العلم من حيث هو جوهر تكوين رباني أي هو من صنع الله,هو بالتالي منتج وجودي,موجود لعلة ومحدث لسبب لايمكن تصوره خارج هذه العلة وتلك السببية,شأنه شأن العقل في الماهية وفي الوجود وكلاهما خلق وجودي متصل بفعل الله الخلقي,ونتيجة للتكوين فقط وليس من حال التبعيض المنسوب لله ولو تصورا,وهذا يعني أن الوجود التكويني للعلم سواء أكان علم الله أو العلم المنزل المتطور والنامي من حركة العقل
بالأصل له وجود خارج عن ذات الله عن وجود الباعث الأول(الخالق),فالله عليم لأنه أعلم بما خلق من العلم وليس لأن العلم متصل به بشكل بعض أو جزء ما,إلا ما هو متصل في الأحاطة الخلقية وهو القادر على بسطه كيف يشاء.
فالعلم مشترك وجودي بين الخالق والمخلوق أصله في تكوين الله له وليس في تكوين الذات المقدسة ولو سلمنا بغير ذلك يكون الإنسان كحامل وعامل بالعلم مشارك لله في بعضية محالة عليه أصلا,فالعلم من الأشياء التي عند الله{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}الحجر21,والعلم نزل وفق هذه القاعدة بديهيا فهو ينزل بالقدر المعلوم من العلة الظاهرة لنا أو الخفية في العلم المحفوظ المكنون(الغيب),وبالتالي فهو محل ممكن للعقل أن ينظر فيه من خلال الكتاب ولو نظريا وبالواسطة وسيلةً.
إن كونية العلم كمشترك وجودي بهذه الحيثية يعطي الإنسان الحق الطبيعي أن يسعى للغيب بالقدرة الصيرورية أولا وبالفرض الرباني ثانيا على قاعدة مفادها أن العلم له طريق واحد لا يمكن أن نسلك غيره لأدراكه,هذا الطريق هو الكتاب وما يستدل بالعلم عليه من الكتاب{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}الأنعام38,فالعلم من الأشياء التي لم يفرط الله بها في الكتاب,فهي موجوده بشكل أسي جوهري هنا وليس بتفصيل جزئي,والأشكال الذي يبدو في النص بكون العلم من الله وله وحده وكيف يكون مشترك وجودي بينه وبين الإنسان يمكن تفسيره, أن ما عند الله ليس بمعنى تحريم الأشتراك هذا ولا الجزم بعدم أمكانية نواله بالطريق الذي أختطه الخطاب الرباني ولكن المعنى يحصر بمقام التملك الأستعلائي لله الذي لا يمكن للإنسان أن يقدرها ولو وصل إلى درجات عالية من العلم الوضعي,فالعلم الغيبي الكامل يستلزم له حالية كمالية متكاملة تماما لأدراكه وهذا ما لا يمكن تحصيلة عند الإنسان أي بلوغ الكمال المطلق لآنه محكوم بقواعد تتناقض مع الكمال المطلق وهذه القواعد هي الطبيعة الطبيعية للإنسان كونه خلق ضعيفا,ولأن الله لا يطلع أحدا من خلقه عليه في البعض من الجزئيات كما في حيثيات أخرى منها مثلا العليات الكلية أو الأسباب المطلقة مثلا,ولكن لكون المصدرية هي لله ومنه تؤخذ فقط{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ }الأعراف185,هذا الطلب الرباني يكشف طريقا واحدا من المسالك المؤدية لفهم العلم بما فيها العلم كماهية لأنه شي موجود,ولأن الأطلاق محتوي الأشياء كلها المخلوقة منها والتي تنطبق عليها صفة الشيئية مادية كانت أو معنوية.
يقول عالم الفيزياء الفرنسي(عبد الحق كيدردوني) الذي أعلن أسلامه نتيجة ما لمسه من توافق بين العلم والدين على مرتكز أن العلم الوضعي النامي والمتطور بالعقل والوحي بالعلم هما وجهان لأثر ماهية مستعلية واحدة,فيقول في تعليله الخاص بهذه الجزئية((يمكننا التأمل في الإجابة التي يقترحها علينا حديث قدسي ..،ويتعلق بإيراد سبب للخلق.يقول الله فيما يرويه عنه نبيّه:"كنتُ كنزا مخفيا،وأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني" تكمن علّة الخلق أساسا في حب الله لخلقه،وفي هذه الرغبة الإلهية في وجود معرفة له من غيره.كما في فيض معرفي يتنضّد إلى معرفة الله المطلقة بذاته وفي ذاته.وبناء على هذا الأساس،بنى المتصوفة وعلى رأسهم ابن عربي الملقب بـ"القطب" ميتافيزيقا الكشف الإلهي،حيث لا يوجد في مجال الكينونة سوى الله وحده.يريد الله أن يُعرَفَ عبر حجاب الكائنات والأشياء التي لا توجد في ذاتها،وليست سوى نزوع طبيعي لتقبّل بعض الصفات الإلهية،وهي تتجلى في هيئة عوارض كثيرة في عين الذات الحقّة،الله. تقدم ميتافيزيقا وحدة الوجود الإطار الشامل لرؤية للعالم تقوم على أن لكل شيء معنى، لأن كل شيء يصبح مَحْمَلا لتفكّر الله في ذاته))( أصل الكون وبدايته في المنظور الإسلامي,موقع العلم والدين في الإسلام الإلكتروني).
أننا وإن ناقشنا نظرية وحدة الوجود وبينا الأشكالات العقلية والعلمية والدينية عليها في مكان أخر من أبحاثنا,فلابد أن نشير إلى موضوعية مهمة جدا هنا وعلى عجالة لنبين أن وحدة الوجود ليس إلا تسليم بنتائج محال أن يقبلها العقل والدين أستنادا لفهم الوحدة وفهم ماهية الوجود,فالكينونة التي يشير إليها البرفسور عبد الحق والتي مصدرها فهم الحديث القدسي تستلزم عمليا وعلميا وجود مكون سابق لوجود الكينونه كما في التداعي الذي يشير إليه لأنه يشير ومن خلال الحديث القدسي ذاته إلى كون الكينونة لا تثبت ولا تنكشف إلا من خلال حد خارجي يستدل عليها,وهذا خلاف الفهم الإسلامي الحقيقي لأستدلال على الله,فالإسلام يرى أننا كموجود ممكن نستدل على وجودنا بوجود الله,وليس وجودنا طريق لمعرفة وجود الله,فالسؤال الذي طرحه اليهودي على الإمام علي عليه السلام وهو كيف عرفتم الله بمحمد أم بمحمد عرفتم الله,فكانت الأجابة تتجه ‘لى أننا عرف محمد بالله,وهي أن معرفة الوجود الأول الباعث ليست محل أجتهاد وبحث عن الدليل لأنه الحقيقة التي لايمكن أنكارها,فهل يجوز أن نقول أن الله تعالى لا يعرف إلا بخلقة وأنه محتاج للخلق ليكون معروفا,بالوقت الذي لا يمكن أن نقبل أن يكون الله في محل أمتحان وبحث عن وجوده وهو الموج الأول للوجود ومبدعه وصانعه,فالاعتراض بكون خلق الوجود المصنوع(الخلق) ليكون كاشفا للكينونة الإلهية محق لأن في مؤديات القول الأول شرك زجهالة في معرفة الوجود والموجود,الممكن والواجب.
فهنا يرد أشكالان يتعلقان بنقض وحدة الوجود ذاتها,الأولى أن الوجود لا يمكن تصور حدوثه لولا وجود كينونة الله,وهذا مسلم به,ولكن ما لا يمكن التسليم به النتيجتان التاليتان:.
1. إن كان الخلق أو الصنع الإلهي(الوجود الممكن) الذي كشف الوجودية لله هو من ذات الكينونة المكشوفة ومتوحد فيها,فلا يمكن للجزئيات أن تكشف بصغرها ودقتها الكليات إلا بالواسطة فالجزء لا يمكن أن يدرك الكل لكونه جزء ولكنه يمكن أن يتصور صورة وجوده قياسا للكل ولكن بمقياس يكون واسطة,أي أني كأنسان لا يمكن لي أن أدرك مثلا حجم الماء الموجود في الغيمة الماطرة إلا من كمية المطر النازل أي بموجب قياس توسط بين الحقيقية وبين التصور الظني عندي وهو مثال لا يقترب تماما مع البحث ولكن يعطي صورة تقريبية له,فالخلق الوجودي الذي يمكن أن يدرك الوجود بالعلم,أي الخلق المتعقل العالم لا يمكن أن يدرك كينونة الله إلا بالواسطة,وهذه من المسلمات الفكرية,فكيف يمكن لله أن يقول"كنتُ كنزا مخفيا،وأحببت أن أعرف،فخلقت الخلق ليعرفوني",فهل عرف الخلق كينونة الله بالمباشر بدون واسطة لكونهما وجود واحد؟أم عرفه بالواسطة؟فلو عرفه بالتوحد أي أن الموجد الممكن هو أما من عرض وجود أو من جوهره فيكون الله قابل لأن يتجسد لأن جزء منه قابل للتجسد وطالما كان الجزء قابل ليكون حال معين فهذا لا يمنع أن يكون الكل كذلك عقلا ومنطقا,وهذا محال قطعا لأن الخالق أسبق من المخلوق ولا يمكن أن يكون السابق هو اللاحق ولا أن يكون الأول هو الأخر ولا يقبل أن يكون المصنوع من جنس الصانع ولا يتوحدان.
أما لو عرفه بالواسطة فلابد أن يخلقها أما قبل الخلق وهو الضروري أصلا وهذا يعني تعدد في حالات الخلق وتعدد للموجودات حسب مراحل الخلق,أو بعد الخلق فأذا خلقها بعد فيكون هناك فاصل زمني حالي بين وجود علة الخلق ووالكينونة تنتفي فيه المعرفة,فاذا كانت الكينونة موجدة فيها لله والخلق موجود ولكن لا أثر للمعرفة يعني هذا حال عبثي لعدم وجود الواسطة التي توصل للمعرفة وانتفاء العلية الظاهرة لتأخرها عن الفعل الحضوري,والأحتمال الأخير أنهما خلقهما معا (الخلق) والواسطة,ولا وجود لدليل نصي أو عقلي يثبت أو ينفي ذلك,ومع التسليم به كيف تعلم الإنسان أو الموجود الممكن أن يستخدم الواسطة ليصل فيها للمعرفة وهذا يستوجب مد زمني لازم لأستخدام الواسطة,وبها نكون أمام حال وصفي عبثي كما في الأحتمال الثاني.
وهناك نقطة أخيرة في هذه الحيثية هل أن كل الوجود الممكن يعرف الله؟فأن قلنا نعم كذبتنا الطبيعة الكونية وإن قلنا لا نفينا أصلا المقولة,قد يقول المتقول أن الموجودات الممكنه منها عارف ومنها دال على المعرفة للعارف,وهذا أيضا ينفي الأطلاق في النص ونحصره في بعض الخلق الممكن الذي هو محتاج لمعرفة الدلائل قبل معرفة الموجود الأول الباعث,هذا يلجئنا للزمن والمكان والحال أي يلجئنا لأسباب أقل ما نقول عنها أنها من الخلق,فنكون في مقابل شيئية أخرى تتوسط بين الخالق الذي محتاج لأن يعرف بوجوده وبين الموجود الممكن المطلوب منه أن يعرف وهذا يعني أن المخلوق العارف لا يعرف بالضرورة ولكن يعرف بالواسطة.
2. إن كان الخلق الوجودي الممكن سواء أكان واحدأ أو متعدد هو صورة أثيرية أو أثريه للوجود الكينوني لله فهو ليس وجودا حقيقيا ولا مستقلا وبالتالي فهو فوق الخيال ودون التجسيد,ويعني ذلك أنه غير محدد ولا يمكن تحديده ولكن يمكن تصوره,هذه ينتج فهم أن طريق أنتقال هذا الخلق الوجدي من حالة تصوري إلى حالة أرقى منها يعتمد على جهد الموجود المخلوق للوصول لذلك التصور وله أن يرتقي بهذا التصور لأنه ليس ثابتا وبأمكانه بالنتيجة الأقتراب من الكينونة الوجودية التي يسميها الصوفية حضرة الوجود,وهذا يعني ولو نظريا أمكانية أندماج الوجود التصوري اللاحقيقي مع الوجود الحقيقي طالما أن الوجود واحد,فهل من الممكن نظريا أن يكون الإنسان في يوم ما جزء من الله بالترقي التصوري؟,بل هل من الممكن أن نحكم على التصور المترقي بأنه خارج العرض أم في أصل الجوهر الوجودي؟.
أسئلة قد تبدو سخيفة للعقل العلمي كما هي سخيفة للعقل الديني أيضا,فكوننا مؤمنين بالله وبرسالته لا يمكن أن نؤمن تسليما وتصديقا وبالتجربة أن يكون الترقي طريقا للأتحاد مع الوجود الدافع الأول ولا يمكن أن نسلم بأن الوجود المخلوق الموجود الممكن الأخر هو تصور للأثر الكينوني لله وأننا مجرد دلالات لذلك الوجود المطلق,لاننا موجدين بالفعل وأن وجودنا وقياسات وجودنا لو أردنا أن تكون معيارية لقياسات الوجود الدافع الأول لأبطلنا وجودنا الذاتي أصلا لأننا وبكل بساطة غير قادرين على تصور الماهية لذلك الوجود إلا بما أخبر الله به عن نفسه,فلو لم يخبرنا الله بأنه عالم خبير وحكيم وأول وباعث الخ من الأسماء والصفات فهل ممكن لنا كوجود مبعوث ثاني أن نعلم ماهية الأول؟الجواب بديهي{قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }البقرة32,فمن لا يملك معارية فهم وتحديد ماهية الوجود الدافع الأول كيف له أن يكون متحدا به أو جزء منه بقاعدة وحدة الوجود؟.
فالعلم الذي يفهمه الصوفيين ومن تأثير كما في قول البرفسور عبد الحق((لأن كل شيء يصبح مَحْمَلا لتفكّر الله في ذاته)) ليس إلا علم وهمي قائم على أساس غير معقول أساسه وحدة الوجود المفترضة بلا دليل والمكذبة أصلا بحقيقة الوجود الأول الباعث المطلق,هذه الوحدة المزعومة تقود إلى وحدة العلم كجوهر وكعرض وبذلك ننفي الغيبية ويصبح أدراكها ممكنا بطريق التلقي عن طريق كشف الحجابات التي تمنعنا تكوينا من الله,وهو بالأخر يصبح مشاعا بين الخالق والمخلوق من خلال قدرة المخلوق لهتك الحجب,أو من خلال مفهوم الفيوضات الربانية ليس بلطف رباني وأشاءة منه ولكن من خلال قوة ذاتية للسالك, ونقصد بالقوة قابلية الشيء وإمكانيته الذاتية في الكينونة,فإن قولنا إن هذا الطفل طبيب بالقوة،يقصد منه أنه قابل لأن يكون طبيباً وذلك ممكن وليس بمحال,أو كقولنا,إن هذه البذرة شجرة بالقوة، ونقصد بذلك أيضاً أنها من الممكن أن تكون شجرة،أو إن لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة,فالسالك بالفهم المتعلق بوحدة الوجود إذن بالقوة قادر على أختراق الغيب ويشارك الله في علمه.
العلم في العقيدة الإسلامية ومن مفهوم النصوص ليس إلا خلق من خلق الله محكوم بالعلة والسببية وينطلق بشيئيته من أرادة الله وحدة ولا علاقة للقوة به,وإنما ينحصر دور القوة بالأستعداد لتلقي المنزل منه ثم تطويره بالشكل الكسبي التحصيلي,وهو ما يتصل بجوهر الحركة الجوهرية الوجودية للمخلوق في حدودها المتعلقة بمخلوق أخر وجودي أيضا وهو العقل وكلاهما عاجزان بدون علية أن يدركان الشق الخاص بعلم الله المكنون{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }يوسف76,هذا العليم عنده الأسيات والكليات وهو محيط بها وهي مخلوقة له يبعثها على النحو الذي يريد لا ما على يريد المخلوق.
هنا نصل إلى حقيقية يجب أن نواجهها بشجاعة دون القلق من كونها تؤدي للشرك ومن خلال الكتاب دليلا هذه الحقيقة تتعلق بالوجود الأول الباعث,هل هو نفس كلية الوجود الذي نحن جزء منه؟,أم هو وجود أخر؟,وهل هو حقا وجود موجود كما هو وجودنا بالجوهر والعرض ؟,أم بماهية وصورة أخرى لها محددات خارج علمنا وهي من الغيب المكنون؟,وسؤال ختامي أخر هل أن وجودنا هو وجود مقابل أو مواز أو متصل بالوجود الدافع الأول؟.هذه الأسئلة لابد لها من تمهيدات قبل أن نصل لأمكانية الأجابة الحاسمة.