ذكر ماركس وهيغل وأرسطو وأفلاطون وسقراط أيضاً.
قال علي رضي الله عنه: “لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل” وقلنا: لا يعرف اللاجئ إلا اللاجئ. في جامعة FU يسألني طلبة دراسات عليا عرب من أين أنا فأجيبهم بما أظنه معلومات لا تحتاج إلى شرح. أنا فلسطيني لاجئ 48 من سوريا. وأظنهم فهموا لكنهم بعد مدة يسألونني: كيف حال أهلك في فلسطين؟. قلت لكم إني لاجئ من سوريا. لا يفهمون. تاريخنا مجهول. لا يفهمك إلا واحد من أمثالك. لكننا لا نتكلم لغة واحدة وهذا ما يفرقنا عن بعضنا. نحن المؤهلين وحدنا لفهم بعضنا.
عاد أبو السعيد إلى عين الحلوة. هي خيمة شهدت ولادة هوية فلسطين الحديثة: إنها هوية القضية الفلسطينية. سيعود أبو السعيد إلى طبريا فانتظروا فتية لعلهم لم يولدوا بعد. ولعلهم ولدوا. لأننا نحن اللاجئين، وهذا ما لا يعرفه غيرنا، نعلم الولد على لفظ اسم قريته في فلسطين. أنت من طبريا أو من صفورية أو من لوبيه أو من الطيرة أو من أم الزينات أو من القباعة أو من الصفصاف قبل أن ينطق كلمة ماما. هذا ما لم يعرفه من زوّر استطلاع رأي باسمنا زاعماً أن أغلبنا يرفض العودة. لنتركه يأخذ شهادات حسن سلوك ممن يدفع له أما نحن فثمة فتية يتوالدون كل يوم سيعود أبو السعيد معهم. عودة حقيقية. عودة اللاجئ. عودة “الفلسطيني” بحصر المعنى.