العلم([1]) النافع
إن القرآن الكريم والسنة النبوية أشادا بالعلم([2])وجعلاه من أعظم القربات، وأرفع الحسنات، وأكدا أنه الطريق الأرحب لرفعة الدنيا وعز الآخرة، كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾([3]).
ولكن العلم إذا لم يدل على الله، ويحسن سلوك الإنسان، ويضبط حياته بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، ويدفع الناس في طريق الخير... فما قيمته؟ إن العلم النافع هو الذي يضيف للحياة نفعا وفائدة
للخلائق والكائنات، وليس هو القراءة والكتابة فحسب، إنه ترق دائم وإضافة خيرة مستمرة...
فإذا لم يُصلح العلم الحياة ويرقيها، وينظمها ويجملها ويجعلها سهلة ميسرة فما قيمة هذا العلم؟!
فإذا لم ينفع العلم ولم يتأثر الإنسان به فَقَدَ القيمة عند صاحبه فلم يعد يتأثر به القلب، ولم يكبح جماح النفس ويردها عن نزواتها ونوازعها فيصبح جراء ذلك عمل الإنسان صورا لا يمتد في الأرض، ولا يصعد إلى السماء؛ ولهذا فقضية العلم جد خطيرة في حياة الأمم، وكم مر على هذه الأرض من أمم أصبح العلم فيها مظهرا دون جوهر، وهيكلا لا روح فيه، فانهارت الأمم وأصبحت أثرا بعد حين، ولهذا لابد أن يكون العلم نافعا وثيقا بصلاح الإنسان في معاشه ومعاده، في نفسه وأسرته ومجتمعه، ولابد من تأطيره بإطار سديد، وتوجيه قويم رشيد ([4]).
إن العلم هو أمضى سلاح بعد الإيمان، و هو السراج المضيء للطريق، ودليل العمل الصالح، والعلم ما قربنا إلى الله تعالى وبصرنا بمصيرنا إليه، ورسخ أقدامنا في الشريعة الغراء، ودلنا على واجبنا ورسالتنا في هذه الحياة، وهو نور في قلب من أيده الله بمدده وفتح له بصيرته، ثم تأتي العلوم الكونية تباعا لأنها تدعونا إلى التدبر في ملكوت الله.
وليس العلم ما انتكست فيه الإرادة، وقل الفهم، وتكدست فيه النقول، إنما العلم النافع الذي تربى عليه الصحابة رضي الله عنهم في المدرسة النبوية، هو ذلك العلم الذي يبني أمة وينظم المجتمع ويقيم العدل فيه، ويعيد الوعي في عقل المؤمن، ويعيد كل معرفة كونية إلى منبعها وأصلها بعلم الحق...
ولأهمية العلم في التربية والسلوك تلقى الصحابة عليهم من الله الرضوان التربية عليه من المصحوب الأعظم والحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لما أسلم أولئك النفر من الخزرج وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -بيعة العقبة الأولى- بعث معهم سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه، "وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين"([5]).
وبعث سيدنا ومولانا رسول الله r سيدنا معاذ بن جبل وسيدنا أبا موسى الأشعريرضي الله عنهما إلى اليمن ليعلما الناس الإسلام، ويُفقهاهم في الدين،وأوصاهما بسنة التدرج والتيسير. فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي r بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: (يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا) ([6]).
ولما دخلت فاطمة بنت الخطاب وبعلها سعيد بن زيد -رضي الله عنهما- في الإسلام كان سيدنا خباب يقرئهما القرآن([7]).
وذلك يدل على أهمية العلم والمعلم في التربية والسلوك، فالله يعبد بعلم، والاقتداء بنبيه الكريم يكون بعلم، وتطبيق شريعته يكون بعلم..
وفي العقبة الثانية لما بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، يكونون على قومهم بما فيهم). فأخرجوا اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ([8]).
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنقباء: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي)، قالوا:نعم"([9]).
فهؤلاء النقباء كفلاء، في تعليم أصحابهم، وتوجيههم، ومساعدتهم، والاهتمام بشؤونهم، وقضاء حوائجهم...
ويحكي سيدنا عبادة بن الصامترضي الله عنه عن أهل الصفة الذين تفرغوا للعلم، واعتكفوا في المسجد النبوي للعبادة وقراءة القرآن ومدارسته، يقول صلى الله عليه وسلم: « علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلي رجل منهم قوسا, فقلت ليست بمال, وأرمي عنها في سبيل الله. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ( إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها )»([10])، وعنه أيضا قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وكان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن،...»([11]).
وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم: بتوجيهالهمم والعزائم إلى عوالي الأمور، ومعالي المقاصد، وأن يكون المؤمن عالي الرأس في غير كبر، وعزيز النفس في غير عجب، وأصيل الرأي في غير أنفة ([12]).
كما اعتنى صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن عناية عظيمة خصوصا بالنسبة للصبيان الصغار، ولا شك أن في ذلك فائدة كبرى وهي لأجل أن يتوجه الصغار إلى اعتقاد أن الله تعالى هو ربهم، وأن هذا كلامه تعالى، ولأجل أن تسري روح القرآن في قلوبهم ونوره في أفكارهم ومداركهم وحواسهم، ولأجل أن يتلقن الطفل عقائد القرآن منذ الصغر، وأن ينشأ ويشب على محبة القرآن والتعلق به والائتمار بأوامره والانتهاء هن مناهيه والتخلق بأخلاقه والسير على منهاجه ([13]).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أول من قرأ في مدرسة القرآن وتربى بهديه واهتدى بتربيته واتخذه هجيره ([14])، فقرؤوه وتعلموه وعلموه، "وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم مع القرآن آداب القرآن الكريم ليعرف حقه فيعظمه ويحترمه ([15]).
إضافة إلى ذلك ومما كان يعتني به في حلقة العلم النبوية تفسير كتاب الله العظيم، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يفسر لهم بنفسه بعض آيات القرآن الكريم ([16]).
كما اعتنى صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه بذكر الوقائع التاريخية، وسنن الله في الأمم الغابرة، وهذه السنة المحمودة أعظم عامل لتشويق النفوس إلى مجالس العلم والتذكير وإقبالهم عليها برغبة وتعلق ([17]).
ومن الطرق التي سلكها صلى الله عليه وسلم في تربية وتعليم أصحابه ضرب الأمثال، فكان يقرب المسائل بالأمثال، والمثل من أوضح السبل وأظهرها في تصوير الحقيقة وتوضيحها وتقريبها إلى ذهن السامع ([18]).
وهنا لابد أن نذكر حديثا رائعا نلمح منه وسيلة من وسائل التربية التعليمية النبوية للصحابة، عَنْ عَبْدِ اللَّه رضي الله عنه قَال:َ «خَطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا في الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الذي في الْوَسَطِ، مِنْ جَانِبِهِ الذي في الْوَسَطِ وَقَالَ: pهَذَا الإِنْسَانُ ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الذي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا«i([19]).
وأما الكتابة فقد اعتنى بها اعتناء كبيرا؛ ولذلك فإن تطوير فن القراءة والكتابة وترويجهما وإشاعتهما، وإيلاءهما اهتماما كبيرا مع نشر دعوة الإسلام إنما يعتبر من أهم البركات الدنيوية التي أفاض بها الإسلام على الناس جميعا، وهو الجميل العظيم والمن الكبير الذي أسداه الإسلام إلى البشرية جمعاء. وخير دليل على ذلك ما حدث يوم بدر، حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم للأسرى الذين لم يجدوا ما يفتدون به أنفسهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، كما أن أصحاب الصُّفة الذين بلغ عددهم مئة شخص كانوا يركزون على جانب القراءة والكتابة ويتعلمونها، وكانوا يتعلمون الدين والأحكام الشرعية ([20]). ويكفينا فخرا أن أول ما نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم من القرآن قوله سبحا ونتعالى:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾([21]).
علاوة على أن أسمى الطرق التربوية النبوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يولي السائل عناية ورعاية خاصة وتقديرا واحتراما وإكراما وإعظاما، فيكسبه بذلك ثقة كبيرة وشعورا بالطمأنينة الكاملة بحيث لا تمنعه هيبة النبي العلمية من إلقاء السؤال على أي كيفية، ولا تصده رتبته صلى الله عليه وسلم عن التعبير بما في مكنونات الضمير ملقيا بقياده ساعيا في طلب رشاده، وأنظار حضرة المربي الكامل صلى الله عليه وسلم تحوطه من كل جانب، وتحميه من كل منتقد أو عائب ([22]).
واختلفت وسائل التعليم النبوية، فقد يكون التعليم عن طريق سؤال يوجه للنبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه، أو يسألهم هو لا ليجيبوه، بل ليشوق السامع ليصغي بقلبه وأذنه إلى الإجابة، كما كان يخاطب الناس على قدر ما تستوعبه عقولهم وأفهامهم، وإذا تكلم أعاد الكلام ثلاثا ليفهمه الجميع وليستوعبوه.
واهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم المرأة كما اهتم بتعليم الرجل، وكان من الصحابيات من يحضرن مجالس العلم في المسجد النبوي، حرصا منهن على تلقي العلم من فيه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، أشهرهن أم المؤمنين النقية الجليلة الفقيهة العالمة الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما، التي كانت تفتي الصحابة وتجيبهم على أسئلتهم، واشتهرت برواية حظ وافر من الأحاديث النبوية الشريفة، إلى غير ذلك من الصحابيات اللائي اشتهرن بالعلم وأخرج لهن أصحاب الحديث في كتبهم وكذلك أصحاب المغازي والسير.
ومما سبق ذكره يتضح لنا جليا المنهاج النبوي في التعليم والحض على العلم، ذلك المنهاج الذي لم يترك مجالا من مجالات الحياة إلا عني بها، وأولاه اهتمامه، و اتخذ في ذلك طرقا ووسائل متنوعة، على نورها يتم إرساء أسس معرفة صحيحة تتوج بالعمل الصالح، لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([23]). ذلك العمل الذي أسهم في بناء ذلك المجتمع العمراني الأخوي الراقي.
وبهذا وبفضل الصحبة النبوية تعلَّم المسلمون، وتسابقوا إلى طلب العلم، حتى انتشر العلم انتشارا واسعا، فقام صرح ذلك المجتمع الإسلامي الخالد الذي تلقى توجيهاته من معين النبوة، وتشرب التربية من منبعها النبوي، فكانت نتيجة ذلك الفتح المبين والظهور في الأرض، وكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس.
([1]) "العلم في لغة القرآن والسنة وعند أهل الله: ما وصَّل إلى الله، وكل معلومة لا توصل إلى الله فليست بعلم، فعِلْمُنا دائما كان مقيَّدًا بعمارة الأرض وبعبادة الله، والعلوم لا تقتصر على الفقه والشريعة إلى آخره، بل الله قد قدم قراءة الكون على قراءة كتابه المذكور؛ فإن الكون أسبق من القرآن". الكلم الطيب فتاوى عصرية، علي جمعة، ص172.
([2]) وينضوي تحت راية العلم: طلب العلم وبذله، التعليم والتعلم وآدابهما، القرآن تعلمه وتعليمه، الحديث الشريف واتباع السنة، التعليم بالخطابة، التعليم بالمواعظ...
([3]) سورة المجادلة: من الآية11.
([4]) "عقبات في طريق البناء"، مقال لفاروق حمادة، مجلة بصائر الرباط، ص25-27، باختصار.
([5]) تاريخ الطبري، 1/574. عيون الأثر، 1/265.
([6]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يكره من التنازع والاختلاف، ح 3038.
([7]) انظر: عيون الأثر، 1/219. وسيرة ابن هشام، 1/240.
([8]) تاريخ الطبري، 1/578. الفصول في سيرة الرسول r، ص31. سيرة ابن هشام، 1/321.
([10]) سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الأجر على تعلم القرآن، ح257، قال الألباني: صحيح، سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب في كسب المعلم، ح3416.
([11]) مسند الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث عبادة بن الصامت t، 5/324.
([12]) الذخائر المحمدية، ص252.
([13]) محمد r الإنسان الكامل، محمد السيد علوي المالكي الحسني، ص218.
([14]) محمد r الإنسان الكامل، ص219.
([15]) محمد r الإنسان الكامل، ص219.
([16]) محمد r الإنسان الكامل، ص220.
([17]) محمد r الإنسان الكامل، ص221.
([18]) محمد r الإنسان الكامل، ص241.
([19]) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، ح6417.
([20]) سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ص56.
([22]) محمد r الإنسان الكامل، ص228.