يشكل الفهم بمحتوى النظام اللغوي والبنائي للأفكار النقلية النقطة الجوهرية لأدراك القصد المطلوب منها على سبيل اليقين التام وليس الأحتمال الظني أو التقريبي لها,فالفكر الإنساني المنظم والمبني على قواعد معرفية وبحيثيات محددة له تعطيه صورة تشخيصية محددة الملامح والخطوط وينتظر من مكونات هذا الفكر أن يكون متسقا بعضه مع بعض على أساسية وحدوية الفكر وتكامل منهجيته الممهدة لأن يكون متجها صوب غائية معينة يستهدفها ويسعى لأجل أيجاد هذه الغائية وبالصورة التي يبنيها نظريا ويحدد لها الوسائل الكفيلة بالتحقيق
والتحقق من صوابيتها.
هذا في مجال الفكر الإنساني الذي يستند في تكوينه على رؤى وحاجات ونظم وضعية بعيدة تمام البعد عن الكمالية ولذلك نرى أن التاريخ الوجودي الزمني للإنسان يكشف عن توالي النظريات الفكرية والأفكار المجردة التي تتداعى ويقوم بعضها على أنقاض البعض كما لا يخلو التاريخ الوجودي للبشرية من بيان ذلك الصراع المحتدم بين أفكار البشر وبين النظريات الفكرية ,مما جعل الكثير من الأفكار التي كانت في ما مضى مصدر أفتننان وفخر لا تعد اليوم إلا كبقايا تدرس وكأنها متحجرات تاريخية تعرض في المتاحف وقاعات الدرس والبحث الأكاديمي.
وهناك الكثير من الأفكار والنظريات الفكرية التي كانت في يوم من الأيام محل أدانه وأنكار وتجاهل وتعرضت للكثير من المزاحمة والرفض أضحت في وقت أخر محل أهتمام وقبول وأثبت جدوى منطلقاتها النظرية ومؤدياتها التكوينية,وكان العامل الزمني هو الحكم في الكشف والتقدير ثم كان عامل الحرية والتطور عاملا للتقرير.
إن الفكر الإنساني وإن بلغ ما بلغ من درجات الرقي والتطور والأنتعاش في أجواء الحرية والتحفيز يبقى عاجراً عن الأتيان بفكر متكامل متطور قابل للتعايش مع الزمن والمكان دون من قهرية له على التبدل والملائمة مع الحولية ولا قهرية في التعاطي معه على أساس أنه الفكر الأصلح والأنسب للأستجابة للحاجات المتجددة والمستجده,ولا يمكن أن نرى فكرا إنسانيا بمعنى المصدرية لدية القدرة على التكيف مع الحدود الوجودية ويكون متهيأ ومتحفرا ولدية كل الحلول لكل المشاكل الوجودية بدأ من دقيقها بالحجم إلى أكبر الأشكاليات التي تمتد من العقل وتحيط بالوجود ثم ترجع إليه ليرى العقل أنه عاجز من التعاطي مع هذا الكم الهائل والمستحدث والضروري من حاجات الإنسان مادية كانت أو معنوية.
فالتاريخ والممارسة الفكرية بأمتداد رحلة الإنسان الأدمي من خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض شهدت صراعا وجوديا بين فكر آدم التائب وبين عدوه الدائم يتبدل الصراع ويتنوع حسب القواعد الناظمة للصراع نفسه,فمرة يتجه الصراع بين الأثنين في أحقية الوجود تجاه الأخر ومرة على أساس المسئولية في الخروج والأخراج من الجنة وأخرى ترتقي بمدايتها في هل أن وجود آدم في الجنة كان حقيقيا أم كان تخليا تعويضيا عن الأحباط والفشل في أن يكون آدم مشروعه الفكري الناجح على الأرض وتحميل عدوه مسئولية الفشل , وتفرعت من هذه الصراعات أنماط دون مستواها تتعلق بماهية الإنسان الذاتية المكونة له ومحاواة البحث عن الذات على حقيقة كونها وهم متخيل أم وجود حقيقي ضمن وجود شامل, وكان السلاح في كل هذه الصراعات مستخلصات عقلية أدراكية أستقاها من مزج الـتأمل مع الخيال مع التجربة الحسية لينتهي لبناء هيكل من المفردات الذهنية التي صاغها الضمير الحسي بجميع مؤدياته وصوره التكوينيه وطرحها من خلال اللغة بشقيها الأبجدي الكتابي أو الأبجدي الصوتي وأخذ يدافع عن هيكل أفكاره وكأنها من البديهيات التي لا تقبل المحاكمة أو المقايسة وفق عقول وهياكل ضميرية عند الأخر.
إن عملية صياغة المفردات التكوينية الفكرية وأفراغ مضمونها وفق اللغة وهو ما يسمى أعادة الهيكلة الفكرية الذهنية في ضمير الإنسان إلى هيكلة لغوية وفق منظور رمزي ناقل لتلك المفردات وأعطاءها حرية الأنتقال من أنا المفكر إلى الأخر المتلقي لابد لهذه الأنتقالة أن تأخذ صور متعددة وهي:
1. أن يكون الأنتقال مطابقا لمقاصد المفكر ووفق ما يتكون في ذهنيته فتتوحد الصورة الذهنية بين المفكر والمتلقي وهذا يسمى إحكاما في النقل,وهو أسلوب قادر على أن تكون الفكرة المراد نقلها بواسطة اللغة أو الصوت قد بلغت هدفها بالصورة المثالية.
2. أن يكون الأنتقال تصرفيا من المتلقي وفق مقدماته هو وليس وفق المفردات التكوينية للمفكر,فهو يتلقاها على أنها صور ذهنية قابلة للألتقاط من زاوية هو يحددها أو تنطبق مع زاوية ميله الفكري,وفي الصورة هذه ليس من الضروري أن يكون هناك تطابق بين أصل الفكرة وبين صورتها عند المتلقي,وقد تختلف الصورة أصلا لأن المفكر عندما أفرغ مفرداته الذهنية وفق قالبها الأبجدي تصور لها صورة أراد لهذه الصورة أن تنطبق في ذهنية المتلقي كما يريد هو وليس كما هو حاصل,فيعد بذلك أن الفشل يعود لسبب من:
· فشل من المفكر في صب الفكرة في قالبها الأبجدي المناسب الذي بدوره يكون قادرا على أبلاغ الصورة الذهنية كما يريد المفكر.
· فشل الأبجدية بأحتواء وصياغة الفكر من خلال القصور في الوسائل والأساليب المناسبة والقادرة على التصويل ,ويعود سبب ذلك لعدم قدرة الأبجدية على التفاعل مع الجديد وعدم قدرتها على الأستيعاب اللازم للصور الذهنية للمفكر.
· فشل المتلقي في أدراك ماهية القصد الفكري للمفكر لعلة من العلل المسئولة عن الفهم والأستيعاب والأدراك أو ضعف في قابلية ممارسة التلقي أصلا أما لكون الأبجدية لم تساعده على الفهم والأدراك أو كون الفكرة أساسا نقلت إلية بالمتحسسات الذاتية ليس كما يريد المفكر.
3. أن لا يكون المفكر قاصدا أن تكون الصورة الذهنية عند المتلقي بالكيفية التي هي في المكونات الذاتية الذهنية لدية وإنما أراد طرحها ليفهمها من يفهما بموجب ما يترسخ بذهنه من صورة قد تكون مطابقة أو تقريبية أو حتى مخالفة وقد تكون أكثر من ذلك أن لا تترك أثرا ذهنيا في ذهن المتلقي,وهذا ما يطلق عليه فكريا عبث ونفسيا هذيان وكلا المصطلحين أشارة إلى الفشل في أن يكون للفكر هدف وبذلك يخرج من كونه نشاط إنساني ذي غاية دافعة نافعة للوجود الكوني وتتحول بذلك إلى أن تكون لغوا غير حقيق أن نسميه فكر إنساني.
إن بيان القصد ونجاح اللغة والأبجدية الصوتية في نقل الأثر الذهني بين الفرد والأخر أو بين المفكر والجماعة وبالصورة التي يريدها المفكر وبالطريقة الذكية والمناسبة ومن خلال أستخدام الوسائل المناسبة في حالات متناسبة مع القصد والهدف ووفق رؤية متكاملة وواحدة,ينجح من خلالها المتلقي بأستلام الرسالة الفكرية كما صيغت في ذهن المفكر وسار بمقتضاها فكريا.
إن أهمية أن تصل الأفكار إلى المتلقي بموجب قصد المفكر هو حجر الزاوية في تطبيق المقدمات الفكرية والمنطلقات النظرية لها مع الممارسة على الواقع الوجودي,فيكون العمل بالأفكار مناسبا ومتسقا مع روح الفكرة وقصدها الغائي,وبخلاف ذلك لابد أن نشهد فصاما بين أسس الفكر وبين الممارسة التي قد تبتعد أو تقترب من أصل الفكر بقدر ما ولكن من المؤكد والمحتم لا تتطابق مع القصدية الأصلية,فينشرخ الفكر حسب التطبيقات إلى شروخ عديدة قد تسبب بتفرق وأفتراق عن روح النظرية الفكرية والأبتعاد عنها ,منشئةً لها خط نظري أخر ليس هو بالتأكيد الخط الأصلي الذي أنطلقت الممارسات العملية منه لتحقيق غاياته وهذا يفسر الأختلاف الفكري بين التيارات الفكرية التي تنطلق من نظرية واحدة بقصد واحد لتصل في النهاية إلى عالم متعدد الأفكار المتناقضة والمتصارعة فيما بينها وقد كانت واحدا في الأصل.
إن الأشكال التبعي بالصورة التي صارت إليها الممارسات العملية لا يمكن أصلاحه إلا بالرجوع إلى فهم القصد بمقام اليقين التام من كونه هو القصد ومن ثم تقويم الممارسات على الأسس الأصلية والتراجع عن كل الأجتهادات التي أبتعدت عن القصدية الأصلية بأجراء المقايسات العملية وتحكيم أصل وجوهر وروح القصد من الفكر أو الفكرة والبحث عن هذه الجوهرية من بين رؤية كلية متكاملة لها,وليس من خلال ما أرى أو أنطلق من مقدمات أنا متمرس على أستعمالها بمقاصدها وأسقاط هذه المقدمات على مباني لغوية أو صوتية صاغ بموجبها المفكر القصد الفكري لكي أكون مجردا تماما من ذاتيات المتلقي والأنطلاق من نفس مقدمات ومفردات التكوين الذهني لصاحب الفكرة أو من أتى بالنظرية الفكرية,وهو ما يمكن أن نسميه النظر بعين وعقل وفهم وإدراك المفكر لنعيد رسم الصورة الذهنية في أدمغتنا نحن المتلقين لها.
إن الأشكالية الجوهرية في أنتقال روحية النص من المبدع المفكر إلى المتلقي تكمن في الخلل في الأجتهاد الموصل إلى البحث عن روحية القصد وحقيقته التي أراده المفكر,وتمثل الحلقة الأولى في سلسلة من الأنحرافات التي تجر مفردات الفهم نحو الأبتعاد عن المنطلقات الفكرية الأساسية وبالتالي فأن الأجتهاد في فهم النص يتحمل وزر هذا الأبتعاد وألأفتراق عن حدود البناء الفكري وقصديته الأصلية.
نحن لا نعتقد بأن التطور والتحديث والتجديد الذي يرد في هيكلة الفكر له صلة بالأنحراف عن القصدية المطلوبة طالما راعت العملية التجديدية والتحديث خصوصية القصد الفكري وتقننت به لا على أساس التزمت والتحجر ولكن على أساس وحدة الفكر ذاته وقدرته على التماثل مع التجربة العملية ونتائجها في بلوغ القصد الفكري ذاته,وهنا تكمن أهمية أن تكون الوسيلة الناقلة للفكر بشقيها قادرة على إيضاح ومتابعة المنطلقات الفكرية وأسس الفكر المبتدع نحو القصد دون خلل بنائي أو تفصيلي قادر على ذلك, وبمقتضى حتمية تحقيق القصد وإلا سوف نكون أمام العبث في الفكر ذاته وجره نحو الأبتعاد عن المدار الذي وضعت فيه النظرية الفكرية سيرها وصيرورتها.
إن أزمة النظام البنائي الخارجي للفكر في تعامله مع المنطلقات الفكرية يعتبر المشكل الأول في تناقض الفكر مع الممارسة على أرض الواقع,ومن خلال التجربة الإنسانية على مر الزمن التاريخي للوجود الكوني كانت الكثير من الأفكار والنظريات الفكرية تنحرف عن أتجاهها القصدي الخاص نتيجة للخلل في البناء التكويني للأطار الخارجي لها, بسبب من مطاطية هذا البناء فيستوعب بذلك القصد وخلافه المناقض دون معيار دقيق محدد ومانع من أن يتمايع ويتمدد الفهم على مساحة واسعة من الأحتمالية والتأويل المؤدي بدوره إلى أمكانية تصرف المتلقي بالمحتوى الفكري بموجب قواعد الفهم الخاصة به وعدم أهتداءه للقصد المحدد,أو أن يتجمد البناء الخارجي للفكر ويتحجر في قالب مادي غير قابل للأنصراف نحو الصورة الشاملة والأكيدة للنص فيعيش المنطلق الفكري والغائية القصدية في أطار حجري غير قادر للتكيف مع التجديد والتحديث اللازم لمواجهة متطلبات التجربة وضرورياته الحتمية فيموت الفكر بها ميتة جبرية,ومن كلا الصورتين المنحرفتين ينتج منها تناقض القصدية الفكرية مع هدف الفكر ومن بواعثه العامة والخاصة كطرف وبين النتائج العملية للتجربة المادية كحقيقة ملموسة من الطرف الأخر,فهنا يأتي دور المجتمع المتلقي للأنتقاء والتقرير بين خياراته على أساس من قابلية الفكر في الأستجابة لظوابطه ولكن ليس على أساس الضوابط الأصلية ومنها القصدية الذاتية للنظرية الفكرية,فنكون أمام مشكلتين كلاهما يتعلق بصدق الأجتهاد وأصالة النتيجة وفقا لقصدية الفكر ,الأولى في خلل الأجتهاد والثانية في أزمة النظام البنائي الخارجي المادي للنظرية الفكرية.
لقد شكلت الفلسفة والتأمل الفكري المجرد أول المحاولات الجادة للتغلب على الأشكالية المعرفية هذه وقد نجحت في حالات ولكن من المؤكد أنها فشلت في الكثير من الأختبارات في التغلب عليها,أما بسبب كون الفلسفة والفكر عطاء فكري إنساني ينطلق من ضمير العقل ذاته فهو يحتمل ذاتيا ميلا نحو الأنتقاء الأيجابي الموافق لضمير الإنسان وهذا الضابط ليس كافيا لوحده وليس ناجعا في التحري عن القصدية طالما هناك ميل وهوى يحرك الإنسان المتفلسف أو المتأمل للفكر ويتعامل معه خارجيا بأعتباره قادرا على أن يُكون قاعدة بنائية تتوافق مع ميله وهواه وما تمليه عليه مقدماته الفكرية والعلمية,فهو عنده نتاج الأخر المتساوي معه في القدرة والتكوين فهو يرى بعينه وبصيرة عقله فيصدق ما يقطع به علمه وما يستقر عليه ضميره الذهني فيسير مع هذا القطع ويمضي ببناءه القطعي نحو القصد الذي أنشأه هو لا مع القصد الذي كان أصلا هدف الفكر المتفلسف له أو الذي كان محل التأمل والتأويل.
أما السبب الثاني فيتعلق بموضوعية الفكر والبناء المادي الخارجي له وما يحمل عادة من أسباب لا يمكن إلا الجزم بأنها أسباب تؤدي إلى الميل والأنحراف وهذا ما لا يخلو منه أي فكر بشري ناتج عن عقل محكوم بحدود مادية وذاتية تقصر من أفق الكلية للأشياء الحولية فهو يتحرك ضمن نطاق الزمن والمكان والمادة البدنية من جهة ومن جهة لا محدودية الكون الوجودي وأتساع أفقه بالمقارنة مع الأفق المنظور له من قبل العقل,فينشأ عجز ذاتي عن الأحاطة المحكة بالكل الكوني مقابل رغبة عارمة بالمعرفة والفهم والأدراك,وهذه الأشكالية واجهتها الفلسفة الإنسانية وهي تحاول أن تحيط بالأفق الأوسع وتضع الضابط المحكم للأحاطة فأصطدمت بجدار العقل وفشل التجربة فراحت تبحث عن مقاربات وخطوط عامة بدل البحث عن الأحاطة المستحكمة للنشاط الفكري الإنساني ,وهذه تسمى بمأزق الفلسفة الذاتي للبحث عن الكمال الفكري المعرفي.
إن قيمة الفكر تنبع من قدرته على فهم الوجود كما هو ويتعامل مع قصدية الوجود وغائية الأيجاد كونه بناء مادي حقيقي وليس متوهم من قبل العقل وأدراكاته,وهذا الفهم هو الذي يقود إلى العلم المحض الذي لا يمكن لأي كان إنكاره فالمنكر للحقائق العلمية أما متجاهل لما هو حقيقي فيكون جاهلا جهلا مركبا,أو غير قادر على مجاراتها للعجز الذاتي فيه وليس في الوجود, ومن ثم يدعي ما يخالفها وهذا يقودنا إلى حقيقتين مؤكدتين تتعلق بنوعية الفكر واتجاهاته ((إن أشياء الحياة، وظواهرها، تدرك في شعور المؤمن في سياق مركب شامل يضم أطراف الوجود كله من حيث المبدأ والغاية،والسنن الجارية فيه وفي هذا المركب الشامل الذي يضع المؤمن فيه أشياء الحياة،وظواهرها سوف يعطي كل شيء منها،قيمته الحقيقية فلا (يحقر) ولا (يصمّ).وقد نشأ في أطوار الحضارة المادية،وحتى في الحضارة المادية المعاصرة اتجاهان مختلفان، يمثلان الانعكاس الطبيعي للنظرة المادية إلى العالم.
الأتجاه المادي العقلاني المستند على قواعد العلم المجرد من شموليته ووظيفته فيركن إلى الملموس المجسد المحسوس وينكر ما سواه وإن كان مقرا بوجوده ولكنه عاجز بأدواته العلمية أن يخضعه لقانونه العلمي المادي,وقد يكون يمارس هذا اللا محسوس ويتعايش معه حقيقةً فتراه يعيش الأزدواجيه بين أدعاه وبين ما يمارسه ويعتاش معه هذه هي حقيقة الأزمة التي عاشها نيتشه وغيره من الفلاسفة والمفكرين الوجوديين حتى أصبحت سمه ملازمة للفكر الوجودي العام,هي نفس الإشكالية عند الحداثين من أمثال ديفيد هيوم وما اكتشفه من عدم ملائمة العقل الكلية لإدراك الوعي وعدم قدرته الذاتية لذلك((فالفلسفة الشكية التي أرساها هيوم بينت أن العقل -الذي تم تأليهه مع ديكارت- لا يستحق هذا المقام، لكن هيوم لم يقدم بديلا للوعي الأوروبي، وإنما أيقظه من وثوقيته العقلانية فقط، فكان بشكيته مزعزعا للعقلانية ويقينها! ألم يقل كانت واصفاً تأثير كتب هيوم فيه: "أيقظني هيوم من سباتي ألاعتقادي"!! وهي كلمة وإن كان كانت يعبر بها عن صيرورة تطوره الفكري الذاتي،فهي عندنا حلقة معبرة عن صيرورة تطور المشروع الحداثي في لحظة حرجة من تاريخه،وهي لحظة بدء مراجعة أدواته ومعاييره المعرفية.كانت لحظة هيوم بداية التشكيك في المرجعية العقلانية،ولم يكن بإمكانه أن يرسي بديلا أفضل وأوثق من العقل،فالحس الذي تعلق به هيوم يؤول في النهاية إلى العقل الذي سيصوغ المعطيات الآتية من الحواس. ولذا كان من الطبيعي لهيوم الذي شك في العقل ألا يقدم أي بديل ينأى عن الشك.لكن لحظة كانط, كانت لحظة مشروع أعمق وأوسع من تشكيكات هيوم،فقد كانت لحظة مساءلة شاملة لأرضية الحداثة سواء في ثوبها العقلاني أو في ثوبها التجريبي. والخلاصة التي انتهى إليها كانت هي أن العقل محدود،وليس قدرة معرفية مطلقة،إنه محدود بحدود عالم التجربة والظاهر,إلا أن هذا الفكرة المنهجية التي فجرها كانت,كانت إرهاصًا بضربة ماحقة للوعي الفلسفي الحداثي))( الحداثة والوعي التاريخي الغائب, الطيب بوعزة,موقع الجزيرة) .
إن الخلاصة التي آل إليها الفكر الوجودي وإن لم يعترف بها هو عجز المنهج المادي من إستيعاب القصد الوجودي للموجود الكوني وواجده لأنه في الحقيقة بنى على أجتهاد منحرف عن ذاتية الإنسان التكوينية والتي تعد الممهد الأول والقائمة الأولى التي يرتكز عليه العقل البشري في نشاطه الفكري في عملية الأجتهاد في معرفة القصدية وبالتالي فيكون الأنحراف متوقعا وحتميا طالما أننا لم نكن محيطين بأستحكام تام وهو محال على البشر عن قصدية الوجود ومداه الوجودي في هذا الكون الشاسع اللا محدود والممتد من الجزم بكونه مولود لللاشيء وينتهي إلى أبعد من الشيئية التي يحيط بها العقل من خلال الحس والتجربة العلمية والعملية.
أما الأتجاه الثاني فهو الذي يبدو في حقيقته الظاهرة أنه مناقض للأتجاه المادي بل يزعم المؤمنون به أنه هو المستحكم بالأحاطة والقادر على تفهم القصد الحقيقي للوجود وللنظرية الوجودية بشقيها المادي والمعنوي هذا الاتجاه القائم على تحقير الحياة،وتفريغها من أي معنى وهنا يشعر الإنسان بالغربة في هذا الوجود والعبث،والغثيان،والقلق المؤدي إلى اليأس والقنوط من كون الحياة الوجودية لابد أن تكون لها وجهة وقصد تسير إليه وتمضي بموجب قوانين القصد,هذه الغربة الفكرية ترى في الحياة والوجود ليست إلا توهما غير مستند إلى أرضية واقعية فلابد من أن نجتازها بالكيف والشكل الذي يتلائم مع اللحظة الزمنية وما تتداعى له الضرورة الآنية دون أن يكون للضوابط المدعاة من الأخر المعلوم أو المجهول سلطة على الوعي الوجودي الخاص.
هنا تتجلى الأزمة في أول التصور والتكوين ونحن لازلنا في بدايات التكوين ولم نتجاوز الولادة الفكرية بعد ولم نبسط الأفكار التي قدست الذات والحرية وأهملت الحقائق الكونية الشاملة بما فيها مفهوم الخالق الرب والغيب وسطوة العقل وقدرته على التحكم والتميز لمصلحة الذات الاستثنائية السوبر كما نجدها مثلا عند نيتشه وغيره من الفلاسفة الوجوديين((لقد كتب الكثير حول: »موت الرب في فكر نيتشه « فهو يقول »إن الرب قد مات وسيظل ميتا ونحن الذين قتلناه وموت الرب بمعنى ما يحرر الإنسان لكنه بمعنى آخر,يعبر عن الجانب السوداوي في فلسفة نيتشه,و يؤدي بنا إلى عصر العدميةNihilism ومن ثم فان تأكيد الإنسان لنفسه وإثباته لذاته يقوم على خلفية هي عبارة عن عالم عبثي لا معقول absurd ليس فيه اله,والقانون الذي يحكمه هو قانون العود الأبدي.وكما هي الحال في فلسفة كيركجور , فان فلسفة نيتشه تنتهي بمفارقة Paradox وهي مفارقة نستطيع أن نخمن بأنها أدت إلى دمار الفيلسوف نفسه,لقد كتب أحد شراح نيتشه وهو م. م. بوتسمان M. M. Bozmannيقول: »إن إرادة تمجيد الإرادة, إرادة الإنجاز والانتصار, إرادة أن نقول للحياة: »نعم وآمين مقرونة بعقيدة العود الأبدي الجامدة و بألوان الفشل والعذاب الكثيرة التي عاناها, كانت تسبب لنيتشه في بعض الأحيان, فيما يبدو. آلاما ذهنية رهيبة وفي استطاعتنا أن نقول أن هذه الآلام هي بمعنى ما آلام العصر وقلقه وقد تركزت في الفيلسوف, وهو أيضا ذلك القلق الأساسي المميز للوجودية))( كتاب الوجودية ,من سلسلة عالم المعرفة .جون ماكوري العدد58 ص63,62) .
إذا كان موت الرب وقيمه وأخلاقياته تسبب هذه الآلام وهذا الدمار فالعقل الذي ندعي حاكميه وقدرته بالفكر على صنع الوجود يرفض هذه النتيجة ويرفض انفصاله عن خالقه أي يرفض ادعاء موت الرب لان في الحقيقة وجوده مرتهنا بوجود الرب ارتباط جدليا بين العلة والنتيجة,فلا يكفي أن ندعي موت الرب ولكن ما هو البرهان الوجودي على ذلك فان كان ما قيل عن الآلام والدمار فهو ليس ببرهان وجودي بل هو في حقيقته أزمة إثبات وجودية متصلة بالمدعي ولم تنال من الدعوى شئ.
إذن ما يوصلنا إلى فهم الحقيقة الفكرية وجوهرية القصد هو التعامل مع الفكر على أنه كائن واحد له جزئيات صورية تتكامل من خلال النظر إليها جمعيا نظر تفسيري لكل مكون جزئي وربط الأجزاء بالبناء الهيكلي الكلي وأستخراج روحية البناء الفكري وفق نفس الأسس التي بنيت عليها ركائزها بالتجرد من تسقيط الفهم المسبق لما هو تحت الفحص والبحث وأعتبار أن كلية الفكر ستؤدي حتما إلى بيان ذاتي عن القصد,فالمقدمات تنبئ عن النتائج منطقياً ولكن المشكلة التي ستواجهنا هنا ما هي المقدمات المستعملة للوصول ألى القطع بالمصدرية.
تنوعت المقدمات وحسب الرؤية المفترضة أن تؤدي بنا للكشف عن القصد حسب الأتجاهات الفكرية السائدة في الساحة والتي لديها نظريات تزعم كل واحدة منها ملائمتها للغرض وصلاحيتها للمهمة وحسب براهينها وتجربتها الميدانية المؤمنة بنتائجها السابقة,فقد عد البعض الرجوع إلى البناء المادي الخارجي للفكر أي تحري البناء اللغوي العام والنظام الذي بنيت على أساسه وأستخراج النتائج أما من خلال التفكيك وإعادة البناء ليعيش الباحث والمتلقي نفس الأجواء الفكرية التي صيغت بها النظرية الفكرية وبالتالي يكون قد أقترب أصلا من كيفية تكوين الهيكل اللغوي الخارجي للفكر وخاصة إذا كان الباحث متمكنا من اللغة الأصلية وأدواتها التي كتبت وصيغت فيها النظرية وهذا هو المنهج اللغوي في التفسير والتأويل حسب مقتضيات البلاغة والبناء الناظم للغة.
فالمنهج اللغوي قد أثبت قدرته على فهم النصوص اللغوية المعبرة عن روح الفكرة من خلال أستعمال الوسائل اللغوية المعتادة والأساليب المألوفة في عملية الفهم والأدراك,ولكنها من المؤكد لا يمكنها الأحاطة بالمعاني من خلال فهم امعاني فحسب فالتفسير اللغوي يتعامل مع جمادات مادية بنائية ولم يقترب من الروح الفكري وإن حاول أن يستشف من خلال البناء روحية النص وقد ينجح بحدود ما وقد يفشل وذلك أستنادا إلى قربه الفكري من النظرية ومنطلقاتها وبعدها عنه كما قد ينجح أو يفشل بالقدر الذي يتجرد فيه من أسقاط المسبقات الفكرية المتجذره في ضميره الفكري ومحاولة لي عنق النصوص لتتلائم مع مقدماته الفكرية وأسقاطاته العقدية,كما حدث في الكثير من المناسبات وخاصة في محاولة فهم النصوص الرسالية والدينية .
كما أن هناك المنهج فلسفي الذي يتناول الفكر وفهمه بما فيه القصدية ونحن إذ نرده هنا ليس على سبيل الحصر وإنما على سبيل المثال في سرد مناهج المعرفة وغاياتها للكشف عن الوعي بالفكر,وهذا المنهج هو المنهج الشكي القائم بعدم التسليم بالحقائق الفكرية إلا من خلال تفكيكها وإعادة صياغة الفهم والقطع مستندة إلى حقيقة أن كل الوجود الفكري قد يكون وهما أو خيالا غير قابل للتصديق ما لم يمتحن بقواعد تؤكد مصداقيته وقدرته على الأثبات ,ومن خلال هذه العملية التشككية يستطيع المتلقي والباحث الآستدلال على القصد والغائية بدلالة التجربة ومؤدياتها ونتائجها ,فمثلا من يركب قطار متجة إلى جهة ما وهو لا يعرف حقيقة غاية الوجه عليه أن يشك أصلا في الظواهر التي تنبئ بسير القطار ما لم تمتحن بتجربة الركوب والكشف عن القصد والهدف من خلال الممارسة العملية فهو لا يقتنع بتحديد عام مثل تحديد وجهة الشمال والجنوب مثلا مالم يتأكد بوسائله العملية وبمقدماته الثابتة المبنية على اليقين أن أتجاه القطار في الوجه المعينة((الشك هو خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية عند ديكارت،وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين،إذ يقول:"الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها،سواء كانت أحكاماً فرضها الغير،من معلمين،أو مرشدين،أو من وكّل إليهم أمري،أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك))( ديكارت، د.نجيب بلدي، (ص88).نقلاً عن مقدمة مبادئ الفلسفة ص424.).
من خلال هذه النصوص يمكن القول إن الشك عند ديكارت يختلف عن الشك الذي كان سائداً قبل عصره، فالشك عند ديكارت هو شك مؤقت يقوم على عدم التسليم بالبناء الخارجي الهيكلي اللغوي لان فيه أحتمالية تعرضه لما هو غير حقيقي في الصياغة أو في الدلالة وكلاهما يولد عنده سببا كافيا لعدم القبول بما نقل إليه،فهو يدعو إلى التفكيك والمقايسة بما أستقر في يقينه هو لا ما في يقين اللغة ومن ثم يتم أعادة النظر في النتائج ومقارنتها بالمسلم الأولي,فلديه مُسَلَمَين الأول مُسَلَم اللغة وحصيلتها وهذا مشكوك فيه والمسلم الثاني هو المقارن وفق حقائق ديكارت ذاته ويقينه وهو المعتمد عليه ومن ثم المقارنة والتطبيق للكشف عن القصدية ومداها,فيكون الشك عند ديكارت شك متعلق بالحولية وليس بذات الفكر ،في حين أن الشك عند من سبقه هو الشك المطلق كما هو عند"مونتني" وفلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر نتيجة إعادة إحياء تراث اليونان وتغيير خريطة العالم.
فالشك في المرحلة السابقة على فكر ديكارت جمّد العلم، وأضعف من شأنه، في حين أن منهج الشك الديكارتي ردّ إلى العقل احترامه،إذ أن الشك الديكارتي شك إرادي يصطنعه،وهو مؤقت،لأنه يظل مستمراً حتى يتيقن الإنسان من أن أفكاره قد بلغت حداً فائقاً في الدقة واليقين،وأنه لا يلابسها أدنى شك.
إن المنهج الشكي وإن أعطى للعقل مساحة واسعة وحرية تناسب مع ضرورة التيقن إلا أنه أغفل حقيقة قصر العقل الأحاطة والأستحكام بالما حولية هذا من جهة وتجاهل الأختلافات التي يؤدي إليها التسليم بكون العقل البشري يسير وفق نمطية محددة واحدة عند كل البشر وهذا ما يخالف النسبية في التعاطي مع الأشياء بناءً على مفهوم الثابت والمتغير الكوني والفكري والمعرفي وبذلك خالفنا قاعدة بديهية من القواعد العقلية,بذلك يكون قد حكمنا على العقل بالتناقض بين مسلماته الأولية بعضها مع البعض الأخر بالرغم من تسليمنا جميعا بوحدتها وهذا وحده كاف لرفض مبدأ الشك الديكارتي في الكشف عن المصدرية وخاصة مع كون العامل الزمن والمكاني المحدد لتكرار التجارب والأمتحانات لبيان اليقين الفكري عن المقاصد والمنطلقات نفسها.
كما لا تسلم الفلسفة والعلم المجرد المادي ولا التأملات التي تنطلق من فضاءات الأستجابة للحاجات والمتطلبات البشرية بقواعدها هي في الكشف عن حقيقة مصدرية الأفكار والنظريات الفكرية,لم تسلم النظريات التفسيرية المبنية على فهم النظام اللغوي أو التفكيك البنائي للمفردات ولا حتى المنهجية القائمة على التوسل بقواعد منهجية تتمثل بأستحضار قواعد متفق عليها من خلال التراكم المعرفي والمروث الذي ثبت صلاحه في مراحل سابقة ونجح في الكشف عن غايات الفكر ومقاصده الكلية, فاعتماد المنهج الاستقرائي والإحتمال والقياس في إكتشاف المعارف الفكرية،كما هو المنهج المعتمد لديهم في الأبحاث التجريبية والمادية;وبذا اعتمدوا منهجاً علمياً واحداً في حقول المعرفة الإلهية والإنسانية والمادية معاً. ويشكِّل هذا المنهج عنصراً هامّاً من عناصر بناء العقل المسلم،وتحقيق علميته مع ملاحظة أن التطور والتحديث والتجديد قد يفرض شروطا مغايرة تماما للمنهج وأستحقاقاته لاسيما إذا كانت أساسيات الأستقراء والقياس والأحتمال غير منضبطة باليقين ولذلك فأن التعامل معها يؤدي إلى مخارج مختلفة متشعبة كعلة المناهج التي سبقته.
فلازال الأشكال موجودا مع جميع المناهج الكشفية سواء أكانت علمية أو وجودية أو تأملية أو بنائية وبالرغم من كل الأنجازات الفكرية والمعرفية لازال الأنسان يدور حول ذات المركزية التي أنطلق منها أول مرة ولم يتبلور له وعي يقيني تام وهو يحاول الكشف عن نشاط فكري إنساني محدود,فكيف به وهو ينتقل للدائرة الأوسع وهو الفكر الرسالي الألهي وما يتصف به من شمولية تامة وأحاطة مستحكمة فلا بد أن تكون الشقة أوسع بينه وبين الفهم الضروري على أقل تقدير للمقصد الفكري لهذا الفكر الثر الكامل المتكامل مع حقائق وخصائص يتمتع بها دون غيره من الأفكار الإنسانية والنظريات الفكرية الوضعية.
تبقى مسألة الكشف عن الهدفية من الفكر وبيان قصديته في أطارها الحقيقي مصدر أشكال معرفي وفكري مقترن بالعجز عن بلوغه وخاصة فيما يتعلق منه بالفكر الديني والإيماني طالما نبتعد بأدواتنا عن نفس المحددات والتي نشأت به وله ولنفس الضروريات,هذا الابتعاد هو لب المشكل وجوهر الازمة,به ومنه يمك أن نصل للمطلوب وبخلافه أو التجاوز عليها نبتعد ونتغرب عن فهم الفكر الرسالي الإيماني.
من كتابي
القصدية الحكمية وقضية التفسير القرآني_ مركز الولاية للدراسات والبحوث