الشورى هي الجسم الذي تتجلى فيه إرادة الأمة ووحدتها ([1])، والشورى ليست هي "الديمقراطية" كما يعتقد بعض المتمسحين بالثقافة الإسلامية المعجبين بتخوم حضارات شاخت وأفكار وهنت، إنما هي مبدأ إسلامي نبت في تربة إسلامية وأصله إسلامي، عكس الدَّمَقْرَطة التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، لا ذكر للآخرة فيها ولا للشريعة. ولعل من الخطورة بمكان أن نستعمل مصطلحات نبتت في غير أرض الإسلام،
ونعرض عن بيان القرآن والنبي العدنانr.
الشورى لابد أن ندرجها في سياقها القرآني، لا كما يفعل البعض يعزلونها عن سياقها، فتفقد معناها يقولون ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ كمن يقول ﴿ويل للمصلين﴾ ثم يسكت.
وها هنا سر دقيق لا يتم حديثنا إلا به ؛ « إنما تكون الشورى شورى لها حُرْمَة الاسم وحقيقةُ المعـنى إن توفر في المتشاورين مجموع شروط بعضُها يكمل بعضا، ويؤسسه، ويُسنِده، ويسبقه، ويلتفت إليه. هذه الشروط أخلاقيات في الأفراد، وعقيدة، وسلـوك عملي تتداخل لتعطي للوَلاَية بين المومنين التي فرضها الله عز وجل مضمون الأخوة الجامعة ومدلولها السياسيَّ ورباطها التكافليَّ وعِمادها العَدليَّ.»([2])
سياق الشورى هو قوله جل وعلا :﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ (الشورى:36-39).
وردت الشورى في سياق شروط تسعة أولها الإيمان وآخرها الانتصار على البغي، فإن عزلتها من سياقها ضاعت الشورى وأصبحت دَمَقْرَطَة غافلة عن الله وذكره والدار الآخرة.
فالسياق الذي يندرج فيه حكم الشورى في الإسلام، كما بسطه ربنا تبارك وتعالى لنا في الآية المذكورة من سورة الشورى، يسير على منهاجه مومنون ومومنات :"
1- أيقنوا بعد أن دخل الإيمان في قلوبهم، واستَقر وتوطّن، أنّ ما يُوتاهُ الإنسان في الحياة الدنيا إنْ هو إلا متاعٌ، رحلةٌ موقوتة، بعدها موت، وبعد الموت حياة.
2- أيقنوا أن ما عند الله في الدار الآخرة خير وأبقى. واليقين لا يتولد من التعقّل الاستدلالي الذي يهدي من وفقه الله إلى اعتقاد أنه لا بد للصَّنعة من صانع، وأن وجود الخالق واجب حتم. يرفض هذا العقل المستدل الموفق أن يتصور أنَّ الإحكام المذهل في نظام الكون ما هو إلا نتيجة صدفة أو سلسلة صدفات تتابعت على مدى بضعة ملايير من السنين.(...)
الاعتقاد الاستدلالي خطوة نحو الإيمان. ما هو الإيمان حتى يخضع العقل المستدل لما جاء به الوحي. ومعنى الإسلام الخضوع والاستسلام. فإن خضع للوحي لا يُعرف خُضوعه إلا بالامتثال لما فرض الله على عباده المومنين. وبذلك ينخرط المسلم العاقل المستدل في أمة المومنين الذين يَعنيهم حكم الشورى، ويناط بهم حكم الشورى ويتكون من ولائهم لله ورسوله ووَلايتهم فيما بينهم سياق الشورى.
3- أيقنوا، وآمن معهم الوافد العاقل المستدل بعد أن ربط الرأس بالقلب والاستدلال العقلي بالضرورة الفطرية، أن ما عند الله من خير في الدار الآخرة يناله المتوكلون على الله. وهم العاملون المجاهدون بترتيب الأسباب التي وضعها الله في الكون، وبإعداد الأسباب، وبالإقدام على المهامّ الفردية والجماعية بثقة في نصر الله، تتجاوز نتائج جهودهم نطاق الأسباب.
4- كفُّوا عن الآثام والموبقات والفواحش. فهم متطهرون، إن ارتكبوا صغيرة من الذنوب استغفروا، فكان استغفارهم رجوعا إلى الله ودليلا على الثقة في رحمة الله. لكنهم يتحاشون كبائر الإثم، ويتعاونون على حصار الآثمين، يأمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر. وذلك مُناخ أخلاقي تتعبأ فيه قوى كل المومنين والمومنات ليشاركوا في الحياة العامة، ويعتبرون قضايا الحكم من قضايا الدين، والمشاركة المخلصة في إقامة حكم شوريّ نظيف قُرْبَة وعبادة.
5- مَلَكوا زمام أنفسهم فلا يَستفزهم الغضب الفردي على تصرف ظالم. ولا يستفزهم الهِياجُ السياسي على إيقاد الفتن العنيفة على المسلمين. ما بين العنف الغاضب الهدام والقوة المطمئنة البانية المتّئدة هو ما بين الثورة الرافضة الكاسرة والاقتراح المعبِّئ للجهود، المتسلل إلى القلوب حتى يستَأْلِفَها، وإلى العقول حتى يقنعها، وإلى القوة المتناثرة حتى يصنع منها آلة بناء وسفينة نجاة.
6- استجابوا لربهم استجابة كاملة متوكلة. فهم يعبدونه في الصلاة والزكاة فرضا، وفي فعل المعروف والأمر به واجتناب المنكر والنهي عنه ومنعه شرطا، وفي التطوُّع الإحساني وبذل الخير فضيلة ونفْلا".([3])
7- وأقاموا الصلاة: "الصلاة عماد الدين. الصلاة صلة العبد بربه، الموقوتة خمس مرات في اليوم والليلة.إقامتها إقامة لفسطاط الدين، وطرحُها واطِّراحها هدم للدين.
لئن كانت الشروط الستة السابقة من سياق الشورى أكثرها مما تخفيه الصدور من عدم الاغترار بالدنيا، وطلب ما عند الله في دار البقاء، والإيمان، والتوكل، فإن الصلاة عمل ذو أركان ظاهرة تؤدى المفروضة منها على ملإٍ من الناس في المسجد.
يمكن للمنافق في الشورى، المُدَلِّس في سياقها، أن يغشى مساجد الله ويركع مع الراكعين فيما يُبدى للناس. ويمكن للديمقراطي المنافق في الديمقراطية أن يحافظ على بعض شكليات الديمقراطية ليختان فيما تقتضيه الديمقراطية من نزاهة، ومشاركة واعية، وأمانة، ووفاء بالوعود.
نفاق بنفاق. ويفتضح المنافق في الصلاة برداءة أخلاقه وخيانة أمانته، كما ينفضح منافق الديمقراطية بتزويره وخيانة أمانته، ورداءة أدائه. فإن "تخليق" الديمقراطية مطلب مُكمّل، ليس شرطا أساسيا كما هي الأخلاق الإيمانية في سياق الشورى".([4])
8- وأمرهم شورى بينهم: وبعدما تحدثنا عن البنود السبعة الأولى نصل إلى البند الثامن في سياق الشورى " بعد أن فهمنا البنود السبعة السابقة على أنها اختيار حياتي والتزام بين ذمم مسؤولة في موقف أخروي تومن به، بل توقن، وتتهيأ، ويعمل المومن والمومنة في أداءِِ واجباته فردا وواجباته العامة استعدادا ليوم لا ريب فيه. ذلك اليوم وموقفي فيه أمام الخالق الدّيان سبحانه هو أمر حياتي. أي أهم شأن من شؤونها. الأمر في العربية هو الشأن المُهم.(...)
هذا الأمر العظيم، مصيري إلى الله ومقامي عند الله يهيمن على سلوكي فلا أتحرك إلا استجابة لربي، وبنيّة صالحة مخلصة، وباستقامة على ما أمر الله ونهي. بنيات صالحات لا بأمنيات طامحات.
هذا الأمر في شؤون الحكم يسمى شورى".([5])
فمجتمع العمران الأخوي المنشود عماده على صعيد القلب محبة الله ورسوله والمؤمنين، وعماده على صعيد الفكر والرأي والفهم والسياسة الشورى. قال ربنا تبارك وتعالى: ) وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( (آل عمران: من الآية159).
9- وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ: "الإنفاق مما رزقنا الله. هو الزكاة أساسا يكملها الإحسان إلى الناس وتكملها الصدقة. هو العدل في قسمة الأرزاق. هو التكافل الاجتماعي. ونرجع إلى الموضوع إن شاء الله.
10- مقاومة البغي والظلم والتحكم في مصائرنا دون رضانا. هذه الخصلة الشريفة تجمعنا مع الفضلاء الديمقراطيين، وتصلحُ رباطا وثيقا، ومقدمة لاندماج المختلف، وانسجامه، وتعاونه.
خصلة شريفة واحدة مغروسة في نفوس كل الأحرار، من بين عشر خصال هي خصال السياق الشوري. فمهما كانت مرتبة الإباء وكراهية الظلم والظالمين ومقاومة البغي والباغين، فهي لا تعدو أن تكون في الحساب العددي جزءا من عشرة أجزاء. وهي بالحساب السياسي والمواقف النضالية مؤهل رئيس لو كنا مجرد ديمقراطيين وطنيين مناضلين". ([6])
جَرِّد الشورى من سياقها المذكور أعلاه، «وأَخْرِجها من مائها، فإذا أنت تُزور، وإذا أنت تُلبس اضطراب الناس في تنظيم المجتمع والدولة لباس كذب إن نعتته بالإسلامية. لا يكون التداول شورى، ولا الدولة دولة القرآن حتى يكون ما عند الله مطلب المومنين المتشاورين، حتى يكون التوكل على الله سبحانه ذخيرتهم، وحتى يكون اجتناب الإثم والفواحش قضية عامة يتناولها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنقد والملاحقة والمحاربة، وحتى تكون الأخوة والمحبة وكظم الغيظ والتسامح لحمة المجتمع وسداه الشريعة، وحتى تكون الاستجابة لله ولرسوله الباعث المنهض، وحتى تكون إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله مادة العدل والإحسان، وحتى يكون التناصر على بغي الباغين وعدوان المعتدين وتحرير أرض المسلمين بالجهاد الدائم برنامج الدعوة، ومخطط الدولة».([7])
وهنا قضية قد يكون من الأهمية بمكان معاودة التأكيد عليها، وهي أن في سياق الشورى نجد واجبات وفضائل متحدة وملتحمة، ذلك أن الله جل وعلا أدرج مبدأ الشورى بين تسعة فضائل واجبة تميز تفكير المؤمن وعاطفته وسلوكه وأخلاقه، عن تفكير المنحرفين والضالين والكافرين، وتميز المجتمع المسلم في سلوكه وأخلاقه عن المجتمعات اللاييكية "Laicismo" المادية.
ولأهمية هذا المبدأ نجد في القرآن سورة باسمه «سورة الشورى»، ونجد النبي r يستشير أصحابه في محطات كثيرة في غزوة بدر وأحد والأحزاب وغير ذلك، كذلك في عهد خلفائه الراشدين كان هناك مجال واسع للشورى، بدء من اختيار الخليفة وانتهاء بالعلاقة التي تربط الراعي بالرعية.
ونظام الشورى في الإسلام يمتاز بأنه يضع للشورى حدودا لا تتعداها، فعقائد الإسلام الإيمانية، وأركانه العملية، وأسسه [الخلقية]، وأحكامه القطعية –وهي المقومات إنسانية التي ارتضاها المجتمع وأقام عليها نظام حياته- لا مجال فيها للشورى، ولا يملك برلمان، ولا حكومة، إلغاء شيء منها؛ لأن ما أثبته الله لا ينفيه الإنسان، وما نفاه الله لا يثبته الإنسان".([8])
)وأمرهم شورى بينهم( "تشير إلى تراضٍ عام بين مومنين، وإلى اندماج عاطفي قلبي إيماني. ثم إلى أمور وشؤون تابعة للغاية الأخروية يتشاور فيها، ويتراضى على الرأي الأسَدِّ". ([9])
لكن الذي حدث، بدءا من الانكسار التاريخي([10]) الأول ذلك الانحراف الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية الذي تحول فيه أمر الأمة من خلافة راشدة إلى ملك عاض([11]) وجبري([12])، وافترق القرآن والسلطان وانفرم عقد الأمة، مرورا بإحلال القهر والاستبداد مكان العدل والشورى، وصولا إلى التفرد بالسلطان بعيدا عن شورى الأمة، وغيرها من المعطيات المنافية لروح الإسلام وشريعته الغراء، جعل الأمة في أمر مريج ووسط بحر هائج وأمواج متلاطمة... وتحول ذلك العمران الأخوي الذي وضع دعائمه المتينة سيدنا محمد r وسار على منهاجه خلفاؤه من بعده، إلى فرق وطوائف ومذاهب تتطاحن بينها. ورُغم هذه الفتن الحالكة، والخطوب العظيمة، فإن أمل الأمة في غد الإسلام الذي يعاد فيه بناء العمران على منهاج خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
[1]- سنة الله، الإمام عبد السلام ياسين، مطبوعات الخليج العربي، تطوان، ط2/1426هـ-2005، ص309.
[2]- العدل، ص554.
[3]- الشورى والديمقراطية، الإمام عبد السلام ياسين، ط1/1996، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ص11-16.
[4]- الشورى والديمقراطية، ص18-20.
[5]- الشورى والديمقراطية، ص28-29.
[6]- الشورى والديمقراطية، ص38-39.
[7]- سنة الله، ص310-311.
[8]- من فقه الدولة في الإسلام، الشيخ يوسف القرضاوي، ص37.
[9]- الشورى والديمقراطية، ص36.
[10]- الانكسار التاريخي نقصد به ذلك الشرخ الكبير في جسم الأمة مباشرة بعد انتهاء عهد الخلافة الراشدة، إنه القطيعة بين زمن خلافة راشدة على منهاج النبوة قائمة على العدل والشورى والإحسان رغم بعض الفتن التي أخرجت رؤوسها آنذاك، وبين زمن الملك العاض ذلك الانحراف الخطير -في تاريخ الأمة –، وذلك السقوط الشنيع من أعلى درج الخلافة الإسلامية إلى درك الملك العاض .
[11]-الملك العاض: "الذي يعض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه مضى وولى. والمسلمون اليوم تحت القهر الجبري" المنهاج النبوي، ص5.
[12]- الملك الجبري: " أي الدكتاتوري بلسان العصر. ولهو أفظع من العاض، لأن الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم والإعلام والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني الإسلام". المنهاج النبوي، ص5. "وما سمي الملك الجبري جبريا إلا لأنه يحكم بغير ما أنزل الله، فيظلم الظلم الأكبر، وهو الاشتراك مع الله عز وجل في حاكميته". المنهاج النبوي، الإمام عبد السلام ياسين، ص250.