أسرار بيانية في القرآن الكريم

طباعة

   ما نكون في شأن ولا نخوض في أمر ، ولا نحامي عن فكرة ، أو ننتصر لها ، ونحمل الناس على أن يروا رأينا ، ويسلموا بوجهة نظرنا ، ووجاهة أسبابنا إلا كان البيان هو أداتنا والسبيل . فالبيان هو وعاء الاعجاز والبلاغة وسيلة إليه ، وهو حامل لخصائص بنية العربية ، ومبين للوظيفة الأساسية للغة التي هي الابلاغ . ويتجلى ذلك البيان في القران الكريم كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه ، وفي علومه وحكمه ، وفي تأثير هدايته ، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلية ، وقد فاجأ العرب بأسلوبه الذي لاعهد لهم به ، فضلوا حائرين دهشين يلمسون سحره الغالب وتاثيره الخالب للألباب من غير ان يستطيعوا معارضته .

     وسنعرض في هذا المقال أسراراً من البيان القرآني لعدد من الآيات لتكون في متناول القارئ يتعرف من خلالها على  جزء من كلام الله المعجز  .

قوله تعالى (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )) الفرقان 23 .

   حقيقية الفعل قدمنا هنا :عمدنا ، واتى به لأنه ابلغ منه ، فالفعل قدمنا يدل على انه عاملهم معاملة القادم من سفر الغائب عنهم الممهل لهم ، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم ، وفي هذا تحذير من الاغترار بالامهال ، والمعنى الذي يجمع الفعلين ـ قدمنا و عمدنا ـ العدل لأن العمد إلى امهال الفاسد عدل .

قوله تعالى (( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين )) .

  المعنى الحقيقي للفعل اصدع : بلغ ، والصدع هنا أبلغ ، لأن الصدع له تأثير كتأثير صدع الزجاجة ، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير ، فيصير بمنزلة ما لم يقع ، والمعنى الذي يجمع الفعلين الايصال ، إلا أن الايصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ .

قوله تعالى (( يا ايها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ....))

     استعمل الذكر الحكيم يا أيها الذين آمنوا ، لأن الخطاب القرآني في النصوص المحكمة كالعبادات والمعاملات هو في اكثره بهذه الصيغة ، والآية مدنية والمجتمع مدني ، وهو الذي نصر الدعوة في بدايتها ، وغالبية أهل المدينة قد رحبوا بالدعوة وفرحوا بقدوم صاحبها صلى الله عليه وسلم ، فاستحقوا ذلك الوصف ، وبذلك راعى الخطاب المخاطبين في المكان والزمان .

     واستعمل في الآية الكريمة الفعل آمنوا ، الذي يفيد التجديد والحركة ؛ لأن المقام مقام تكليف ، فالفعل يأتي في مقام التكليف ، والاسم يأتي في مقام الجزاء ، لأن الاسم موسوم بالثبات ، كقوله تعالى  : (( قد أفلح المؤمنون)) وقوله (( وذلك جزاء الظالمين )) وقوله (( فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )) بالاسمية لأنه مقام جزاء .

   ولا نغادر هذه الآية المباركة قبل أن نكشف عن سر من أسرارها ، فقد شرف المخاطَبين بفعل الايمان ، وهذا يدل على الرحمة بهم في التكليف ، وهذا من الحكم العظيمة ، إذ المقصد من الحكيم هو استجابة المخاطبين له وتطبيق الحكم .

قوله تعالى : (( وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ..............* ولا جناح إن كان بكم أذى مطر أو كنتم مرضى ... )) النساء 101 -102 .

   الفرق بين قوله استعمال فليس عليكم جناح وقوله لا جناح عليكم ، أن الأولى تستعمل مع الفعل إذا لم يحصل ولم يحدث  أي : بصيغة المضارع  الدال على الحال أو الاستقبال ، أما الآية الأخرى فتستعمل مع الفعل الماضي بصيغة فعل ، والذي  حصل وحدث .

فقوله : (( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ..)) ، القصر لم يحصل بعد ، والأمر نفسه في قوله تعالى : ((  وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به )) الخطأ هنا لم يحصل ولم يحدث ، لذلك لا يصاغ بعدها إلا المضارع . وكذلك في قوله تعالى : (( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم )) ابتغاء الفضل لم يحصل ولم يحدث.

   أما قوله تعالى : (( لا جناح عليكم  إن  كان بكم أذى .. )) أي حصل وحدث ، والحال نفسه في قوله تعالى في آية اخرى : (( لا جناح عليكم عليكم إن طلقتم النساء )) فالطلاق هنا حصل وحدث ،  وهكذا يتبين دور الزمن في البيان القرآني المحكم .

قوله تعالى : (( وليضربن بخمرهن على  جيوبهن ))

    صيغة الأمر ليضربن خصت للدلالة على الأمر وشدته وفوريته  كون المسألة مهمة في حياة النساء ، فهي أقوى من صيغة اضربن ، التي تفيد الأمر من غير قوة ولا شدة ، كما تفيد الصيغة في المقابل لها قوة المأمور وكبر شأنه اهتماماً وقدراً .

   ولا يفوتنا أن نذكر أن السر الآخر من استعمال هذه الصيغة ـ ليضربن ـ لتتميز من معنى الضرب الحقيقي المعروف والذي أتى به القرآن بصيغة اضربوا ، كقوله تعالى : (( واضربوهن فإن أطعنكم )) ، وقوله تعالى : (( فاضربوا فوق الأعناق )) ، فصيغة وليضربن بمعنى الستر قد ناسبت سياق الآية وميزتها من معنى الضرب الحقيقي .