لماذا هذا المقال؟ سؤال أطرحه عند كل كتابة حتى لا يتيه مني القصد وتفترق بي السبل. أكتب هذا تحبيبا في علم النفس فيما يوافق عقيدتنا وفطرتنا. أكتب هذا المقال وأنا متأثر أشد ما يكون الأثر بما قدمه لي الإخصائي الاجتماعي في مدرستي من دعم وتشجيع لي ولكل زملائي وبخاصة المتفوقين والأيتام منهم ، وأظن أن هذا مما يتميز به الغرب أنهم حتى في العلوم الإنسانية التي وضعها أفلاطون على قمة العلوم قد نجحوا في تهذيب المشاعر ودعم بناء الإنسان وهندسته الجسدية والروحية على حد سواء ، ونحن الأولى ...فنحن الشرق كما نقول دوما: دين وروح. في تفسير السلوك يستخدم علم النفس مناهج متعددة ملخصها ما يلي:
أ- الاستبطان (Introspection) ومعناه أن تكون أنت من يصف شعورك وحالتك النفسية الحالية فتكون بهذا ملاحظا (اسم فاعل) وملاحظا (اسم مفعول) في ذات الوقت.
ب- الملاحظة (Observation): وهي مراقبة وتسجيل السلوك أولا بأول وهي منهج فاعل ومفيد في البحث عن نمط الشخصية وتحديد ما تعانيه سواء أكان مرضا نفسيا (أمراض عصابية) أو عقليا (أمراض ذهانية).
ت- التجربة (Experimentation): وبالطبع يعني هذا المنهج أن تضع الفروض (Hypotheses) موضع الاختبار ، وإني وإن كنت مغرما بدراسة علم النفس لكني أعترف أنه لم يصل إلى المرحلة التجريبية التي يمكن أن نسميه فيها علما ثابتا بقواعد ثابتة إذ إن النفس البشرية من التعقيد بحيث لا يمكن إخضاعها للتجربة المباشرة في المعمل ومن ثم تعميم نتائج التجربة على الجميع.
ث- الطريقة العيادية (Clinical Method): ويشمل الوسائل التي تعين على تشخيص مشكلات السلوك ومن ثم معالجتها ، ومنها وضع تاريخ مرضي للمريض والمقابلة الشخصية معه ودراسة كافة أحواله واستجاباته لمؤثرات مختلفة والإجابات على الاختبارات الموضوعية كاختبار ستنفرد بينيه المشهور للذكاء وغيره.
نأتي هنا إلى الباب الثاني في علم النفس والذي يعالج الدوافع والاحتياجات. أقول لك أيها القاريء الكريم أنت تتأثر ببيئتك لكن سلوكك ليس ردا على هذه المؤثرات بالضرورة.
والدوافع نوعان: فطرية ومكتسبة فالأولى غريزية مثل الجوع والعطش والأمومة والجنس والراحة والنوم ودخول الحمام وهي فسيولوجية (يعني تتعلق بوظائف الجسد) يشترك فيها كل بني الإنسان. وبرغم أنها فطرية لكن الإنسان يتأثر بالعوامل الخارجية في توجييها مثل التعليم والتربية فهما يحددان نوع الطعام وضبط الغريزية الجنسية أو انفلاتها مثلاً.
وأما الدوافع المكتسبة فهي قسمان: من الدرجة الأولى وترتبط بالفسيولوجية الغريزية السابقة يعني مثلا الثقافة تحدد كم عدد الوجبات التي تتناولها بل وطريقة ممارسة الجنس بين الزوجين وغير هذا. وأما الدوافع المكتسبة من الدرجة الثانية فهي ما أود التركيز عليه اليوم أيها المسلمون والمسيحيون العرب مثل: الحاجة إلى للأمن والحاجة للمحبة والحاجة للتقدير والحاجة للنجاح.
هل يمكن تعديل الدوافع وتوجيهها؟ قطعا يمكن هذا بل ويمكن التحكم في الانفعالات مثل الخوف والغضب والحسد من خلال التعليم (الذي هو تغير إيجابي في سلوك الكائن الحي) والثقافة والتربية الصحيحة وهذا يفسر لنا قول الحق تبارك وتعالى:" إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..."
وفي تعريف الشخصية وتحديد أنواعها هناك الكثير من التنظير لكني ألخص هذا كله بأن أورد سمات الشخصية السوية التي هي محل إجماع علماء النفس وعكسها بالطبع غير سوي :
1- الثبوت الانفعالي.
2- الواقعية في مواجهة مشكلات الحياة.
3- الثقة والاستقرار والتحرر من الاضطراب الانفعالي الداخلي يعني التحرر من أن يسيطر دافع معين على بقية الدوافع (مثل الجنس عندنا الذي تسبب في فضحنا على مستوى العالم بالتحرشات الجنسية المقيتة برغم مظاهر التدين الكثيرة لدينا!!!).
4- القدرة على إظهار الولاء والاستمرار والأمانة والمناعة ضد مغريات العالم الخارجي يعني ألا تجزيء المباديء فتصير متقلبا سهل الإغراء. وعليه فإن الشخصية السوية الناجحة هي التي تنجح في التوافق والتعايش بإيجابية مع الواقع الخارجي ومؤثراته. ولا شك أن مكونات الشخصية تتأثر بالوراثة (كما قال جننجز) والبيئة (كما قال واطسن) معاً.
ومرة أخرى أؤكد على أهمية التربية لأطفالنا يعني مثلاً تجنيبهم رؤية الصراعات الحادة بين الأبوين وإحاطتهم بالمحبة والرعاية والأمان وتوفير وسائل التثقيف والتعليم المناسبة وعدم الإسراف في تدليلهم. يجب أن تتقبل نفسك بعد أن تعرفها وأن تكون مرنا في التعامل مع الواقع وأن تعرف أن الدنيا كلها إلى زوال وأن أي حزن أو كارثة مهما كبرت فهي مؤقتة. يجب أن يكون هناك توازن بين جوانب الشخصية المختلفة مثل الجانب العقلي والانفعالي والاجتماعي والروحي الديني والجمالي والأخلاقي.
وكما يقول الدكتور أحمد عكاشة فنحن لا نستطيع أن نعمم على أي شعب سمات خاصة في شخصيته ، ومن هنا أتذكر أن ابن خلدون لم يكن بهذه الدقة التي يصورونه بها حيث إنه قد وصف شعوبا كاملة بالرذالة والجبن والخسة ووو...
وللشخصية ثلاثة أبعاد: الذاتية وهي رؤيتك لذاتك والاجتماعية وهي رؤية من حولك لك والمثالية وهي ما تصبو إليه والصحة النفسية هي نجاحك في التوفيق بين الثلاثة أبعاد. لكن الدكتور عكاشة وإن كان يمتدح المصريين بالشخصية الانبساطية التي تحب الاختلاط ، والدفء العاطفي ، وسهولة الإيحاء (فيما يسمى بطيبة القلب) مع الانتماء للدين والمسئولية الأسرية غير أن الكثيرين من المصريين حسب قوله يتسمون بالشخصية السلبية العدوانية الاعتمادية (الاتكالية) الاستهوائية (التي تتضخم فيها الأنا وتحب الاستعراض ويصاحبها تقلب العاطفة وسرعة وسطحية الانفعال وهي 10% من الشعب حسب تقديره ، وتظهر في النساء أكثر من الرجال).
الجميل أن عكاشة ينعى بشدة على اللغة في مسلسلاتنا وأفلامنا وإعلامنا بصورة عامة والتي تنضح بالاستهتار (طبعا عكاشة يقصد الاستهزاء ، لأن كلمة استهتار مشتقة من استهتر بفلان : صار مولعا به لا يتحدث بغيره ، وقد وردت في كلام ابن حزم في طوق الحمامة: يعود الكره حبا مفرطا وكلفا زائدا واستهتارا مكشوفاً) ، والتسيب الاجتماعي ، والانفلات النفسي ، والاتكالية ، والسخرية من القدوة والرمز والقيم وقد أتى بمثال على ذلك وهي الكوارث التي أحدثتها مسرحية مدرسة المشاغبين.
فالسينما والمسلسلات المصرية دائما تجعل الأسمر إما بوابا أو طاهيا أو سائقا لدى السيد الأبيض ، وهذا من ميراث العنصرية البغيض الذي ورثنا إياه الاستعمار.
وفي حديثه عن علاقة الأدب بالطب النفسي يقول عكاشة: إذا كانت مهمة الأديب أن يحدث الناس عن الناس (كما قال تولستوي) فمهمة الطبيب النفسي هي أن يعرف ما يدور في أعماق الإنسان ليعيد إليه توازنه مع نفسه ويصالحه مع مجتمعه ومن حوله. بل إن البعض رأى في أعمال ديستويفسكي تمهيدا لعلماء النفس لمعرفة دوافع ورغبات النفس البشرية فيما يعد.
لقد استفاد الطب النفسي من الأدب استفادة كاملة ، وأقرب الأمثلة على ذلك هو أن كل ما يقال عن العقد النفسية مشتق من الأساطير اليونانية مثل: إليكترا وأوديب والسادية والماسوكية ، وهناك مسرحيات شكسبير التي ناقشت الاضطرابات النفسية المختلفة الناشئة عن الغيرة والاكتئاب والانتحار وحب المحرمات وإيثار الملذات بطريقة محببة إلى النفس. وقد أفاض عكاشة في الحديث عن الموسيقى كما تحدث مئات غيره في كونها وسيلة علاج ومجلبة للسرور ومعينة على التخفف من الأحزان ومشاق الحياة ، والحقيقة أنه لم يبعد النجعة فإني تلقائيا عندما أسمع فيروز ربما يقشعر بدني في بعض الأحيان من جمال صوتها.
على كل حال أود بعد هذا الوصف الدقيق والكتابة المقيدة بقواعد العلم أن أخرج إلى الهواء الطلق وأستشير القراء الكرام في الشخصيات التالية وهل تتمتع بصحة نفسية أم لا:
1- أستاذ جامعي بذيء يصر على إهانة زملائه والتعالي عليهم يتحدث معنا بإنجليزية صعبة في أول عام دراسي لنا بالجامعة ويظل يتنطع متحدثا عن درجة الدكتوراه الفلصو التي حصل عليها من أمريكا عن مسرحية الفرخة أو البطة - لا أذكر - جيدا لكاتب أمريكي يعني الرجل تخطى المحيط الأطلنطي لكي يحصل على دكتوراه من قوت الشعب المسكين في كلام فارغ، وقبيل انتهاء المحاضرة البغيضة يقول: من فهم أقل من 95% من محاضرتي فليحول من الكلية فورا وإلا سينهار مستقبله!!!
2- عجوز شمطاء دردبيس أكل عليها الدهر وشرب تصر على تمثيل دور فتاة صغيرة وتتغنج في دور يشبه ما يؤديه ممثل هرم لا يملك من مقومات الوسامة سوى حركات بهلوانية في سينما أونطة في أونطة.
3- مذيع عميل للحكومة يؤمن بأن البرنامج ملاكي لحسابه ويستعرض جهله وسفاهته على المشاهدين ، ويغازل زميلته المذيعة على الهواء من حين لآخر!!!
4- رجل دين دجال نصاب يكرس الظلم ضد الناس يظهر في التلفاز لأكثر من ساعتين ينتحب ويبكي على حفيد مبارك ويؤكد ويقسم بأغلظ الأيمان أن له الجنة!!!
ملاحظة مهمة: اعتمدت في كتابة المقال على كتابين رئيسين: 1-علم النفس وأهميته في حياتنا د. إبراهيم عصمت مطاوع 2-آفاق في الابداع الفني.. رؤيه نفسية د. أحمد عكاشة.
في تبسيط علم النفس ... رؤية تطبيقية
- محمود الفقي
- أقلام متخصصة
- القلم العلمي
- الزيارات: 4732
Facebook Social Comments