أمــــــي و الوحلية . مطبخ المسكن / البيت يعرف خصاصا مهولا فـي بعـض الخضروات و القطـاني الرئيسـية ، و الخـبز ، و السكر ، و الشـاي .
يخـيل لـي و أنا قابـع بمملكتي / المـسن ، اللصيقـة بالمـدرسة / القـسم ، و الشـبيهة بـبناء الأضرحة ؛ أنني ولي من أولياء الله ، ترتادني يوميا طوائف من التلاميذ راغبة في مـدد الـعلم ، و طامعة في أن أمحو عنها غشاوة جهلها ...هذا جلب معه خبزا ، و ذاك لبنا ، و عندما يكون مطـلب الزائـر أو جـرمه كبـيرا ، فإنـه يضـطر لطلـب الـشفاعة و الصـفح يجلـب بيـض و زبـدة و حليب !!!
أنا أيضا أماه كنت أستغرب هذه العادة الشاذة ، و أصنفها في عداد السلوكيات المشينة قبل أن أقتحم أدغال التعليم ، لكنني الآن و من موقعي هذا المنحوت بين الجبال سأحاول أن أبرر لك . بارحة هذا اليوم الذي أخطط لك فيه رسالتي هاته ، تحولت المنطقة لصحراء جبلـية مـن الثـلوج ، و مساء اليوم ، مع إطلالة محتشمة لأشعة شمس الجنوب ، انصهر كل الثلج ، فتحولت المنطقة إلى صحراء من النتوءات و المستنقعات الطينية
و لا زالت تفصلنا ليلتين عن يوم السوق . توسمت الخير في أحد تلاميذي ، استدعيته ، وطلبت منه أن يأتيني بخبزة ، أو نصف خبزة ، أو قليل من الخبز ، ذهـب و لم يـعد ... استدعيـت الثـاني و استجديته بتوسل و تسول لجلب فتات من الخبز، قصد إخماد نيران هذه الطاحونة التي اعتادت هضم الخبز ، و لا شـيء غـيـر الخبز ؛ ماء المغاربة و أمير موائدهم ... ذهب راضـخا و عـاد مـعـتـذرا قائلا بالشـلحـة مـا مـعـنـاه : ( كـالـتـلـك مـي مـا بـقـاش الـخـبـز .) و تـرجـمـت قـولـه لعـشـيــري هـكـذا: ( كالتلك مو الله يسهل ! ! !) . هـو خليـط من مـشـاعـر الشـفـقـة المكلـفــة ، و التكافل المتكلـف ، و التبـني القـسري ، هــو أيـضـا جنــس من أجـناس الحوافــز ، و الاحتـضان ، و التـعايـش ، الميسر لـظروف حياة طرفيـن ، لكل منهما مصـلحـة فـي الآخـر ، و هـو كذلك سلوك مغربي حاتمي ، متجدر في المكان ، و متأصل في الزمان . يستحيل استـئصاله لراهـنة الوضـع ، و لظروف من فطـمته الحـضارة و أهملته الوزارة . و أحيانا يتـفاقم الســلوك بـتفــشي سمــات السـداجـة القـرويـة و الطمـع المـتمـدن ، و ارتـباك ملــكات التخطـيط و التدبير و التسيير ، مع تراكم التبعات النفسية لهواجس انتـظار صـرف الرواتـب ، و العـطل ، و الرسائل و ...
لكن المطمئن أن الظاهرة سائرة في طريق الاندثار ، منذ البدايات الأولى لسياسة تشبيب القطاع، و انتشار الشحنة الأولى من الهوائيات المقعرة فوق سطوح دور دواوير مغربنا . و أيضا مع توالي سنوات الجفاف ...
أمـــــــي
لـم أكـن أعتقد أن مغربنا لا زال يحوي بين طيات و نتوءات خريطته هذه الفـئة مـن شعبه ( ... ) الـذي لـم تخـدمه أي حـكومـة ، و لـم يعـره مـسؤولونا ، و منظماتنا ، وجمعيـاتنـا ، و أحزابنا ، أدنى اهتمام أو التفات ، و لم أكن أتصور أن مغربنا لا زال يخفي بين جباله هذه العينة من نسائه المعذبات ليلا و نهارا ...
هنا بالدوار يكني الرجال النساء بـ ( تمغارت تغيولت) و هو ما معناه ( الزوجة الحمارة ) و أنا أدعوهن بـ ( الأشجار المتحركة ) لاختفاء أجسادهن النحيلة ، وراء ثقل أكوام وأطنان من الحطب و الأغصان ...
تكوينات و تفاصيل أجساد نساء الدوار غريبة ، مكامن الأنوثة فيهن مشوهة ؛ أعناق مقوسة ، ظهور محدودبة ، مؤخرات بارزة متهدلة و نهود متدلية . هن غير مسؤولات عن قوامهن ، كونهن مرغمات على الجلوس طويلا أمام مراشم حياكة الزرابي ، و المداومة على السقي ، وحمل كل أصناف الأثقال ، و تحمل كل أشكال الأعباء و المشاق و استحمال غباوة صدور مكبوتة غير قنوعة و غير مقتنعة ...
كنت قد قررت يوما التخطيط لتحريضهن و إعلامهن بالتعديل الذي وقع على مدونة الأحوال الشخصية ، و بمستجدات مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ، كما أزمعت تألـيب خضوعــهن و خنوعهن ، لكنني عدت و تذكرت أنني عجزت عن تبليغ مطلب بسيط لهن ، يتمثل في رجوهن الثقيل من وضع الزغب و الحصى في خبزة المعلم ، فكيف لي أن أخبرهن بتخويل الحكومة لهن حق اقتراح اسم أب وهمي لابن زنا ! ؟
أحيانا أمي ، أشعر أنني جندت هنا لمحاربة آفة أضخم من الجهل و أشسع من الأمية ،آفة ضاربة بضلالتها و جذورها في الأوصال ، والشرايين ، و الخلايا و المعتقدات ، و الفطرة ... تمـتد وظيـفتي للمسـجد ، لـدور الـدوار ، للحيوانات ، للأعـراف و الـعادات ، لتحـريـر الرسائـل و الشكايات ، للبث في النازلات و لفك النزاعات و الخصومات . تتعدى مهمـتي بضعة حـروف و أرقام لتطال عوالم أخرى ؛ غير اللغة في المخيلة الأمازيغية لناشئتي . أجاهد كي أفتح عيونهم المسجونة وراء سلسلة من الجبال على الصورة و الصوت و التخيل و الحلم ، و على شساعة وطننا ، و تعدد أناسه و دواويره و معلميه . تلاميذي يعتقدون أن حدود العالم القصوى تقف عند البلدة التي سافر إليها شيخ الدوار ، هناك حيث الطريق المعبدة ، و حيث الجماعة ، و حيث المستوصف ، و حيث الدرك ، وحيث الحلوى و السيارات ... هناك حيث ذهب ابن الشيخ يوما واحدا للاستشفاء ، وعاد ليحكي لأصدقائه عن عجائب و غرائب البلدة شهرا من الزمن بل زمنا من الشهور...
كم أتمنى أمي ، أن أصاحب تلامـيذي في رحـلة طويـلة ،لـزيارة بعـض مـدن وطـنـنـا ، و لرؤية البـحر و الـقطـار و مركز البريد و علامات المرور و الدور العالية و .... و ... علني أوفق في توسيع آفاق فكرهم الضيق ، و تحرير رؤاهم ووعيهم المحنط بغشاوة سميكة من الجهل و الانغلاق . لكن خوفي أن أولد لديهم – حينها – إحساسا بالحرمان و أحرضهم وقتئذ على الهجرة ...
أراضي الـمنطقـة جـد خصـبـة ، لـكـن رجـال الـدوار متـقاعـسون عـن شقـها ، و قلـبها ، و سقـيها ، وحفـر مـجار مـياه تجاهـها . زراعتـهم المحـببـة هي النـسيج ، و شغلهم الشاغل انتظار اكتمال زربية كل شهر ، و ترقب تفتح زهور الزعفران ، ومتابعة سكنات و حركات المعلم...! الرجال هنا يفتخرون بتخصصهم في زراعة الزرابي ، و الفلاح الأصيل من تنتج نطفته جنسا خصبا من الإناث الناسجات .أتساءل فقط ؛ ما ذنب هذه الأرض؟ و ما ذنب هؤلاء الناسجات الصغيرات؟…
تـذكرين أمي ولعـي الشديد بالجرائد ، و البرامج ، و الربورطاجات المتلفزة و السينما ... الآن ، من موقعي هذا ، أصبحت أرى في نفسي و مجريات يومي مادة ناجحة لبرنامج وثائقي مؤثر ، أو لسيناريو مسلسل درامي عنوانه " كضرون حياتي " ... فأن يفقد الإنسان إنسانيته ، أن يتزاحم مثل الأكبـاش داخـل أو فـوق سـيارة غـيـر مؤمـنـة ، أن يـشـعر أنـه أهيـن في آدميتـه و كرامته فهذا أحط درجات العيش الكريم (... )
من المؤسف حقا ، أمي ، أن يكتشف المرء ، انه يخادع نفسه و ينافق مجتمعه ، يجامل هذا تصنعا و يخضع لسذاجات و إكراهات ذاك قسرا ، و من العار أن تجد نفسك مرغما على تقديم الغرابة لتلاميذ ، هم أحوج ما يكون ؛ لقطعة ثوب ، وقطعة خبز ، وحقنة دواء ، وشحنة حب و عطف و حنان ... !
و لعلمك أمي ، لا يوجد في هذا الوطن ، من يحمل حقا هموم أطفال بوادي و مـداشر مغربنا ، غيرنا نحن المعلمون ، لا يوجد من يعرف بنفـس عمـق معرفـتنا ، حقيقة أوضاع قـرى و فلاحي هذا الوطن ، و تأكدي كما الآخرون ، انه لا يوجد من يؤرقه مستقبل هذا الوطن ، بنفس حدة أرقنا ، و لا يوجد من ينوء بأوزار هذا الوطن ، غيرنا نحن من لبى نداء الجنوب ، نحن من يؤمن بان حقلنا ، هو خير ميـدان للاستـثمار و الإنتاج و تحقـيق الرقـي كما لا يوجد من يـدرك بنفس عمق إدراكنا بان الدواويـر و البوادي ؛ هي الأصل في نفعية هذا الوطن أو مضرته ..
أماه ، تبدو الأيام لأصدقائي متوالية ببطء قاتل ، و أنا أراها زاحفـة بـسرعة الضوء ، أيـام عمري تجري و أنا أعدها و أسجلها يوما يومـا و بالتاريـخ الهـجري و الـميلادي ، الوقـت هـنا لا أهمية له و المؤكد أن ساعتي غير مضبوطة ، إذ لم أجد من اضبط عقاربها عليه ... فباتت هي الأخرى تجاري رتابتي ، مرة تقدم ساعتين ، و مرة تؤخر أربع ساعات ، حتى المذياع أبت موجاته أن تستقر على محطة واحدة . و إذا حدث يوما أن خففت تيارات رياح الجنوب من وطيس غضبها ، فانه يتحدث بثلاث لغات ممزوجة . لكنني أقولها لك صراحة ؛ لقد اكتشفت – متأخرا – هذا الجهاز المؤنس المسمى مذياعا . تذكرين أمي ، ذوقي الغذائي ، ثوابلي المحببة، فواكهي المقدسة ، تذكرين طقوس كتابتي ، و أكلي و نومي . لا أظنك ستنسين كل هذه الأشياء ... لكن أود أن أخبرك أنني تخليت عن عاداتي ؛ إن لم تكن هي التي تخلت عني . لم اكن أتصور يوما أنني سأغير – أو انه سيرغم علي تغيـير – ذوقي الغـذائي و الموسيـقـي و الأدبي . و أنني سأستسيغ مذاق اللـفـت و الشـحـمة و " البـيصارا البـايتـة " ، أو أنني سأطرب لإيقـاعات الـراي و الريكي و كل الأنواع الموسيقية الصاخبة ، المكسـرة لسـكون هـذا الـدوار الأخـرس . أو أنني سأصبح مستهلكا غبيا لكل ما يقرأ و لكل ما يقال و لكل ما يجري و يروج... أو أنني سأرتعد حد الفناء عند ترتيلي أو إنصاتي لتجويد آيات من الذكر الحكيم
أمي ، ثلاثة أسابيع مرت على تواجدي بالدوار ، و لم أعرف بعد متى و أين و كيف يكون الاستحمام ، أو بتعبير أدق ، لم أستحم بعد . أردت حك بقعة دغدغتني أسفل ذقني ، فعـلت و أخمدت نار الحكة ، لكنني أيقضت طبقة وسخ من سباتها ففاحت رائحتي . ابنك " الجيلالي " خبير الروائح و العطور اصبح يضاهي في رائحته رائحة مجدوب حينا ...
والدتي العزيزة ،لا شك أنك لا زلت تذكرين أناقتي و اهتمامي الكبير بتناسق هندامي . تلك أيام خلت...راهنا لم أعد أميز بين ملابس العمل و ملابس النوم ، قد تختلط وظيفتهما و قد تتوحد . لم أعد أجد رغبة في تسريح شعري ، أو تلميع حذائي ، أو تنظيف أسناني ، أو تعطير مناطق التصاق مفاصلي . لأجل من سأفعل كل هذا ؟ ستقولين من أجل نفسي ؟ و سأجيبك : ماتت في تلك النفس الأنيقة .
تخيليني أمي في أي وضعية لم يسبق لك أن رأيتني فيها ؛ مريضا ن مهملا ، ضمآنا ، جوعانا ، بردانا . تخيليني واجما ، متأملا ، صامتا منصتا لسكون الجبال . و أغاني الراي وترتيل آيات القرآن . مرارا أغسل وجهي دون أن أفطر ، أو أفطر دون أن أغسل وجهي . و أحيانا ، أرغم على الصوم و أنا جوعان ، و على الأكل و أنا شبعان . لم أعـد أميز بيـن صبحي و ليلـي ،و بين بارحتي و يومي . الخواء و الفراغ و اللا شيء و اللا معنى باتت أبراج حضي ..
هنا بين الجبال، أمي، اكتشفت أن لكل شـيء صدى . اكتشـفت أيضـا أن الحـياة خدعـة و أن للصمت صـوت رنينـي مسترسـل ، و أن فـي عمـق العتمـة الدامـسة أنـوار هلامية خفـية ، و اقتنعت أخيرا أن هناك شعور أقوى من الحب يدعى الألفة ، و أن مبتكر النميمة إنما كان عدوا لذوذا لمعلم . و أن الأنثى هي سبب تخلف هذا الميدان ، و هذا الوطن ، و هذه العقول العاشقة . كما حظيت مؤخرا بخزي رؤية مكمن تخلف إدارتنا ...
بالمناسبة أمي ، أود أن أخبرك أنني عدت لعادة قضم الأظافر ، ووضع سبابة يسراي في الفجوة اليمنى لأنفي . و أبشرك أنني شفـيت من فوبيا الكـلاب و الزواحـف و الأماكـن المرتفعـة و الشاسعة . كيف لا و أنا نفسي أصبحت قطعة من هذا الفضاء التجريدي . كما لا أنسى شكرك على ذلك المنديل الذي دسسته لي خفية في ثنايا حقيبة سفري . و صدقيني أن عبق رائحتك العالقة بي تخفف عني قسطا من آلام بدني و غربتي...
أمي قد أسأم هذه الحياة ، قد أتدمر و قد أتمرد ، لكنني أعود و أتذكر أنني أعمل مرضاة لوجه الله ، أعود و أتذكر أيضا براءة عيون و صفاء قلوب هؤلاء الصبية ، فاقتنع أن الذنب ليس ذنبهم كونهم لا يتحدثون عربية أو دارجة ، و كـون نطـفهم تشكـلت بين الجـبال . و أعـود في الأخير ، لأتذكر حالـة زحمـة " راس الـدرب " و مقـاهي الدرب ، و مـجازي الـدرب فانكـمـش و أنتفض من سأمي ...
أماه ، و أنـا أصـلي داخـل بيتـي المشـيد فوق أعلى هضبة صخريـة بـالـدوار . أشعــر ؛ و هـذا أجمل شعور ، أنني قريب من الله أكثر من أي وقت مضى ، قريب من ملكوته و عـظمـته و مشـيئتـه ، قريـب مـن رحمـته و عـنايـته و لطـفه ...فأتـضرع و أتـذلل و ابكي و أتلاشى حسـا لا جسدا ...
مستلقيا على فراشي ، أجد نفسي مرغما على استرجاع كل حلقات شريط حياتي عشرون حلقة ، أتذكرها سـنة سنـة ، شـهرا شهـرا و يوما يومـا ، أسترجعـها بأجمـل و أتعس لويحـظاتها و بأبطأ و أسرع هنيهاتها .
والدتي ، صدقيني أنني لا زلت أتذكر مذاق حليب ثدييك ، و أتذكر أيضا أنني طالما عضضتك من حلمتيك ، و طالما شددتك و جذبتك من ظفائر شعرك ، بل و تعود بي الذكرى إلى يوم مولدي و يـوم فـطامي و يـوم خـتاني . أعـرف أنك لـن تستـوعبي ما أقـول ، لكن أصدقـائي و الجبال يستوعبون و يبررون ما أقول ، عندما تعصف بي نزلات برد حادة فأرعف على إثرها مرارا و تكرارا ، و أفقد وعيي ، ثم أسترسل في التذكر و الهذيان . و أذكر أيضا ، و لا أدري إن كنت ستصدقينني هذه المرة أيضا ، لكنني أقسم ، و قسمي غير جائز ، لأنني كنت وقتها لا أزال جنينا . قلت إذن أنني أذكر – و الذكرى ليست ببعيدة – كل لحظة مكثتها بداخل أحشائك ، فأذكر مثلا أنك حملتني أزيد من تسعة أشهر بخمسة أشهر أخرى . وأذكر أيضا ساعة مخاضك و نفاسك
و أذكر كذلك لحظة شعرت بأول نفس ، و بأول ركلة ، و بأول نبض من حياتي يدب في ظلماتك الثلاث ...، و أنك وضعتني بيسر ، و أن " مي صفية " هي التي جدبتني للوجود . بل و أذكـر ما حدث قبل و بعد ذلك بكثير فما رأيك والدتي ؟؟ حقا لكم هو رائع أن تنجب الأمهات معلمين .
أيام قبـل سـفري حذرتـني مـن أكـل الطعـام" البائـت"، و من المـرور بالأماكـن المظـلمة و ارتياد الأماكن المهجورة . أطمئنك و أخبرك في هذه الرسالة غير المرسلة إليك ، إن ابنك يقطن بمسكن لصيق بفرعية معزولة عن الدوار .محاط بمقبرة فسيحة و مـطل على صهريج مهجور . و أن غذاؤه الدائم ما تبقى من عشاء البارحات ...و أن العقارب و الكلاب و الزواحف باتت من اخلص أصدقائه و مؤنسيه
أمي ، لن أنسى يوم ودعتني بعينين دامعتين و قلب خافق متهدج : "سير أوليدي راك محضي و مرضي الوالدين ، سير ربي يسترك و يحفظك و ينجيك ، راك سالم غانم من شر الشيطان و بنادم " . و أحسست وقتها بخاتم الرضا يطبع على جبيني . كما استحضر كلما هممت باقتراف الفواحش نصيحتك الغالية برفق و دفء و حياء صوتك " ولدي خـدم بنـيتك و ديـر ثقتـك فـالله ، و ما تكمي ما تسكر ما تزني باش رجاكو رجاي يكون مقبول ." خاضع لحد كتابة هذه الأسطر لوصاياك الغالية . فقط ، اعلمي أنني لم اعد ذلك الجيلالي " الذي تعرفينه ، أشعر أن هزة نفسية ألمت بوجداني ، فقدت تلك الروح المرحة و تلك الابتسامة التي ما كانت لتفارق محياي .
أعـدك أمي ،أنـني لن" أكمـي" و لن " أسكـر " و لـن " أزني " لكـنني سأبـكى و أحكي و أشكي سأكتب و اعترف و سأفضح كل التجاوزات ، كل الخروقات ، و كل التواطآت المحاكة ضد هذه الأقاليم المغربية المحافظة .سأفرغ حويصلات الأقسام من جثتها و ديدانها و سأمزق ستائر المدارة
حقا ، و أنا أعيش الأجواء الماجنة ، كشاهد عن كتب وسط معمعة عاهرة ، أقاوم رغبة جامحة في تجاوز نصائحك الغالية . فبين الحين ، و الحين ينتابني ضمأ كبير لسيجارة رخيصة ، و لكأس خمر رديء و لأنثى عاهرة ، أسـترجع و إياهـم لحـظات الصخـب و الانتـشاء و اللـذة . و أحيانا تغويني حتى الاستسـلام رائحـة دخـان السـجـائر و الكحـول و الجـنس ، و تتحامـل علي الجـبـال و الرجـال و الغيـــوم ، فتذيقنـي ، مـتراكمـة ، مرارة الحـياة و شـقــاء غربـة الـوطـن ، و تشجعني غير ما مرة هذه الظروف المعربدة على تجرع مرارة النبيذ ، لأمزج المرارتين علني أتذوق الحلاوة . لكنني أعود و استحضر وصاياك الثمينة فأعصم نفسي عن الوقوع في الرذيلة.
صعب جدا أماه ، أن يقضي الإنسان عقدين من حياته ، بين أحضان الأم و العائلة و المدينة بكل مقوماتها ، ليجد نفسه فجأة و دونما أدنى تهيئ نفسي لوسط قروي محض ، أو لنقل لبادية إحدى القرى ، و بتعبير أوضح لأبعد نقطة عن طريق ثانوية معبدة . فطام الحضارة لا يعادل فطام ينبوع أمومتك يا مجد الأمومة و يا فيض الرضا...
ميزة المدينة أن يومها ينسيك بارحتها ، و غدها سينسيك قطعا في أمسها .
بين الجبال أعيش يومي بذكرى البارحة و أتأكد أنني سأعيش غدي بأحداث أيامي الماضية خلاصة القول أن أيامي هنا متشابهة باستثناء يوم زارني المفتش ( ... ) مفاهيم جديدة أمـــي ، اقتـحمـت قامـوس حـياتـي ؛ الغربــة المـوخـزة ، القـسـارة العامـرة " القـسارة الخاوية " " العشرة " " التقدية " " الكميلة" " الدكة " "الحكرة "... ما كنت والدتي العزيزة سأعيش هذه المفاهيم لحظات و هذه الأحاسيس جرعات زعاف لولا ولوجي سلك المتاعب النبيل .
قديما و كل قديم غير بعيد ، كنت أتألم على بعض السويعات المؤنسة ، و أتحسر عليها ، أعيشها و أحاول جاهدا الاستماع بها قدر الإمكان ، ليقيني أنها ستصبح ذكرى ... ، الساعة ، اليوم و كل الأيام اللاحقة ، أنتظر بلهفة و ترقب كبيرين متى تصبح للذكرى بالرغم من انسيابها الحتمي.
الجرائد هنا ، طبعا جرائد البارحة أو قبل البارحة ، أستشف و أنا أتصفحها على نغمات صمت الجبال أنها دون مصداقية . الافتتاحيات، و الأعمدة الثابتة ، و الأخبار، و التحاليل ، تتجرد من مساحيـق الـمدينة ، فتقـرأ عاريـة مفـضوحة ناشـرة لغسيلـها الوسـخ. الأقلام السياسية و الصحفية ، يسقط قناعها ليكشف عن وجوهها المزيفة ، الكاريكاتورية ، الوصولية ، و المنافقة
أمي ، كنت قد أبديت رغبتك في مرافقتي ، أو زيارتي للاقتراب من أجوائي و أحوالي ، وللاطمئنان علي أكثر . لكنني ماطلتك و تهربت من رغبتك بحجة و بغيرها . أتعرفين لماذا ؟ لأنني لا أريدك أن تحملي صورة حزينة عن ابنك ، لا أريدك أن تنامي و كوابيس تلاحقك . أريدك فقط ، أن تقبلي ، كون ابنك مغترب ، داخل حدود وطنه ، من اجل وظيفة نبيلة محترمة ، و من أجل واجب إنساني وطني . ومن أجل دريهمات قليلة و كفى .
مطمئن عليك لأنني وفقت في أكاذيبي – سامحني الله – صورت لك حياتي نعيما و أنا القاطن بمسكن مغشوش البناء مطل على مقبرة للأموات .
ترجمت لك أيامي فردوسا ، و أنـا الـذي طالما حـرم مـن وجبـات رئيسية . أبلغتـك راحتي و سعادتـي و أنـا مـن صارع لشهـور طويلـة خلـيطا مـن مشاعـر السجـيـن ، و اليتــيم ، و المريض ، و المغتصب ، و المغدور ، و المفجوع ، و المرعوب و المهاجر المغترب ...
ختاما أمـــــــي ؛
هـي رسالة شخصية لك ، لكنـها مفـتوحة للقراءة لكـل المعنيين بحقل التعليم و التربية ، و بحقل هذا الوطن
هي وثيقة إدانة في حق الدولة وهي صك اتهام في حق ديماغوجيينا .
هو نداء استغاثة عاجل من أطفال الجنوب . و هي لحظات اقتنصتها من صدق الواقع ، ومن صدق الذكرى و من قتامة الوضع . فتداركوا أيها المسؤولون جزاكم الله خيرا من أجل خير هذا الوطن و مـن أجـل أطـفال نفـس الوطـن ...قبـل أن يفـوت الأوان و قـبل أن يحتضر الأمـــل و يحتضر الوطن .
و أستودعك ، أمـــي ، الله الذي لا تضيع ودائعه .
ابنـــك الـــبـــــار
الجــيــــلالـــي