تدور نقاشات كثيرة حول تحليل ودراسة أسباب انحطاط مجتمعاتنا وأساليب النهوض بها, وقد تتحول بعض هذه النقاشات إلى معارك فكرية محتدمة, فمن قائل إننا لن ننهض إلا إذا استفدنا من الغرب وأفكاره وتعلمنا من تجارب الأمم الأخرى (سواء من أراد تقليد الغرب أم من أراد نقل تجاربه مع تعديلات) إلى آخر يقول إن نهضتنا المرجوة لن تقوم إلا بالعودة إلى ديننا وتعاليمه وتفعيل فضائله (ولتلك العودة صور متعددة حسب فهم كل فئة من هؤلاء), إلى ثالث يتحدث عن الحرية والديمقراطية ومحاربة الاستبداد, إلى رابع يدعو للعلمانية والمواطنة, وخامس يتحدث عن تصحيح الفكر والأخذ بأسباب العلم والتقنية,
إلى سادس وسابع .........إلخ.
وكل واحد من هؤلاء لا يقدم لنا فكرة عن شكل المجتمع المنشود, ولا عن سماته, ولا عن شكل علاقات أفراده, رغم أن أي اقتراح للنهوض يحتوي ضمناً على ما يصبو إليه دعاة النهضة من اقتراحاتهم تلك.
ولكن الملاحظ أن هذا التصور يبقى ضبابياً في كثير من الحالات, ويبقى أقرب إلى تصور المدينة الفاضلة التي تُرسم مسبقاً بصورة بعيدة عن الواقع العملي ومعطياته, وهي تعني نوعاً من احتقار المجتمع الأصلي ورفضاً لما فيه من أعراف وخصائص ومميزات, حتى أننا نتصور أن كل ما بين أيدينا لا شيء, وأننا بحاجة لهدم وإعادة بناء المجتمع كله وفق تلك التصورات المتخيلة.
ولو طرحنا سؤالاً مباشراً عن المجتمع المنشود وخصائصه سنجد التركيز منصباً بصورة أساسية على شكل الحكم في ذلك المجتمع (ديمقراطي, علماني, ديني, حر........إلخ) وهذا ناتج برأيي عن فكرة أن التغيير المطلوب من أجل الوصول للنهضة لن يتم إلا عن طريق السلطة والحكم, وكأن الشعب كائن يمكن تسييره عن طريق التحكم عن بعد, فإذا كان الحكم علمانياً مثلاً فستترسخ القيم العلمانية في المجتمع وتصبح تعاملات الناس قائمة على أساس علماني, وإذا كان الحكم إسلامياً فإن نظام الإسلام سينتشر ويصبح الناس في تعاملاتهم خاضعين لذلك النظام, وإذا كان ديمقراطياً فإن علاقات الناس ستكون كذلك.......إلخ
وهذا برأيي تصور قاصر يلغي دور الشعب وإرادته وخصائص المجتمع وعاداته وتقاليده وهويته, التي تجعله قادراً على التكيف مع المستجدات وفق طريقته هو, وأكبر دليل على ما أقول أن تأثير العولمة الواضح في مجتمعاتنا هو تأثير خاص, صُبغ بصبغة عاداتنا وتقاليدنا (وقد تحدثت في مقالات سابقة عن مثال الأزياء والعمارة وتأثرهما بالعولمة ولكن ضمن صورة خاصة فرضتها الخصوصية والهوية الحضارية لمجتمعاتنا)
وبعيداً عن الجدال المحتدم حول هل التغيير يجب أن يكون من القمة أو من القاعدة نجد أن سمات أي مجتمع وشكل تعاملات الناس فيه تعتمد في أساس الأمر على السلوكيات المنتشرة بين أفراده, تلك السلوكيات التي تسم المجتمع بسمة خاصة وتؤثر على راحة أفراده وانتاجيتهم وتعاملاتهم, فإذا كانت هذه السلوكيات انحطاطية عانى المجتمع من آثارها السلبية وانعكست هذه الآثار على تعاملات الناس وتفاعلاتهم ليصبح المجتمع كله مستحقاً لصفة الانحطاط, وإذا كانت هذه السلوكيات فاعلة ونهضوية فإن آثارها الإيجابية ستظهر كذلك في تعاملات الناس وانتاجهم وسيكون المجتمع فاعلاً.
وأعتقد أننا متفقون جميعاً (مهما اختلفت تصوراتنا لحلول النهضة المرجوة) على أن المجتمع الذي تسود فيه روح المسؤولية واتقان العمل واحترام القانون وتنظيم الوقت وتقبل الآخر......إلى غير ذلك من تلك السلوكيات الإيجابية هو مجتمع يعرف كيف يبدع وينتج وينظم حياته وفق طريقته الخاصة, مستفيداً من إمكاناته وبيئته ومعتقداته, بعيداً عما ترسمه أحلام المفكرين, وتصورات الساسة, وعندما تصبح هذه السلوكيات عادات راسخة لا تحتاج إلى رقيب أو حسيب فإن الأفراد لا يهمهم وقتها شكل الحكم (في أحد المجتمعات تم انتخاب نعجة لتمثل الناس في المجلس البلدي).
أما إذا بحثنا عن الأساليب التي ستجعل من مثل هذه السلوكيات عادات ممارسة فأعتقد أن سيادة هذه السلوكيات وانتشارها سيكون على يد فئة قدوة تمارس هذا السلوك عملياً وتنشره في محيطها, وهي التي ستوجد ذلك المجتمع المنشود بخصائصه وميزاته وهويته دون أو ينمسخ في قالب جامد تمليه عليه ظروف العولمة أو الأفكار المسبقة