استهل عبد الوهاب المسيري مؤلفه ( اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود ) ، بمقدمة عبر من خلالها عن جدة الموضوع الذي سيتناوله، طارحا في الآن ذاته الهيكل العام الذي يستوحي من منجزه تصوراته في إطار مقاربة نسقية ، تتوخى إضفاء نوع من الوحدة والتماسك على مختلف الحقائق الثقافية المرتبطة بالظواهر الإنسانية. إذ ينطلق الكاتب في مقاربته من سيادة الاعتقاد القائل بأن هناك نموذج معرفي، بمثابة الإجراء التوليدي الكفيل بتفجير مختلف ينابيع البنى الرمزية التي يهبها الإنسان للظواهر. والنموذج برأي الكاتب هو ذاك الواحد الكثير في مرائي مراياه، الذي تنتظم وتصطف بداخله تلك التعددية وفق نوع من المعقولية الداخلية، يكون فيها كل من الإله والطبيعة قطبي الرحى أما مركزها فهو : الإنسان. فهذا الأخير عنصر التوسط الإلزامي من شأنه صياغة الواقع وفق بنية تصورية ترادف رؤية الإنسان للكون، تعكس هذه البنية نموذجا معرفيا من بين نماذج معرفية أخرى (من تصور الإنسان).
وفي إطار السعي الحثيث لتعقب هذه النماذج، ينطلق الكاتب من فرضية مفادها أن هناك ترابطا بين اللغوي والديني والنفسي، على اعتبار أن الصورة المجازية أداة للتعبير وللإفصاح عن رؤية الإنسان للكون من جهة، ووسيلة للانتقال من اللغوي إلى الديني (رؤية الإله) إلى النفسي (مضمون الإدراك) من جهة أخرى.
يحاول الكاتب في الفصل الأول من الباب الأول، أن يحدد معنى المجاز وأقسامه . ٳذ يشير إلى أن وظيفته لا تختصر في إضفاء بعد جمالي على مستوى التعبير، بل تمتد لتكون مجال فاعليته، بالانتقال من العلاقات اللغوية الداخلية (الدال) إلى العلاقات اللغوية الخارجية (المدلول) . و يتحقق ذلك ضمن مجموعة من الاختيارات التي يرتبها ترتيبا يسمح له بتقريب المسافة بين الدال والمدلول ، عبر الاشتراك القائم على علاقة تسمح بالانتقال من مستوى المعنى اللغوي إلى مستوى الإحالة المجازية. وبذلك يتم الانتقال ضمنا من مستوى ما وراء المعنى إلى مستوى ما وراء الطبيعة. في هذا السياق المزدوج يتم التأكيد على تكافؤ النقلتين معا: الأولى: نقلة استعارية من الحرفي إلى المجازي، والثانية: نقلة ميتافيزيقية من الحسي إلى ما وراء الحسي. من هنا يصرح الباحث أن هناك تواقتا بين النقلة من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة، والنقلة المصاحبة لها من المعنى الظاهر إلى ما وراء المعنى، يصبح عندها المجاز وصورهُ "أداة الإنسان للتعبير عن أفكار ورؤى مركبة لا يمكن التعبير عنها إلا بهذه الطريقة" (ص18).
بناء عليه، ينتقل الباحث إلى تقديم أمثلة وشواهد توضيحية من خلال تحليل بعض الصور المجازية (كرجل أوروبا المريض) المشار إليها بالدولة العثمانية مقابل رجل أوروبا النَّهم المفترس. كما طرح الباحث صورة مجازية لليهودية في محاولة لسبر أغوار المكون الوجداني الإسرائيلي . خلص من خلالها إلى « أن ثمة إحساسات بالعبث وفقدان الاتجاه والسوداوية والحميمية والإحساس بأن حالة الحرب دائمة» (ص25). وتتجسد حالة الحرب في كلمات الشاعر الإسرائيلي "حاييم جوري" التي أفصح من خلالها على أن أرض إسرائيل لا ترتوي وأن الإنسان الإسرائيلي يولد وفي داخله السكين الذي يذبحه. حاول الكاتب أيضا رصد بعض مظاهر الإحساس بالعبث والعدمية والدمار من خلال الأغاني الإسرائيلية لكل من: أربيل زيبر وداني ساندرسون ومائير باناي، للبرهنة على أن الصور المجازية هي ذلك النداء الأصيل لفهم النصوص الأدبية أم السياسية، فهي نبض مستويات الإدراك ووجودها الحي الناطق .
على هذا الأساس، يعالج الكاتب في بداية الفصل الخامس ( الباب الأول ) رؤية الوجدان الصهيوني للعالم بوصفه سوقا: أي أن الصور المجازية هنا تعطي لكل شيء دلالة السلعة كقيمة قابلة للتداول. فالأرض عند اليهود تقدر بسعر يرادف كمية العمل الاجتماعي والقتالي المؤدى كمقابل له. وبتعبير أدق يصبح تواجد اليهود في فلسطين له دور استراتيجي يؤمن سيطرة الغرب على العالم، تتحول عندها إسرائيل إلى كلب حراسة للمصالح الأمريكية من جهة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية متكأ على مبرر أسطوري يخلق في ذهن معتنقيه وهما ازدرائيا يلغي صيرورة وديمومة الزمن من جهة أخرى. على اعتبار أن فلسطين أصبحت خارج الزمن منذ رحيل اليهود عنها، ولن يستأنف الزمن دورته إلا بعودة اليهود. مما يعني عزل وإقصاء الإنسان العربي، تغدو عندها الأسطورة الإسرائيلية يوتوبيا تعترف بالمكان خارج الزمن والتاريخ. وتتجسد فكرة العزل والإقصاء والانشغال بالمكان بدل الزمن والتاريخ في الطرق الالتفافية حول المستوطنات لتفادي النظر في السكان الأصليين من جهة، ولإطالة عمر الوهم القائم على خداع الذات من جهة أخرى.
ينتقل الكاتب في الفصل السادس لمعالجة بعض مظاهر إدراك الصهاينة للآخر (العرب الفلسطينيين)، اتخذت شكل صور تمثل الفلسطينيين بالقزم والجراد والحشرات...ثم حاول توسيع النموذج الإدراكي للصور المجازية، فقسم الصهاينة إلى رموز تحمل في طياتها دلالات تؤطر نمط سلوك وتفكير كل منها في علاقته بالآخر (الفلسطينيين) نجملها فيما يلي:
· الحمائم: بعض المثقفين والشخصيات السياسية التي تؤمن بمشروعية القضية الفلسطينية.
· الدجاج: وأعدادهم كثر، وهم متخصصون في الهرب، يظهرون القوة والعنف لكن يتصرفون بهلع.
· النعـام: هي شخصيات تستمر في خداع الذات وعدم الإيمان بالحقيقة حين دفن رؤوسها في الرمال، إذ تختزل القضية الفلسطينية والانتفاضة في إجراءات أمنية وقائية متجاهلة الحلول السياسية.
· الصقـور: شخصيات تتلبس بلبوس الحمائم تروج خطابا تحريفيا مزدوجا، كاقتراح شلوموجازيت (رئيس المخابرات الأسبق) ببناء مستوطنات تحمل اسم الفتاة الصريعة على يد أحد المستوطنين اليهود، مع الدعوة إلى إجلاء مئات العرب من المنطقة.
بعد هذا التمييز انتقل المؤلف إلى تحليل الصور المجازية المرتبطة بكلمة: الانتفاضة التي تختلف-حسب تصوره-عن كلمة ثورة المحملة ثقافيا بالتراث الغربي. على عكس انتفاضة التي تحمل في طياتها سمات الديمومة والتطهير...وهي توافق النموذج المعرفي والنسق اللغوي للتجربة الفلسطينية.