حين يحل الغريب في بلد ما تجذب انتباهه أولاً الاختلافات الظاهرة التي يختلف بها هذا البلد عن بلده.
ضعوا هذه الحقيقة في اعتباركم، ولا تصدقوا ما يقال عن أن الغريب "يفهم" هذا البلد الجديد وينقل "الانطباع الصحيح" عنه إلى بني قومه، كما نصادر نحن عادة، وكما زعم الأوروبيون طويلاً حين ظنوا أن ملاحظاتهم عن بلادنا موضوعية، بل قد يبلغ الغرور ببعضهم أن يجيب حين يعترض العرب على ملاحظاتهم أنه يعرفهم خيراً مما يعرفون أنفسهم!.
الغريب لا "يفهم" البلد الآخر حين يلتقي به، بل يلاحظ فيه "المختلف"، وهذا يختلف في الشكل عن بلده، ولا
نعرف بعد مدى اختلافه في المضمون.
ومن هنا نضع الحدود على المثل الروسي القائل "عين الغريب أصدق"، فعين الغريب تلتفت إلى المختلف فحسب، ولكنها بالفعل قد تجذب انتباهها ترابطات بين الظواهر هي بالنسبة لابن البلد معتادة وبديهية بحيث لا ينتبه إليها. ومن أبسط الأمثلة على ذلك الملاحظات اللغوية، فقد يسأل المتعلم الأجنبي للغة العربي عن مشتركات لغوية لم تخطر لابن اللغة على بال (فقد يسأل مثلاً عن العلاقة بين "الكيف" الذي هو في العامية قد يعني السرور أو المزاج الرائق، أو ذلك النوع الذميم من المخدرات، وبين أداة الاستفهام "كيف"، مما يحير ابن اللغة الذي لم يخطر له هذا السؤال على بال!).
وتمر بالمقابل على الغريب مرور الكرام اختلافات حقيقية بين البلد الجديد وبلده فلا ينتبه إليها, والسبب هو أنها غير ظاهرة، وبالعكس فقد تكون رغم أنها اختلافات حاسمة تلبس أشكالاً مألوفة عنده، وهذا هو في نظري ذو آثار سيئة على الفهم والتفاهم أكثر من أثر عدم الفهم حيال ظواهر جديدة تماماً لا عهد للملاحظ بها من قبل لا شكلاً ولا مضموناً. والسبب هو قاعدة لاحظتها من تجاربي ولعلكم لاحظتموها أيضاً في ما مر بكم من تجارب، وهي قاعدة أراها قيمة سأصوغها هكذا: (إن "عدم الفهم" خير ألف مرة من "سوء الفهم")، ومعناها أنك حين "تعلم أنك لا تعلم" بشيء فهذا خير من أن تظن نفسك عليماً به وأنت في الحقيقة لا تعلمه!. ففي الحالة الأولى، حين تكون عالماً بجهلك بالشيء يمكن أن تبحث عن حقيقته، أما في الحالة الثانية، أي حين تكون "تظن نفسك تعرف" وأنت لست كذلك، فستبقى على جهلك وستبني أفعالك على أساس مغلوط. و القارئ سيرى مثالاً على ذلك في الجزء الأخير من هذا المقال.
وهذا كله حديث يطول، وقد أعود إليه في المستقبل إن شاء الله ففيه الكثير من المفيد الذي يستحق الذكر، ولأختم هذه الملاحظات بأن الناس يختلفون فيما بينهم بوجهة اهتمامهم، ومن الأمثلة في التراث على ذلك أن أحد أسلافنا (ولعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله) سأل قادمين من مصر عنها فقال واحد منهم: هم أهل قرآن وفقه! وقال آخر: هم أهل لهو وقصف! وقال ثالث: هم أهل تجارة!، ولما استغرب هذا الاختلاف في تقويم سكان بلد واحد قال له رجل مجرب: "إنما ذهب كل منهم إلى نظائره وأشباهه وأصحاب هواه!، فقد توجه صاحب القرآن والفقه إلى حلقات العلم في المسجد، وذهب صاحب اللهو إلى حيث يلتمس اللهو، وذهب التاجر إلى السوق وعاشر التجار!. وقد حدثني بعض الأجانب ممن زار مدينة دمشق فقال: ما أكثر بنات الهوى فيها! قلت له: افرض أننا وضعنا قرصاً من العسل في موضع فاجتمع عليه النحل من كل الأنحاء، أيجوز لنا أن نحكم على هذا الموضع أنه لا يوجد فيه إلا النحل! حضراتكم تبحثون عن الرذيلة فيجتمع عليكم أهلها! وهذا لا يعني أن البلد ليس فيه إلا أهل الرذيلة!. ولعمري لقد أخطأت في تشبيه هؤلاء الساقطين بالنحل وتشبيه هؤلاء الزوار غير المحترمين بالعسل، وكان الأحسن أن أشبههم بالقمامة وأشبه من يجيء إليهم بالذباب!.
على أن كل ما تقدم من قول كنت أريد منه أن يكون مقدمة لموضوع أهم، يشغلنا نحن العرب في سياق تحرّقنا الكبير لتلمس سبل الخروج من حالة الهوان التي نحن فيها بسبب الفرق الكبير في القوة والسطوة بيننا وبين بلاد الغرب، ولا سيما منها تلك الظالمة أمريكا.
أردت أن أبحث في السؤال: بم يختلفون عنا؟ و|أنا أعرف أنه سؤال سالت في محاولة الإجابة عليه أنهار من الحبر واستهلكت أطنان من الورق، ولكني رأيت أن أضيف بعض الإضافات الشخصية المتواضعة التي لاحظت أن المفكرين يهملونها، رغم أنها هي الأكثر مباشرة، وأنها ربما تكون هي الأنفع من حيث أنها تخص ميادين "نقدر عليها"، ولو نظرياً، بخلاف الميادين التي يتطرق إليها عادة أهل الرأي عندنا وتخص ميادين صعبة من نوع "التطور الصناعي" أو من نوع خاص بالمثقفين عندنا وهو "الانقلاب الحداثي"، وهذا الأخير انشغل به كثيراً صاحبنا الذي أقدّره كثيراً ويرى اسمه القارئ المحترم يتردد كثيراً في كتاباتي وهو ياسين الحافظ، فياسين صادر على أن "في أساس الطائرة يكمن ديكارت"، ومعنى هذا القول أن العرب إن لم يمروا بالمراحل الفكرية التي مر بها الغرب، والتحولات الفلسفية التي تقلبوا بها منذ أربعة قرون أو يزيد، فلا فرصة لهم في تجاوز الاختلاف الحاسم بيننا وبينهم، مما يجعل المسألة شبه مستحيلة الحل، وإن يكن هو ،والحق يقال، حاول "تسهيل" هذا الشرط التعجيزي، بأن قصر التحول المطلوب على الشريحة المثقفة في المجتمع "الإنتلجنتسيا" ولم يطلبه من كل أفراد المجتمع.
سأتقدم بملاحظاتي عن الاختلاف السلوكي بيننا وبين المجتمع الغربي الذي أعيش فيه منذ بضعة عشر عاماً وهو المجتمع الألماني، مع الملاحظة أن هذا المجتمع يختلف في بعض جوانبه عن مجتمعات غربية أخرى، وليس من الضروري أن تنطبق على إنجلترا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية الملاحظات نفسها التي تنطبق على ألمانيا. وأزعم أننا بمقاربة الاختلاف من منظور الفرق في السلوك، نضع بين أيدي أفراد مجتمعنا مهمة تغيير سلوكهم الذي أسميه "سلوكاً انحطاطياً" ما دام ينتج عنه الانحطاط الحضاري، وذلك بأن نقدم لهم نموذجاً مختلفاً للسلوك، وهذه المقاربة العملية قام بها في اعتقادي مثلاً عالم الاجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر حين رد الاختلاف الغربي في نهاية المطاف إلى ما سماه "العقلنة Rationalisierung"، واقترحت في مقال سابق أن نقارنها بمفومنا التراثي لمصطلح "الحزم".
وفي رأيي أن مقاربة ياسين الحافظ الفكرية كانت كما قلت تصعب الأمر على المجتمع العربي، أمر تجاوز الهوة بين مجتمعنا والغرب، حتى وهو يقصر التغير الفكري المطلوب على شريحة صغيرة هي كما قلت الشريحة المثقفة، ذلك أنه يطلب من هؤلاء المثقفين "انقلاباً فرنسياً" كما يمكن لي أن أقول، إذ أن ياسين يظن أن الحداثة لا يمكن أن تكون إلا كما هي عليه في المجتمع الفرنسي، وهو يفعل ذلك بلا أي محاكمة نقدية ولا محاولة لدراسة الفروق التاريخية بين المجتمعات الغربية نفسها، ناهيك أن ينصرف لدراسة تجربة في الحداثة ناجحة جداً ولا تتفق مع مقولاته وهي تجربة مجتمع بعيد جغرافياً وعرقياً عن الغرب، وأعني بها تجربة المجتمع الياباني. طريقة ياسين الحافظ لو نجحت مرحلتها الأولى، وهي تحويل المثقفين، فلن تنجح مرحلتها الثانية وهي نقل البرنامج التحديثي إلى المجتمع كله، بل كانت ستقود إلى عواقب وخيمة . منها الاستبداد وربما أقول الفاشية، وهذا السيناريو التخيلي على أنه لم يتحقق بنفسه، ولكن تحققت بعض عناصره على الأقل في بلاد عربية كثيرة.
في المقال التالي سأذكر ملاحظاتي على الفروق السلوكية بين سلوك مواطننا العربي في سوريا بالتحديد، وسلوك المواطن الغربي في النموذج الألماني وهو نموذج المجتمع الذي أعيش فيه.