بداية لنتساءل ماهو العنف؟ العنف هو لغةُ التخاطبِ الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحسُ المرء بالعجز عن توصيل صوته بوسائل الحوار العادي، وحين تترسَّخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته. والعنف يبقى الوسيلة الأخيرة في يد الإنسان للإفلات من مأزقه ومن خطر الاندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق،
والعنف هو السلاح الأخير لإعادة شيء من الاعتبار المفقود إلى الذات من خلال التصدي مباشرة، أو مداورة للعوامل التي يعتبرها مسؤولة عن ذلك التبخيس الوجودي الذي حلَّ به. وهذه الوضعية نراها بصورة مكبّرة بين المعتدي الصهيوني الاستيطاني والشعب الفلسطيني المحتل. وبين الاحتلال الأمريكي في العراق والمقاومين ضده.
إلا أن العنف بقدر مايكون عشوائياً مدمراً يذهب في كل اتجاه بقدر مايكون بناءً حينما يوظف في أغراض تغيير الواقع، ولكنه موجود أبداً ولو اتخذ ألف وجه ولون واتجاه مادام هناك مأزق وجودي يمس القيمة الذاتية، ووضعية مُولِّدة للتوتر الداخلي، وبدت إمكانات الخلاص محدودة وآفاقه مسدودة.
إلا أن الأسئلة هنا تبقى مفتوحة على هذه الظاهرة. هل العنف يخص مجتمعاً دون آخر؟ وما هو مبرر الحديث عن العنف في مجتمعنا؟ هل هو وقفٌ عليه أوسمةٌ من سماته الثابتة؟ في الواقع إن ملاحظة الواقع تُبينُ أنه إذا كانت العدوانية ظاهرةً عامةً في مختلف المجتمعات، فإنها تجد في المجتمعات العالم الثالث تعتبرها الأوضح والأكثر انتشاراً والأشد عنفاً. وهذا يعودُ إلى ماتم فرضه على الإنسان في المجتمع الذي تم تخليفُه (أي جعلُه متخلفاً) من أشكال الإرهاب والقهر.
ولا شك أن بعض العلماء الغربيين الذين انزلقوا عن قصد أو دون قصد- لخدمة أغراض استعمارية استغلالية- في إبراز بشدة الصفة الدموية للعدوانية في المجتمعات المتخلفة التي احتكوا بها ولاحظوها. ولا ريب أنهم مالوا، انطلاقاً من تحيزات وأحكام مسبقة، إلى تعميم هذه الصفة على كل سكان تلك المجتمعات، حتى وصلوا إلى حد الزعم باعتبارها خاصية شبه أناسية (أي أنثروبولوجية)، عند الأقل شططاً بينهم، وخاصية بيولوجية عند الأشد شططاً في تحيزهم. وهم قد اكتفوا بهذا الشكل الصارخ للعدوانية كونه تجسد في بعض الأفعال الصادرة عن بعض الأفراد أو المجموعات وغفلوا عن كل أشكالها الخفية وغير المباشرة، كما غفلوا عن ربطها ببنية المجتمع والشرط الوجودي للإنسان واستحقاقاته في العيش المشترك مع شركائه في الإنسانية بكرامة وسلام.
لمواجهة اشكالية العنف هذه وما أثارته من توصيفات منمَّطة وتحليلات مُعمَّقة متأرجحة مابين الاتهام والتفهم لابد من إطلالة نقدية لقوانين التحديث وآلياته التي حكمت عالمنا العربي منذ قرنين تقريباً وساهمت في تغذية وتأجيج ألوان عنف غلب عليها طابع التدمير بدلاً من مشروعية البناء والتحرير.
أولاً- لاتكمن أسباب سوء صرف القوانين الوافدة وعجز استنبات الحداثة عن تحقيق الآمال المتوخاة في العالم العربي الإسلامي في الدين بذاته كما يسوق العلمانيون المحليون والمستشرقون وإنما على العكس في كيفيات التحديث والقوانين التي تحكمه والتي لاتزال منذ ماسمي عصر النهضة وحتى اليوم، مربوطة بسياسات إرادوية منقولة سواء عن الدساتير والقوانين السائدة في النظام الغربي وما لحقها من إشكاليات بنت مجتمعها أو منقولة عن قوانين وعادات ماضوية متهافتة مقابلة. فكل هذه الكيفيات التي بدت مكرسة ببنية تعضيد المصالح العامة والعمل على خلق توازن جديد وردم الفجوات القطرية المشلة للمجتمع العربي وإعادة العافية له، صارت فيما بعد مرهونة إجرائياً لتوجهات مصالح القوى الخارجية المهيمنة، باعتبار النخب الحداثوية والسلفية قامت بسحب ميكانيكي لقوانين مستلبة من هنا وهناك لفرضها على وقائع مستجدة. ولنا في تجربة محمد علي باشا أو التجربة التركية الكمالية وفي تجارب غيرها في نظم العالم الثالث خير مثال.
ثانياً- إن الامتثال بالمطلق لقوانين نموذج النظام الغربي المهيمن وما يقابله من نموذج سلفي استعادي بوصفهما نمطين معروفين جاهزين في حلبة الصراع، والتعصب لهذا أو ذاك، فكراً وممارسة، هما اللذان يحبسان كل إمكانية للتنمية الثقافية الفعالة في الداخل، ويجهضان كل احتمالات لنشوء عقلانية منتجة متفاعلة مع الحاجات الحيوية ومع التطلعات النهضوية الحرة للسكان المحليين(1).
هذا الانحباس هو الذي كان وراء مانشاهده اليوم من انشطار المجتمع العربي الإسلامي إلى معسكرين متنافرين ومتناحرين حداثوي وسلفي حتى ولو توسطهما معسكر توفيقي ولكن غير فاعل بعد، المعسكر الأول على قلته لايزال يرى في النموذج الغربي وقوانينه مصدر حياته وملكوت قوته وجبروته. ويكمن وجه المفارقة لهذا التوجه في هذه المعادلة: بقدر ماتستعلي وتحاكي النخب الحداثوية على اختلاف تياراتها هذا النموذج، بقدر ماتتوهم بلوغها وانتماءها إلى محفل "العالمية" و "التقدم" حتى التمايز بتعميق فجوات الاختلاف عن الثقافات الأهلية المجاورة المنمطة بالبداوة والتخلف والبدائية يعني لهذه النخب معياراً لتفوقها وحضاريتها. لقد أفضت الأمور إثر لك إلى اصطناع فروقات عرقية وصراعات إقليمية مابين الدول التابعة، ثمرة التقسيم الاستعماري حتى وصلت إلى تهديد سيادة كل دولة، لابل حقن مجتمعها بالعنف الآيل، آجلاً أو عاجلاً، إلى الانفجار في حال عدم تدارك هذا العنف وتقنينه واستثماره بالتنمية السلمية الديمقراطية والتحرير.
وأما المعسكر الثاني فقد راح تحت وطأة الاحتقان النفسي الاجتماعي وانسداد الآفاق عليه يستجير بشرائع الدين من موقع الدفاع السلبي راجياً أن تكون ملاطاً يعيد اللحمة للجماعة، وحصناً أخيراً يقيه من مزالق التمزق، وبلغت بالبعض حالة الانطواء والاستغاثة بالأولياء أو القديسين والاحتماء بالنصوص المقدسة بطريقة متزمتة مصنمة، حتى بلغت ببعضهم الآخر إلى توسل الإرهاب الاجتماعي ضد دولهم باسم الدين كما يحصل حتى اليوم على سبيل المثال في الجزائر وفي مناطق أخرى في العالم العربي والإسلامي، أو توسل العنف العشوائي للتصدير الخارجي كما حصل ابتداءً من عقد ونيف. وهو العنف الذي كان للولايات المتحدة الأمريكية مساهمة سافرة في صناعته واستغلاله وتجييره وفقاً لمصالحها وتدفيع ثمنه الباهظ ليس لمجتمعات العالم الثالث وخصوصاً العربية الإسلامية فحسب وإنما إلى دولها بذريعة أن هذه الأخيرة وراء حماية وتصنيع هذا العنف على نحو إرهابي.
إن هذا الانشطار الذي وقع في المجتمع كان وراءه المعسكر الحداثوي لأنه طرح نفسه بديلاً وقائداً للمجتمعات خلال التحديث، واستخدم القوانين كأداة للتغيير من فوق، مما جعل القوانين الجديدة في لاوعي النخب الحداثوية مرادفة للمبادئ ذاتها، أو أنها بحد ذاتها إنجاز. بذلك أصبح الحديث عن قانون مختلف يعتبر انتهاكاً للمبدأ أو أنه محاربة للإنجاز الذي تم، الأمر الذي أدى إلى تصنيم القوانين وانقطاعها عن التجاوب مع الحراك الاجتماعي، بدلاً من أن تكون العنصر الناظم للعلاقات بين المواطنين والدولة، والموازن بين الواجبات والحقوق بين الطرفين.
في الحقيقة إن النخب الحداثوية تعيش شعورين متناقضين في تعاملها مع الجماهير، فهي من جهة تنظر للجماهير على أنها تعيش حالة تخلف مزمن، مما يولد شعوراً خفياً بالاحتقار، وفي نفس الوقت فهي تعلن إخلاصها للجماهير ومصالح الأخيرة، حتى تستطيع أن تكسب ثقتها، وتقوم بحشدها خلف إنجازاتها التي لاتعدو أن تكون قواينن فوقية بحيث لاتستطيع الجماهير في كثير من الأحيان أن تفرق بين الإنجازات والأهداف.
إن النخب الحداثوية في رغبتها في عجن الجماهير بموجب الصورة التي توجد في مخيلتها تبدو في عجلة من أمرها، إذ تريد حرق المراحل، وحينما تلاحظ هذه النخب أن الجماهير تتململ من الإملاءات والقوانين الفوقية فإن ذلك لايثير في نفسها أي شك في أن ماتقوم بفرضه على الواقع هو خطأ، وإنما يؤكد لها أن الجماهير هي فعلاً متخلفة، لأنها ترفض ماهو صحيح وملائم لها كما قررته هي (أي النخب) من طرف واحد، وتجد نفسها مساقة إلى استخدام القسوة والعسف في تطبيق ماتراه من قوانين واجراءات مستفيدة من الفرق الكبير في القدرة على الفعل بين الحداثة المستحكمة بما تملكه من وسائل التسلط التي ورثتها عن المستعمر أو اشترتها منه وبين الجماهير.
لكن هذا الفرق ظاهري فقط ويتعدى القدرة المادية، لأن الجماهير التي عاشت قروناً من الظلم والاضطهاد قد تدربتفئات منها على كيفية التعامل مع الظروف الضاغطة والتأقلم معها والالتفاف من حولها بل واستثمارها لصالح قطاعاتها الأكثر نفوذاً وثراءً. هذه العلاقة المتشابكة القائمة على سوء التقدير وتباين القوى والخبرات التاريخية الأليمة تفرز بوجه عام أنماطاً من السلوك الاجتماعي على النحو الآتي:
أولها، وهو نمط السلوك الذي لاتزال رواسبه تفعل فعلها في لاوعي السائد والمسود، وتعود إلى فترة من تاريخ مجتمعنا ماقبل الاستعمار وخاصة في مرحلة المستعمر وتتجلى في قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سيطرتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها وعملية انهيار الإنسان المستتبع وطغيان أنوية المتسلط، حيث تكون غالبية الجماهير تعاني من حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة، فيبدو هنا وكأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأبدية لهذه الجماهير، وهذا ماتحاول قوى التسلط المعرفية والمادية الحداثوية غرسه على كل حال في نفسية هذه الجماهير ولك عبر حملة تيئيسية إعلامية منظمة بغاية قطع الطريق أمام أي تساؤل أو انتفاضة أو أي أمل في الانتفاضة(2) في الواقع مايطمح إليه المستعمر والمستشرقون والمستغربون الحاملون لأحكام مسبقة الصنع عن الشعوب المستتبعة فيما يُسوِّقونه عنها من صفات السلبية والجمود والخرافية والانحطاط ماهو إلا تسويغ وتأبيد الاستغلال والتسلط عليها، كالقول مثلاً: إنها شعوب منحطة لاتستطيع أن تعي ذاتها إلا بوعي مجلوب من الخارج، لاتستطيع أن تحكم نفسها أو تستغل إمكاناتها وثرواتها كما تروج القوى الصهيونية، ولذلك لابد لها من حاكم متسلط، ولا بد لها من الاستقواء بمستغل خارجي حليف له، يثمن هذه الثروات المهدورة(3).
تلك هي مشكلة الملاحظة الخارجية والنظرة التي تظل عائمة على السطح والتي لاتدرك سوى الظواهر الخادعة، وهي في الحقيقة مشكلة البرود الإنساني، أي انعدام التعاطف مع الإنسان الموسوم بالتخلف موضوع البحث، والنظر إليه كظاهرة مادية جامدة، إنها لم تستطع الغوص في وجدان هذه الشعوب المستتبعة كي تتلمس بذور التمرد والانتفاضة التي تنمو في أحشائها بصمت وبطء ولكن بشكل أكيد وحتمي، وحينما تعوم لحظة انتفاض المكبوت تتفجر الطاقات التغييرية التي تفاجئ أول ماتفاجئ الفئة المستحكمة داخلياً وخارجياً وتتجاوز في مداها تصورات أكثر الملاحظين الخارجيين تفاؤلاً(4)، وهذا مانلاحظه بشكل بارز في الانتفاضة الفلسطينية التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها مسخها بعد 11 ايلول إلى ظاهرة إرهابية بهدف تبرير إسكاتها وتنصيب دولة إسرائيل العنصرية القائمة على الاستيطان الإرهابي حصناً متقدماً لافتراسها وتصفيتها تحت شعار الدفاع عن العالم الحر والديمقراطية والحضارة.
ثاني هذه الأنماط وهو السلوك الذي يغلب عليه واقعياً التجاذب الوجداني، أي التذبذبل مابين التبعية والرضوخ وبين الرفض والعدوانية الملتوية، هنا يحاول أصحاب هذا السلوك الانتقام بأساليب خفية (النشل، التخريب) أو رمزية (النكات والتشنيعات) وهذا يخلق ازدواجية في العلاقة: رضوخ ظاهري وعدوانية خفية، أبرز مثل على هذه الازدواجية هو موقف الرياء والخداع والمراوغة والتملق والكذب والتضليل. هنا تغيب بالطبع أية محاولة للحوار والتواصل والشفافية بين الحاكم والمحكوم، أو بين القاضي والمتهم، وتصبح محاولة النيل من المتسلط قيمة بحد ذاتها باعتبارها نوعاً من البراعة والحق (كما يروج عن الشعب المصري). في الحقيقة إن الإنسان المستتبع المقهور متربص دائماً للمتسلط مهما كان موقعه كي ينال منه كلما استطاع، وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف، هذه الازدواجية تشكل مرحلة وسطاً بين الرضوخ والتمرد ولكن هنا أيضاً نجد أصحاب هذا السلوك يستخدمون أسلوب السيد المتسلط نفسه ويخاطبونه بلغته نفسها. الكذب والخداع والتضليل والنفاق تتحول إلى عملية متداولة بين الغالب والمغلوبين، يكفي أن نرى كيف يزين أصحاب هذا السلوك الأمور لبعضهم البعض، حتى يتم استدراج الآخر واستغلاله، ذلك الاستدراج عندما ينجح يعتبر نوعاً من الشطارة في التجارة والعمل والوظيفة وممارسة المسؤولية. وحينما يتحول العالم إلى زيف وتضليل يصبح لزاماً على كل واحد أن يلعب اللعبة كما تسمح له إمكانياته، ويل لذوي النية الطيبة، إنه لايغرم فقط من خلال صنع المقالب له واستغلاله بل يسخر منه ويحتقر باعتباره ساذجاً وغبياً… تدلنا علاقات التكاذب والتضليل على مدى الانهيار الذي ألمَّ بقيمة الإنسان في مجتمعاتنا حين يتحول إلى ضحية تضليل، فالآخر ليس مكافئاً لنا بل أداة يستغلها بمختلف الوسائل الممكنة أداة لخداعنا ولكننا في النهاية نحكم على إنسانيتنا بالتبخيس من خلال هذا الخداع.
هذه الوضعية العلائقية وما يتبعها من إحساس بالعجز أمام المصير المهدد دوماً وانعدام مشاعر الأمن تجاه تخبط القوانين الاجتماعية وتناقضها تؤدي إلى بروز مجموعة من العقد تميز حياة الإنسان المسحوق. أهمها عقدة النقص وعقدة العار مع اضطراب العيش واصطباغ التجربة الوجودية بالاحباط او الاكتئاب، وهذه جميعاً تدفع الإنسان المسحوق بدورها صوب الاتكالية النكوصية (أي العودة إلى الماضي والاحتماء بالسلف الصالح) والقدرية الاستسلامية وطغيان الخرافة على التفكير والنظرة إلى الوجود.
ثالث هذه الأنماط من السلوك، نرى أصحابه يميلون باتجاه إسقاط مشاعر الذنب والتبخيس الذاتي على الآخر، لا الآخر الخارجي المسبب والمعزز للتسلط ومقلده الداخلي، بل الشبيه الآخر أو الأكثر قهراً، وتوجه العدوانية المتراكمة متخذة طابع الحقد المتشفي. والهدف من ذلك هو تحطيم الصورة غير المقبولة عن الذات، التي يعكسها للإنسان عن ماهو أكثر غبناً منه مما يعطيه انطباعاً ولو وهمياً، بالإفلات أو الانعتاق عن مذلة القهر. وبمقدار ماتترسخ هذه النظرة عن الآخر كعقبة يفقد إنسانيته تدريجياً في نظرنا ويتحول إلى شيطان أو أسطورة شر ليس هناك التزام اتجاهها أو حرمة لوجودها بل على العكس لابد من القضاء عليها في حالة من التشفي أو الشماتة، وهو فعل يتخذ طابع القضاء على العقبة الوجودية مما يجعلنا نفهم السهولة المذهلة التي يتم فيها العدوان أو الاعتداء والحروب الأهلية اللبنانية أعطتنا خير مثال عن هذه الظاهرة المدمرة(5).
وهذا السلوك وما يتضمنه من أسلوب متوتر في التفاعل، كان بدوره مصدراً استغله النظام الغربي المهيمن والحداثيون المحليون في الداخل، حيث فسر بشكل مزور على أنه جزء من طبيعة بعض الشعوب التي عانت طويلاً من القهر، تلك الشعوب التي تم تنميطها بالدموية أو العناد وركوب الرأس أو العدوانية، ومؤخراً الإرهابية التي فسرت جميعها بأسباب عرقية أو بالطوائفية الفسيفسائية المتنافرة أو ماشابهها من التنميطات المجحفة، التي لاهدف لها سوى تبرير القمع الذي ينزله المستعمر وأشباهه في الداخل تحت شعار: إنهم لايفهمون سوى لغة القوة… اللطف لايجدي معهم… لايجوز التساهل معهم، لأنهم سيردون بالعنف والتخريب، سيتطاولون على أرباب نعمتهم… هنا نلاحظ مأزقاً آخر يحشر فيه الإنسان المغلوب على أمره، إنه ضحية عنف مزمن ومنظم، ولكن يطلب منه أن يكون مهذباً ولطيفاً ويلام على خشونته وتوتره، في الحقيقة إن مايطلب منه هو الرضوخ. ثم إن الآخرين الذين تصب عليهم النقمة وتفرغ عليهم العدوانية ليسوا الأعداء الحقيقيين. كون الصلات الإيجابية التي تربطنا بهم هي صلات تعاون وتساند وصلات قربى وصلات تعاطف نابعة من المأساة المشتركة، لذلك الحل الاضطهادي المتبادل بين الأشقاء في المصير المشترك يظل مدمراً. حيال هذا الانحباس والتدمير الذاتي، بدل من أن تقوم الأحزاب النضالية، على اختلاف تلاوينها، في ترشيد هذه الطاقات العنفية وتوجيهها نحو الانتفاض البناء والنهوض الحضاري، راحت تتراشق بالاتهامات والتخوينات والإسقاطات الإيديولوجية التصفوية فيما بينها.
رابع هذه الأنماط من السلوك هو حينما يتعذر على أصحابه الوصول إلى حل يناسبهم يميلون تدريجياً نحو التنكر لثقافتهم وهويتهم، غافلين عن نوعية التغيير الفعلي الذي يحفظ لهم مصالحهم الحقيقية ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهكذا يصبحون أناساً مزيفين أسيري المظاهر باحثين عن أقنعة الوجاهة من كل نوع، والتي يجدونها في تقليد المثل العليا والأسلوب الحياتي للمتسلط الخارجي وهم يحاكونه في الداخل، كيف ذلك؟ أنهم يحاولون بشتى الأساليب، ون خلال مختلف الأقنعة أن يجدوا هوية بديلة وأن يحصلوا على وهم الوجاهة، التزييف الوجودي وما يقابله من أقنعة يمس كل شيء في حياتهم، مثلاً يتبارون في المحاكاة العشوائية لنمط حياة المتسلط، ثقافته، موسيقاه، وسائل لهوه وترفه، أدواته وآلاته، وتقليعاته وصرعاته، كلها مجال للمحاكاة وكلها تشكل المثل الأعلى لهم. في الحقيقة كل قيم الاستهلاك والاستعراض تدخل في نطاق اهتمامهم، كل حالات الإعجاب بما هو أجنبي وخارجي تدخل في هذا الإطار، بحيث تصبح المعادلة "كل شيء فرنجي برنجي" وهكذا يقع أصحاب هذا السلوك ضحية عقدة الاستعراض، وهم إن لم يحصلوا على كل الوجاهة نراهم يجهدون للوصول إلى بعض رموزها على الأقل، مما يشكل جزر وجاهة في حياة من البؤس، وهم بالطبع لايؤخذون بقيم الخلق والإبداع والجهد طويل النفس فيما يحاكونه، بل في النتائج والآثار والمظاهر.
إن أثر الاستعراض على الفئة الغارقة فيه هو تبديد الثروة القومية في شراء سلع الوجاهة وتكديسها: السيارات الفخمة، الفاخر من اللباس والأثاث، تكديس المتاع الذي لايتلاءم مع نمط الحياة الأصلي، والذي لايتلاءم حتى مع الظروف الداخلية، تبديد الأموال بشكل استعراضي في الولائم والحفلات والأعراس. كل ذلك من أجل التمويه على خوائها الداخلي بكل مايمكن أن يبهر الآخرين ويثير غيرتهم وحسدهم، وتلعب المرأة في ذلك العالم وفي الفئة الميسورة منه على الأقل، دور عارضة الوجاهة على غرار عارضة الأزياء، ومن خلال إقبالها على شراء كل رموزها ووسائلها تتحول المرأة إلى مجرد أداة توكيد المظاهر الخادعة التي تخفي هزالاً وجودياً مخيفاً وهكذا يتحول أصحاب هذا السلوك الذين تقمصوا حياة المتسلط إلى هاربين دائمين من ذاتهم، يحلون مشكلتهم من خلال التنكر لها بدل من أن يتصدوا للعلة ويقلبوا المعادلة ويغيروا معايير الحياة. وحينما تصبح وجاهة المظهر هي المقياس تنتفي الضوابط الأخلاقية وتغدو كل وسيلة تُعجِّل بالوصول مشروعة ومبررة. بذلك يفقد القانون هيبته بالتحايل عليه واختراقه بسطوة المال، كون معادلة الرشوة والارتشاء باتت عملة متداولة للتباهي. ومن هنا يقع المواطن المستتبع المقهور في الزيف الخلقي وينخرط في عملية الاحتيال والكذب والتضليل وكلها على النقيض الكامل للتحرر من خلال التعبير الوجودي والإثراء الحياتي الداخلي، وإعادة الاعتبار إلى الإنسان الفعلي. تلك هي حقيقة مظاهر التطور السطحي التي تلاحظ في عواصم بلداننا، تلك العواصم التي تنمو بسرعة كبرى من الناحية الاستهلاكية الاستعراضية على حساب الناحية الإنتاجية التطورية.
لذلك ليس من قبيل المصادفة أن نرى المجتمع الأهلي اليوم تحت ضغوط الاستهلاكية الاستعراضية الزاحفة والمعممة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة محكوماً بوجه عام بالاستقالة الفكرية والمادية، وباستنزاف ثرواته وخراب معظم اقتصاده الحرفي والزراعي، وليس من باب المصادفة أن تحول ثقافته إلى مستحاثة فولكلورية في إطار العولمة الجارفة وشبيبته إلى شخصيات عائمة حائزة منفصمة بالازدواجية الثقافية وأسيرة متلقية لآخر الصرعات الحديثة الوافدة أو البحث عن منفى في المغتربات تفتيشاً عن مورد رزق بوهم اكتشاف الفردوس الضائع(6).
بناءً على ماتقدم أقول أن المطلوب منا اليوم للخروج من حالة الانشطار التي تفصم المجتمع العربي الإسلامي إلى معسكرين متنابذينأصولي/ حداثوي يتبادلان الإسقاطات التصفوية، هو إعادة استقراء الواقع وما يحكمه من قوانين خارجية وداخلية، من أجل اجتراح أسئلة وأجوبة جديدة تنسجم مع المسائل المطروحة. فعلى ضوء هذه المسائل وغيرها، علينا القيام بمراجعة نقدية لنقائص الردود العربية على هذه المشكلة، منذ مااصطلح عليه بـ "النهضة" بهدف إعادة النظر في طبيعة المعركة وتحديد القوى الفاعلة فيها وأهدافها ورهاناتها، وفي سبيل الوصول إلى رؤية واضحة ومقبولة لما يمكن أن يكون عليه نظام المستقبل العربي، والا أي تقاعس في هذا المضار سيؤدي إلى تأبيد وتغذية البلبلة الفكرية والقانونية في العلاقات الاجتماعية وتلغيمها بالمخاوف والنفور والضغائن المنذرة باحتمالات انفجار العنف الداخلي وتصديره إلى الخارج على نحو عشوائي كما حصل في الآونة الأخيرة. ثم إن ماجرى من تحولات بعد 11 أيلول تستدعي الحكومات العربية وقفة متأملة فاحصة للتعرف على مسؤولياتها وتحملها دون الاكتفاء بالهرولة إلى تقديم شهادة حسن سلوك للتبرؤ من تهمة الارهاب الموجهة إلينا وإسقاطها على الآخر الخارجي الذي يكيل الأمور بمكيالين. كما تستدعي الدول العربية القيام مشتركة بمبادرة التصالح والتعاون والتعاضد مع شعوبها وتفعيل القوانين واجتراح مايعززها لتكون العنصر الموازن مابين الواجبات والحقوق.
في نهاية المطاف مانحتاجه هو عقد جماعي عربي للأمن والتنمية الإقليمية تشارك فيه الفاعليات السياسية والحقوقية والإدارية والفكرية والاقتصادية كلها، على أن يحدد هذا العقد التزامات ومسؤوليات وواجبات كل طرف في إطار مشروع عمل تنموي موحد، وخطة إصلاحات اقتصادية وإدارية مشتركة لمحاربة كل أنواع الفساد والافساداللذين طالا حتى مؤسستي القضاء والتعليم ليصار إلى خلق مناخ جديد مشجع على العمل والانتاج والاستثمار. بهذه وغيرها من الإعدادات تتمكن البلاد العربية من الخروج من موقع المنفعل والضحية المستجدية للحق من الشرعية الدولية إلى موقع الفاعل في الساحة الدولية.
الإحالات
1- راجع كتابنا "نحن والآخر"، دار الفكر، دمشق. 2001 ص/77-81.
2- مصطفى حجازي، "التخلف الاجتماعي" دار الإنماء العربي- بيروت، 1976، ص/54.
3- راجع كتابنا "مقدمات الاستتباع" المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة، حرندون، عام 1996، ص/95-110.
4-التخلف الاجتماعي، مذكور ص 55.
5- راجع كاتب هذه السطور "ايديولوجيات الحداثة"، مبحث اسطورة لبنا ن الجسر، دار الأهالي- دمشق/ 2000.
6- نفس المصدر.