مسك الختام:
إن تحت كل خَصلة من تلك الخصال -التي تربى عليها الصحابة رضي الله عنه- التي سبق ذكرها في الحلقات السابقة تندرج مجموعة من شعب الإيمان التي مجموعها كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) ([1]).
هذه الشعب عبارة عن روافد يتألف منها نهر الإيمان، بها يكتمل الإيمان، ويكون المؤمنون أهلا
لنصر الله؛ إذ لا يمكن أن نتصور نصرا بلا تربية إيمانية تطهر النفوس مما علق بها من درن الدنيا ورجس الجاهلية.
وبهذا آتت التربية النبوية المحمدية التي خضعت لسنة التدرج أكلها في بناء رجال صدقوا في محبتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، لا يخافون في الله لومة لائم، ولا تلهيهم الدنيا وزخرفها وغرورها عن الله تعالى، مما جعلهم قاعدة جهادية قوية قادرة بعد ذلك على تحمل ضغوط الوثنية عليها في فتنتها عن دينها: اضطهادا وتعذيبًا، ونفيًا وقتلاً، وقطيعة، وتجتاز الابتلاء بصمود وروح معنوية عالية نحو تحطيم النظام الجاهلي والتمكين للنظام الإسلامي بديلا عنه"([2]).
وصدق ربنا الكريم القائل في محكم التنزيل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ([3])، لما غيَّر أولئك الرجال ما بأنفسهم بفضل التربية النبوية والصحبة المصطفوية؛ فخرجوا من الجاهلية إلى الإسلام، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن البغض والحقد إلى المحبة والصدق، ومن الغفلة عن الله إلى ذكر الله والحضور مع الله، ومن ضن النفس وشحها إلى البذل في سبيل الله، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، ومن القعود والكسل واتباع الهوى إلى العمل في الكتاب والسنة، ومن الشرك إلى زُياله، ومن عادات الجاهلية إلى سمت الإسلام، ومن الغضب والاستعجال والتهور إلى التؤدة والتحمل والصبر، ومن التبذير والترف والزيغ إلى الاقتصاد وإقامة الوجه لله تعالى، ومن الأماني المعسولة والقعود والنكوص إلى الجهاد في سبيل الله تعالى ونصر دين الله U، وتبليغ رسالة دعوة الإسلام لخلق الله أجمعين.
لما غيَّروا زكت نفوسهم وتطهرت قلوبهم، غيَّر الله ما بهم، فجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين، ورفع مقامهم في عليين، وفضلهم بصحبة خاتم النبيين عليه أزكى الصلاة والتسليم ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾([4]) (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([5])،(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)([6]).
ومن أراد المزيد من معرفة ثمرة تلك التربية النبوية -الخاضعة لسنن الله تعالى في هذا الكون- لأولئك الرجال الرعيل الأول رضي الله عنهم فليستقرىء التاريخ ليرى عظمتهم، وكريم فضائلهم، وحسن تربيتهم، وجليل مآثرهم، وما بذلوه من غالٍ ونفيس في سبيل دينهم.
ويكفيهم عزا وفخرا وفضلا وشرفا ورفعة أن يقول الباري جل وعلا في حقهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)([7]).
ويقول:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)([8]).
ويقول:(وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([9]).
(كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)([10]).
هذا غيض من فيض وذرة من مجرة، من حسن تربيتهم، ومن جميل محامدهم، وكريم أخلاقهم، وصور جهادهم، وصدق محبتهم...
ولقد ظلت الأجيال المسلمة عبر القرون تستقي من معين فضائلهم، وتستضيء بنور مكارمهم، وتنهج في التربية نهجهم، وتسير في المجد سيرهم.. حتى العصر الذي انحسر فيه عن المجتمع الإسلامي حكم الإسلام، وزالت في الأرض معالم الخلافة الإسلامية.. واستطاع أعداء الإسلام أن يصلوا إلى هدفهم الخبيث وغرضهم الدفين في تحويل العالم الإسلامي إلى أمم متناحرة، ودول متخاصمة متنابزة.. تتقاذفهم الأهواء، وتجذبهم المطامع، وتفرقهم المبادئ، وينساقون وراء الشهوات والملذات، ويتخبطون في أوحال التحلل والإباحية، ويسيرون بلا هدف ولا غاية، ويعيشون من غير سعي إلى مجد ولا وحدة ولا كيان... تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وتظنهم قوة ولكنهم غثاء كغثاء السيل ([11]).
([1])صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، ح153. سنن النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، باب ذكر شعب الإيمان، ح5005.
([2]) منهج النبي r في الدعوة، محمد أمحزون، ص76.
([5]) سورة المجادلة: من الآية22.
([11]) تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، 1/6.