محمد ودغيري
شكلت النصوص الرحلية السفارية مرآة عكست بجلاء واقع مرحلة تاريخية مشبعة بالتحول. فقد مكنت هذ النصوص من الوقوف على طبيعة العلاقة الملتبسة التي جمعت بين "الأنا" المغربي المغلوب، و" الآخر" الغربي الغالب ، مثلما ساهمت في الإفصاح عن كل ما يستثير الطرف الأول ، وهو يبحث عن نموذجه النهضوي، لدى بلدان الشمال – البلدان الأوروبية بالتحديد-
لقد كان للهزيمتين المذلتين ، اللتين مني بهما الجيش المغربي منتصف القرن التاسع عشر ، وتأكد المخزن المغربي ومعه النخبة آنذاك من استحالة أي مواجهة عسكرية تستعيد الحقوق المغتصبة أثره في ازدهار الرحلات السفارية نحو أوروبا بأهداف مختلفة،تجتمع كلها عند رغبة المخزن المغربي في تهدئة الأوضاع مع الأوروبيين وحفزهم على الالتزام بالمعاهدات التي وقعوها مع المغرب.
هكذا تعددت الرحلات نحو فرنسا وانجلترا واسبانيا ، مخلفة نصوصا ما تزال تحفظ رصيدا معرفيا متميزا يغري الدارسين بمواصلة البحث في تضاعيفه عن كل جديد يمكن من فهم تلك المرحلة ، واستقراء خصوصياتها ، ثم تبين المعالم الأولى لمسلسل الإصلاح الذي شهده المغرب حتى عهد الحماية وما بعده. وفي هذا السياق تندرج دراستنا لرحلة أبي الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي نحو إنجلتراوالتي نحاول من خلالها تبين صورة الآخر من منظور واحد من نخبة تلك المرحلة وأحد رجالات المخزن المغربي حينها.
تكتسي الرحلة الابريزية أهميتها من كونها أتت مباشرة بعد هزيمة إيسلي ا لعسكرية ، كما أنها –أي الرحلة- تكشف البوادر الأولى للعلاقة بالآخر بعد الهزيمة ، وتفصح عن مجموع الأسئلة القلقة التي كانت تشغل بال النخبة يومئذ.
أولا : عن الرحالة والرحلة
1-ترجمة الرحالة:
هو أبو الجمال محمد بن عبد الرحمن بن محمد الرضي بن يوسف بن محمد أبي عسرية بن علي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي . واحد من كتاب المخزن المغربي أيام السلطانين المولى عبد االرحمن وابنه سيدي محمد بن عبد الرحمن.
ولد بفاس سنة 1246ه-1830م.وبها تلقى تعليمه . التحق بالقصر الملكي واحدا من كتابه ، كما داوم على إلقاء دروسه العلمية بجامعة القرويين، ما دفع ناسخ الرحلة إلى أن يعده من زمرة العلماء النفاعين.
توفي سنة 1868 .أي بعد ثمان سنوات من الرحلة التي كان ضمن بعثتها إلى انجلترا.1.
2-الواقع المغربي زمن الرحلة:
إن معرفة الواقع المغربي زمن الرحلة لاشك تفيد في إضاءة النص ، وتبين الخلفيات التي دفعت الرحالة إلى التركيز على جوانب بعينها، وايلاءها ما تستحق من العناية والاهتمام ، خاصة وأن الرحلات السفارية وما أعقبها من تدوينات لم تك قط تعبيرا عن رغبة فردية في التدوين والتوثيق ، بل إنها كانت تعكس حلما جماعيا في الإفادة مما يمكن أن يؤهل مجتمع الرحالة للنهوض وتدارك البون الشاسع الذي يفصل بين مجتمعين وبين زمنين – مجتمع غربي يعيش زمن حداثته، ومجتمع عربي ما يزال حبيس وثوقياته ، قابعا في ضعفه وتخلفه-.
ومنه يمكن القول إن جميع محاولات الإصلاح التي شهدها المجتمع المغربي بعد معركة ايسلي ، وتلك التي بدأها سيدي محمد بن عبد الرحمن ، وتابعها مولاي الحسن الأول رحمهما الله ، كانت نتيجة لكل هذه الكتابات الكثيرة التي كان يضعها كتاب السفارات في الرحلات التي يؤلفونها ، وفي التقاريرالتي كانوا يرفعونها للمسؤولين.2.
أ-سياسيا:
شكل احتلال الجزائر سنة 1830 بداية مرحلة جديدة بالنسبة لكل شمال إفريقيا باعتبار أن الحدث لم يخص الجزائر وحدها، بل إن الدول المجاورة قد تحملت صدمة الاحتلال.3.. وعلى رأس هذه الدول كان المغرب. فقد وفدت عليه بعد احتلال العاصمة الجزائرية أفواج من المهاجرين ، كانت تعليمات السلطان المولى عبد الرحمن تحث على إحسان وفادتهم ، دلت على ذلك رسائله إلى عماله " فكل من ورد منهم قابله بالبشاشة والقبول واجبر خواطرهم بالإكرام ولين الجانب، فإن جبر القلوب واجب ، وأحرى إخواننا المسلمين الذين قهرهم العدو واستولى على أملاكهم وبلادهم وفروا بدينهم"4.
ولم يقف الدعم المغربي عند حدود إكرام وفادة الجزائريين، بل تجاوزه إلى دعم عسكري بأسلحة وذخائر وخيل ... غير مبال باحتجاجات وإنذارات السلطة الفرنسية حتى اضطر إلى مواجهتها عسكريا في معركة ايسلي سنة 1844، انتهت بهزيمة نكراء عرت حقيقة الضعف والهشاشة التي يوجد عليها العسكر المغربي ، وشجعت القوى الاستعمارية الأخرى على التكالب عليه ، حتى كانت هزيمة ثانية أمام الاسبان في معركة تطوان سنة 1860 ، تلك الوقعة التي أزالت كل حجب الهيبة المتبقية عن بلاد المغرب . فاستطال النصارى بها كما يقول الناصري في الاستقصا وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله ، وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير.5. إذ سيرغم المخزن المغربي أمام الضغوط المتتالية إلى التوقيع على معاهدات نالت من سيادته وانتقصت من سلطانه على أرضه ؛ أولى هذه المعاهدات كانت اتفاقية الصلح والهدنة مع انجلترا سنة 1856، والتي صادق عليها العاهلان مولاي عبد الرحمن والملكة فكتوريا ، معاهدة ضمت بنودا واشتراطات مجحفة للمخزن المغربي .6.
ب- اقتصاديا:
لم يكن من الممكن والحال السياسية كما وصفنا أن يكون الاقتصاد المغربي معافى، فقد زادت معاهدة 1856، التي سلف الحديث عنها من تأزيمه ، خاصة وأنها تضمنت شروطا مجحفة إذ فرضت حقوقا جمركية ثابتة على الدولة المغربية – الفلايك- وأن لا تزاد عقوبة المهربين البريطانيين على نسب حددها الطرف البريطاني .7.ثم معاهدة 1861 والتي فتحت موانئ المغرب ومصايده الساحلية وخفضت من حقوق رسو السفن بالموانئ ، كما وطدت حق الحماية الاسبانية للرعايا المغاربة .8. ليحرم بيت المال المخزني من موارد مالية هامة ، خاصة وأن حقوق الأبواب بالمدن والأسواق نزل مردودها كما انخفضت رسوم " النزالات" أي المحطات التي يستريح بها المسافرون.9.
هكذا إذن كان الاقتصاد المغربي غارقا في ضعفه البنيوي – اقتصاد بدائي يتوسل أدوات بسيطة في القطاعات الفلاحية والصناعية والتجارية – ومهيمنا عليه بمعاهدات واتفاقات مجحفة فرضها قانون المتغلب.
ج- اجتماعيا
تأثرت الأوضاع الاجتماعية التي كان عليها المغرب زمن الرحلة بماسبق الحديث عنه من أزمات سياسية واقتصادية ، فقد كانت الحياة الاجتماعية للمغاربة متخلفة جدا ، تعتمد نمطا يمكن وصفه بالبدائي في آلياته ووسائله ، محراث السكة العتيقة ، الرحى اليدوية ، ونادرا المائية ، المغزل النسوي ، لا صناعة باستثناء بعض الخزف ، والنسيج المنزلي البسيط ، لاطرق معبدة ولا إنارة ولا وسائل نقل جرارة .10.تستوي في ذلك البوادي و المدن ، فقد ظلت راكدة على مر عصور النهضة الأوروبية باستثناء بعض المنشآت الدينية والسكنية بالنسبة للمستويات الرفيعة.11.
إننا بالجملة أمام بنية اجتماعية متواضعة جدا ضاربة في البساطة تعتمد نمط عيش متقشف ، يغلفه الجهل والأمية السائدة بكثرة، إنها جميعا عوامل شجعت الغازي الغربي على الاستقواء ومهدت الطريق أمامه لاسستيطان هذا البلد وبلدان أخر تتجاور في التخلف قبل جوار الجغرافيا.
ثانيا : انجلترا في مرآة الرحلة
1-انجلترا – نظرة عامة-
تتقدم إلينا انجلترا من خلال ما كتبه الفاسي في صورة من التمدن تعكس السياق الحضاري الذي يعيشه المجتمع الغربي يومئذ؛ تفوقا لم تستطع انطباعات الفاسي وأدعيته حجبه ، بل إنها على العكس من ذلك زادت في تعزيز حضوره وتأكيد حقيقته. فما كان يحتاجه الفقيه الفاسي هو فرصة ركوب البحر واستقبال الشمال لتتهدم الصورة " اليقين" صورة تشكلت في ضوء واقع مغربي مهزوم ، منشد إلى يقينيات مضطربة ، تشرعن ضعفها استقواء بالماضي ، وتغالب المعرفة العقلية بفهم سطحي للدين، فالغربي كافر خاسر مهما علا مكانة، والمغربي المسلم ، ظافر وإن ضعف وتقهقر ، وشتان مابين عقل نوراني يهتدي بالدين ويتفيأ نوره ، وعقل ظلماني أدرك الآلات دون الآيات ، يقول الفقيه.
إن ما عايشه الفاسي عن قرب ، وفي مدة تجاوزت الشهرين من مظاهر المدنية الانجليزية تقنية ، بنية تحتية و معمارا وقوة سلاح ... لاشك زاد من تعميق جرحه ، هو الفقيه الممتلئ بيقين النصر الثابت ، المؤتمن على هوية تكاد تمحي في واقع آمن أهله بأن " أقواكم أتقاكم" ، لذلك لم يكن يسعه سوى تبخيس العقل الغربي وذم يقينياته ، ثم محاولة النهل من منجزاته وترجمتها في بطاقة كما سماها، علها تجد من يفيد منها في بناء مشروع نهضة الإلحاق. فالنهضة في حينه ضالة المغربي والمشرقي على السواء ، فإن وجدت بأرض الانجليز فهما أحق الناس بها.
إنها منطلقات تشكل في نظرنا أساسا لفهم الصورة التي يقدمها النص الرحلي سواء في جانبها المستحسن أو المستهجن.
2- انجلترا، المستحسن والمستهجن
نؤكد بدءا أن شعور الاستحسان والاستهجان الذي يقابل به الفاسي مظاهر الحداثة الانجليزيه وخلفياتها المعرفية ، إنما يتحدد بطبيعة الذهنية التي يصدر عنها بصفته إنسانا ينتمي إلى وسط ثقافي ينماز بخصوصيات عقدية وفكرية تختلف بشكل كلي عن البلد المرتحل إليه .فالرحالة بهذا المعنى لا يستحسن إلا ما تحسنه ا لذات الجمعية ولا يستهجن إلا ما تستهجنه. ولما كان الرحالة يزور انجلترا وفي ذهنه سؤال مؤرق – سؤال مرحلة تاريخية – حول التقدم\ التخلف، فإنه لم يلتفت في تدوينه إلا إلى الجوانب التي رآها تشكل لبنات للتحديث الذي تتشوف إليه نفوس قوم أضناها التخلف وأعنتها المستعمر وضغوطاته. هكذا ركز الفاسي في وصفه لانجلترا على الجانب التكنولوجي ، ثم الجانب العسكري ، كذلك ما يتعلق بالبنية التحتية ، والملامح العمرانية ، ناهيك عن النظام كقيمة انضافت إليها قيم جمالية أخرى استثمر فيها الانجليزي ؛- الحدائق والمتاحف ...كما سنبين فيما يأتي..
2-1-وجه انجلترا المستحسن
أ-انجلترا بلد النظام
إن أول صورة يلتقطها الفاسي للآخر الانجليزي بعد أن ولى وجهه شطر الشمال هي صورة قبطان السفينة في لطفه وأدبه الجم ، لطفا وأدبا لم يتوقعهما رحالة تتزاحم في ذهنه صور نمطية لاترى الأدب والأخلاق إلا مقترنين بالإسلام ، لذلك وجدناه يبدي اندهاشه تجاه هذا الذي لم يدر بخلده ؛ يقول " ...واسم رئيسه بلغتهم – كبطن شلص يوارط- - وهذا الرئيس مع كفره تعجبنا من إحسانه ، وحسن شيمه وأدبه ومساعدته لنا وملاطفته ، وددنا أن لو كان مسلم.12.
هي مؤشرات دالة في رأينا؛ ذلك أن معرفة الآخر كفيلة بإزاحة ركام من الصور النمطية التي تربى في ضوئها الرحالة ، صور لم تحفظ للكافر إلا حق أن يكون مسلما ، غير عابئة بتراث أخلاقي جميل تلخصه مقولة الامام علي كرم الله وجهه" الناس صنفان ، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"...ومع أن الرحالة ظل محافظا على جدار الفصل بين الكفر والايمان وبالتالي استحالة اللقاء،الا أن كلماته تشي بمعنى إنساني مشترك بين عالمين ونسقين ثقافيين ظل أمل اتصالهما تمنيا مشروطا- وددنا أن لوكان مسلما-!! بكل ما تنطوي عليه لفظة الاسلام من معان تتجاوز دلالتها العقدية إلى دلالات إنسانية تؤسس للسلم والسلام الذي لم تكن الأقطار المغاربية تنعم به حينذاك، وهي تعيش تحت وطأة الغازي " الكافر"...
وفي المركب دائما ، يستثار الفاسي لمنظر هؤلاء الانجليز المنظمين، وقد انصرف كل فرد منهم إلى المهمة التي أنيطت به " ..فمنهم المكلف بالذهاب والإياب في المركب وهذا يسمى عندهم –بالوردن- أعني الحارس ، ومنهم المكلف بزيادة البحر ونقصانه "11. إنه النظام الذي يفقده الرحالة في بلده ، حيث سيادة الفوضى والارتجال ، وهما سببان من بين أسباب أخرى وقفت وراء الانحطاط الذي صار إليه المسلمون عموما والمغاربة على الخصوص.
لم يكن الفاسي وحده الذي شد إلى منظر النظام الذي ميز الأوروبيين ، بل إن من سبقه و أتى بعده من الرحالة أسهبوا جميعا في وصف ذلك والثناء عليه ، مثلما فعل الحجوي حين زيارته فرنسا وانجلترا ، ملخصا حال أهل الدولتين بجملة " والكل على نظام تام ، وسكينة ووقار وأدب عام ، يحترمون القانون والأوامر الملوكية احتراما فائقا حد التصور "13.كذلك حينما وقف الصفار يتجرع مرارة الحسرة ، وهو يقارن بين حال الجيشين الفرنسي والمغربي ، منتهيا إلى أن الأول وأهله إنما غلبوا " بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب.14.
إنها مواقف تعكس من جهة ، وعي هؤلاء الرحالة بأهمية النظام ودوره في كل إقلاع مغربي منشود، مثلما تعكس الواقع الذي صدر عنه هؤلاء والمتميز باضطرابه وهشاشة السلطة المشرفة عليه.
ب- انجلترا بلد التقنية
إن حديث الطاهر الفاسي عن التقنية حين اصطدم بها في رحلته، وإسهابه في تعداد مظاهرها ينم عن وعي مبكر بما يمكن أن تلعبه التكنولوجيا من أدوار طلائعية في نهضة المجتمعات المتخلفة حال بلده، إذ كيف يطمح إلى رقي قوم مازالو يتدبرون أمور حياتهم بوسائل بدائية؟..
يقف الفاسي على ميزان الطقس مسهبا في وصفه وذكر أدق تفاصيله فهو" آلة شبه المجانة المعروفة ، وصورتها دائرة مركبة من نحاس وغيره، وعليها زجاجة ، وبهذه الدائرة عمود متصل بها ووسطها كله منحوت ...وبأعلى الوسط –مرى- كما للمجانة وبجنبها ثقالتان من بلور ، فإذا قرب تغير الزمان من صحو إلى غيم مثلا تغير الزئبق ، تنجذب الثقالتان – المرى – فيتحرك ، فينزل على رسم الشتاء أو الصحو أو الغيم مثلا..15.
إن وصفا بهذه الدقة لا يحضر عبثا في النص، إذ من المعلوم أننا لا نحفظ الأشياء – حتى بعد طول العهد بها- إلا في حال تمكنت منا . والتمكن هنا لا يحتاج إلى دليل ، فالرحالة يظهر من خلال وصفه رغبة أكيدة في الإفادة من الموصوف والإهتداء به في واقع كان نشاطه الاقتصادي ومايزال يعتمد على مدد السماء وعطايا البحر " فلاحة وصيدا وبحريا..إن موقف الفاسي أمام ميزان الطقس لايعدله إلا دهشة العمراوي أمام التلغراف ، الآلة التي رآها مما " يذهل ذهن العاقل ويستريب فيه السامع والناقل "16، بل إنه كلما أمعن النظرفيها لم يقف لها على " عبارة تشتمل على حقيقتها ، وتستوفيها –حتى إن- كثيرا ممن ينظر إليها لا يعرف كيفية الدلالة عليها17.
بقدر ما يعكس هذا النص انبهارا ، يعكس كذلك عجزا موجعا ، يجلي حجم الهوة التي تفصل بين الواقعين الفرنسي والمغربي؛ إذ في الوقت الذي صار فيه التلغراف جزءا من حضور الآخر في الزمن ، ماتزال الذات عاجزة عن فهمه ؛ فكيف تسميه!. إن اللغة تقف عاجزة يضيق أفقها التعبيري أمام هذه العجائب التي استوقفت المغربي وهو يلج عالم الآخر الغربي المتقدم ، فلم يعد له من وسع سوى امتطاء الشعر أملا في فسح تعبيرية قد تستوعب أشياء ليس للغة العرب بها قبل ، وهو ما يلخصه البيت الذي اختتم به الفاسي وصف " المعجزات " الانجليزية؛ يقول :
الله أخر مدتي فتأخرت حتى رأيت في هذا البلد عجائبا 18.
ج- انجلترا العمران والحدائق الجميلة
ليس العمران مجرد دور وأبنية يتفنن قوم في تشييدها والعناية بها ، بل إنه معلم من معالم التحضر والتمدن الذي تعيشه حضارة وأهلها . من هنا كانت دهشة كتاب الرحلات السفارية أمام الجوانب العمرانية التي وقفوا عليها في أوروبا ، فقد عكست لهم مقدار التفوق الحضاري القائم بين موطن الذات وموطن الآخر. فدار الملكة فكتوريا هي من العجائب التي وقف عليها الفاسي في رحلته ، دار " مفرشة بالزرابي ، وكلما تذهب شيئا الا وترى تماثيل على أشكال سود وبيض ، وفيها قباب عظام –كل واحدة مفردة بلون من الديباج..19.
إنها أوصاف تعكس تفنن القوم في تجميل حياتهم كما تعكس عظمة وهيبة الدولة التي ينتمون إليها...غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن التفنن في بناء الدور وتزيينها لا يقتصر على الملوك والقادة فقط بل هو شيء يتساوى فيه الجميع ويتشاركه ن أكد ذلك كل من زار أوروبا من الرحالة العرب‘؛ يقول الحجوي " فإذا انتقلنا من شوارعها – يقصد باريس- إلى منظر الدور وهي في الحقيقة قصور ومخازنها ورحابها ، فهناك يدهش اللب وتحصل الحيرة ، فلا تظن أن تشييد القصور وتجنيد المصانع قاصر على الملوك بل هو موجود لعموم الأمة ، فغالب دور باريز هي قصور شاهقة "20.
إن دهشة الحجوي تعبر في حقيقتها عن الوجع الذي استبد بالرحالين وهم يلحظون كيف افتن هؤلاء في تزيين دنياهم بعدما قطعوا مسافات في درب الحضارة الباسق ،- ارتقى الشعب فارتقت الدولة..-
ويقارن العمراوي بين دور المغرب ودور باريس فيجد أن دورهم ليست بالساحة والفوقي والسفلي والبيوت والغرف كما عندنا، فإنهم يتركون ساحة الدار خارجة عنها مرفق لوقوف نحو الكراريص والدواب.21
كما أنهم يتركون مخازن يجعلونها تحت الأرض بقدر وسع الدار فيها يكون المطبخ ومحل خزن الحطب والفحم وغير ذلك من الأمور الخشنة22.
إن الاختلاف القائم بين الدور وشكلها في البلدين ليس تعبيرا عن مظهر عمراني فقط، بل هو أكثر من ذلك يعكس اختلافا بين نسقين ثقافيين، يحمل كل منهما نظرة خاصة للوجود وللإنسان، مثلما يحدد طبيعة العلائق الاجتماعية ؛ مجتمع " الأنا" محافظ له عاداته وتقاليده المحتكمة إلى قيم دينية بالأساس ، ومجتمع " الآخر" متحرر تسنده قيم حداثية تنهل من خطاب إنساني يتحدد بالحرية شرطا في كل الاختيارات الحياتية.
وإلى جانب العمران، يحدثنا الفاسي عن الحدائق التي تزين شوارع لندن وفضاءاتها فوسط " هذه المدينة كله بساتين وحدائق وغيرذلك ، وفي وسط هذه البساتين من أنواع النوار مالا يوصف ، على ىتركيب غرسه ومباشرة أمره ن وفي وسطها أيضا كراسي عديدة، معدة للجلوس بقصد النزهة والفرجة.23. إنها إحدى معالم المدنية الانجليزية ن وأحد محددات المدينة باعتبارها فضاء حديثا ، يختلف عن مدن المغرب آنذاك والتي كانت عبارة عن فضاءات بدائية حيث لا إنارة ولا طرق معبدة...
هكذا إذن ترتسم صورتان متناقضتان ؛ صورة " الآخر"في احتفائه بالحياة وتجويد إيقاعها ، عمرانا وفضاءات خضراء، وصورة "الأنا" وهي تسكن مدنا غارقة في الظلام يخيم فيها الصمت ويتمشى في شوارعها " القحط" .إنه إحساس لم يجد الفاسي لدفعه سوى الارتكان إلى منطلقاته الايمانية في تأويل المنجز الكفري " و هو يرى كيف فاض جمال الانجليز وأدبهم على خيولهم العجيبة والمؤدبة ، حتى إنه بلغ من أدبها أنها " لاتصهل عند الاجتماع ولا تمهمه ، مع أنها فارهة وعلى الركض شارهة"24.
أي إحساس كا ن يحز قلب الفاسي وهو يلتفت عن إغواء الحياة ، هربا من التسليم بقدرة الآخر، ولسان الحسرة يقول" فسبحان من سخر لهم الأشياء مع اتباعهم الأهواء..25.
د- البنية التحتية في انجلترا
إن حديث الرحالة الفاسي عن المرسى وإمعانه في وصفه، وكذا حديثه عن القنطرة العظيمة يجد دافعه في الواقع الذي خلفه وراءه بالمغرب ؛ حيث لاشبكة طرقية ولا سكة حديد ، ولا موانئ مجهزة تمكن من إرساء قواعد تنمية اقتصادية مرجوة. فالقناطر وإن كانت تعكس قوة الانجليزي وعظمته من جانب ، فهي تشي بوعيه المبكر بأهمية الشبكة الطرقية في الرواج الصناعي والتجاري من جانب آخر.
لقد وقف الفاسي عاجزا امام عظمة القنطرة التي تأتى له مشاهدتها يقول " وهذه القنطرة يعجز الواصفون عن وصفها لطولها وجودة بنائها "26. ولسنا ندري أهو عجز أم هروب من غواية المدنية الانجليزية ومن الافتتان بها ، تلافيا للسقوط في المحظور. وما يدعم ترددنا في قبول عجزه ، ما يورده من تنبيه حيث يقول" ثم اعلم أن نظرنا في هذه الأشياء إنما كان تبعا وإسعافا في خاطر ملكتهم إذ طلبت منا ذلك مرارا، وكان نظرنا وفكرتنا مجموعة على قضاء غرض مولانا أمير المؤمنين ، أدام الله لسيدنا النصر والتمكين آمين"27.
ومهما يكن من أمر تردد الفاسي ، فإنا وجدنا رحالين آخرين وقفوا أمام منشآت الآخربكثير من التواضع والخشوع ، من بينهم الحجوي الذي أثنى على قناطر باريس حتى إنه عد إحداها من عجائب الدنيا وغرائب أعمال البشر ، يصف إحداها بكونها حديدية " على أقواس بناء عالية عددها ستة عشر قوسا غاية في الضخامة ، تسلك تحتها المراكب الصغرى وفوقها الأتوموبيلات والمشاة وغيرهم، تسع أربع عجلات على الأقل في وسطها ، دون ممشى المشاة يمينا ويسار"28.
وهذا العمراوي يقف مسلما بعظمة العقل الغربي والفرنسي حين وقعت عينه على القطار والسكة الحديد التي " هي من عجائب الدنيا التي أظهرها الله في هذا الوقت على أيديهم – يقصد الفرنسيين- تحار فيها الأذهان ويجزم الناظر إليها بديهة أن ذلك من فعل الجان وأنه ليس في طوق إنسان"29.
هكذا إذن تبدو الفروق بين الأنا والآخر، بين إنسان يمسك بأدوات العقل ليحلق في سماوات الإبداع ، وإنسان عطل العقل وتحصن بأردية الجهل، فشتان ما بين الاثنين...
ه- عسكر الانجليز
يكتسي حديث الفاسي عن العسكر الانجليزي وقوته أهمية خاصة لاعتبارات سلفت الإشارة إليها، أبرزها أن المغرب خارج لتوه من هزيمتين عسكريتين مذلتين- إيسلي وتطوان- كشفتا عن ضعف بين للقوة العسكرية المغربية كما أزاحتا حجب الهيبة السميك عن الدولة المغربية، فصارت نهب مطامع القوى الاستعمارية ، من هنا كان حديث الفاسي ينطوي على رغبة حقيقية في تملك أسباب القوة العسكرية التي يتميز بها الانجليز ، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، تحدث عن الجيش و عن نظمه ، عن انضباطه وعن الاستعراضات العسكرية التي حضرها إلى جانب الملكة فكتوريا ، وعن صنعة السلاح ومصانعه وتكلفته ........وغيرها.
يتحدث الفقيه المغربي عن العسكر الانجليزي بدهشة لا تخطئها عين القارئ ، يقول " ورأينا ترتيبا عجيبا، وأسلوبا غريبا ، ربما اندهش رائيه وهال بغتة ملاقيه ، وهذا العسكر الجديد تميز عن العسكر القديم الآتي ذكره ، فماتميز به أن أرباب موسيقى هذا العسكر لهم أبواق عظام- وأطبال- كذلك ويتشكلون في اللباس ، وعدتهم أحسن من عدة العسكر القديم"
يكشف النص عن الشعور الذي يقابل به المغلوب الغالب ، فما وقفت عين الفاسي على شيء إلا رأته عظيما حتى أبواقهم وطبولهم في حجم عظمتهم ، ناهيك عن ترتيبهم العجيب وأسلوبهم الغريب الذي تذهل له العقول ، كما يورد الفاسي . ويبقى التفاته إلى الترتيب والنظام يذكرنا بما كتبه بروكلمان عن معركة إيسلي ، وكيف استطاعت قوة منظمة محدودة العدد أن تهزم جيشا ارتجاليا بسيطا في تسليحه وتنظيمه يقول : وفي 14 آب دارت رحى المعركة في وادي إيسلي ، أحد روافد نهر تافنا ن بين الفرنسيين والجيش المراكشي وكانت عدته 65 ألف رجل تحت قيادة ابن السلطان ، ولم يكن تحت تصرف بوجو أكثر من ستىة آلاف مقاتل ومع ذلك استطاع أن يهزم هذه الجيوش الضعيفة السلاح ، الفاقدة النظام .30.
هكذا يضع بروكلمان الأصبع على سبب الهزيمة ، والذي يعود أساسا إلى كون الجيش المغربي كان يفتقد عنصرين أساسيين هما النظام والسلاح... لقد أحس كل كتاب الرحلات السفارية بغبن موجع وهم يشاهدون ما وصلت إليه الدول الغازية من مستوى عسكري ومن نظام لم يألفوه في أوساطهم ، وأكثر من عبر عن هذا الغبن محمد الصفار في رحلته إلى فرنسا ، لما شاهد من ضبط وقوة العسكر الفرنسي الذي لايفوق الرحالة وقومة بشجاعة ولا بغيرة دين ، يقول " مضوا وتركوا قلوبنا تشتعل نارا لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن تربيتهم ، ووضعهم كل شيء في محله ، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله ، فما أحزمهم وما أشد استعدادهم وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم ، وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم لابقلوب ولابشجاعة ، ولا بغيرة دين ، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب ".
إنه نص يلخص – في نظرنا – حقيقة الذات والآخر ، كما يلفت إلى حقيقة النصرالتي لا تتأتى بالغيرة وحدها ، ولا بالحوافز الدينية فقط ؛ بل إن النصر الحقيقي يتأتى بالأخذ بأسباب القوة وبذل الوسع في تملكها ، وهو أمر واضح بصريح الدين ، فهيهات تنتصر الفوضى على النظام وهيهات تنتصر الشعارات الجوفاء .. عن شيئا من هذا الفهم هو الذي استدعى تحفز السلطان المغربي وحاشيته بعد الهزيمة للقيام بمحاولات إصلاحية تأسست بدءا على محاولة بناء الجيش من جديد والنظر في شؤون تسليحه وتنظيمه ، وهو أمر انخرطت فيه رحلة الفاسي ، حيث وجدنا صاحبها قد خصص حيزا هاما للحديث عن السلاح ومصانعه كما سبقت الاشارة إلى ذلك .فعن محلات السلاح يقول " ورأينا محلا منها ، طوله ميل وعرضه كذلك، وهو مملوء إلى سقفه بالكراريط العظام والوسط والصغير على أنواع وهي إما من حديد أو نحاس أو من خشب..."31.، كما لم يفته الحديث عن كلفة هذه الصناعة العسكرية والعناية بأهلها ، وهو أمر لم يكن يخطر ببال المؤسسة الرسمية بالمغرب حينها ، وإنما ستعمل على تداركه فيما بعد خلال المشاريع الإصلاحية التي سينهجها السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن إذ سيصار إلى التفكير في تخصيص ميزانية للتسلح وتنظيم الجيش حتى وإن تحتم فرض جبايات إضافية توفر مداخيل مالية لذلك.هكذا يذكر الفاسي بأجر صناع السلاح فيقول: " ثم إن عند الرجال العملة القائمين بهذه الصناعات ستة آلاف ، وأجرة المعلمين في كل يوم ريال ونصف ، والمتوسط نصف ريال أو نصف وربع والمتعلم ربع ريال ، وحاصل صائرها في العام عشرون مليونا من الريال"32. إنها جزء من الميزانية التي تخصصها الدولة الانجليزية للعناية بالجيش وتسليحه والعمل على تطويره ، وهي كلفة وإن ارتفعت إلا أنها تبقى أساسية وضرورية لكل دولة ترغب في تعزيز حضورها في سياق سبقت الإشارة إلى أنه يقوم على مسلمة " أقواكم أتقاكم". وبالمجمل " فجميع ما تنفقه انجلترا على عسكرها في السنة هو " عشر مليونا من الريال ، وعدد العسكر البري الذي عندهم ثلاثمائة ألف كما أخبرنا هنالك من له خبرة"33.
إنها أرقام وأعداد ومظاهر قوة لم يملك أمامها الفاسي غير اللجوء إلى الله واللوذ بحماه ، سائلا تدمير دولة الكفر التي امتلكت من أسباب القوة والمنعة ما تختل له عقول قوم غارقة في الجهل ينهشها الضعف من كل جانب ، يقول الفاسي " والحاصل أنهم دمرهم الله يستعملون أشياء تدهش ، سيما من رآها فجاة ، وربما اختل مزاجه من اجل ذلك ولاحول ولا قوة إلا بالله العظيم .."34.
هكذا إذن يبدأ وجه انجلترا المستهجن في التشكل داخل الرحلة ، فبعد أن قدمت انجترا في صورة حققت أعلى درجات الكمال المادي ؛ قوة عسكرية كبيرة ، تكنولوجيا عالية ، وبنية تحتية وشبكة طرقية مميزة ، وشوارع وحدائق غناء ، كادت معها " انا" الرحالة تجن لعظمة العقل الذي صنعها ن هاهي تعود من جديد وبشكل نكوصي ، محاولة التنقيص من كل سلطان العقل وتزهد في معجزاته..
2- 2: وجه انجلترا المستهجن
سبقت الإشارة إلى أن الاستحسان والاستهجنان إنما يشرعنان حضورهما بمنطلقات عقدية وفكرية تشكلت في ضوئها ذهنية الرحالة ، وهو أمر بين في متن الرحلة .فالوقوف على مقاطعها بمنهج وصفي يفي بغرض تحديد مرتكزات هذا الشعور الضدي – رفض وقبول- فالفاسي كما بينا معجب بالانجليزي وبنموذجه الحداثي ، تأكد ذلك في ثنائه اللامحدود على مقومات هذا النموذج وكذا في الدعوة المبطنة التي ينطوي عليها ، حيث الرغبة في تملكه والبناء عليه في إطار مشروع إصلاحي مغربي، لكن ذلك كله لم يستطع أن ينسي الرحالة البحث في خلفية هذا المنجز وتحديد مدى موافقته للخلفية الدينية والثقافية لمجتمع مغربي مسلم...
أ-بين الكفر والإيمان
تتحدد علاقة الأنا بالآخر كماتصورها الرحلة من خلال هذه الثنائية المائزة ، ثنائية الكفر والإيمان؛ إيمان الأنا وانتماؤه إلى عقيدة دينية إسلامية يفصح عنها الرحالة في مستهل مخطوطه بالثناء على الله والصلاة على نبيه ، وكفر الآخر ، باعتباره يعتنق عقيدة " محرفة" في أحسن الأحوال .هكذا إذن نكون أمام دارين ؛ دار إيمان؛ ودار كفر لا يتوقع من أهلها شيء حسن ، لذلك عندما التقى الفاسي قبطان السفينة ورأى منه خلقا حسنا، لطفا وأدبا ، اندهش لذلك ، يقول "...مع كفره تعجبنا من إحسانه ، وحسن شيمه وأدبه ن ومساعدته لنا وملاطفته ، وددنا لو كان مسلما " ، وهو نص يكشف عمق الهوة التي تفصل الطرفين على مستوى الوعي كما ألمحنا إلى ذلك سابقا ؛ فالخلق الحسن حسب الفقيه لا يتصور من مسلم . وهو فهم يعززه الواقع الذي أتى منه الرحالة ، وما عايشه من ألم الهزائم على يد هذا الغازي الكافر، لتأخذ قضية الكفر أبعادا أخرى ، حيث نصير أمام كافر يستقوي بإثمه وظلمه ، يستحيل اللقاء معه إلا على كلمة الإسلام " وددنا لوكان مسلما يقول- ، أو مداهنة ومداراة تفاديا لشره. وهو ما تتيحه البعثة الدبلوماسية التي يشارك فيها الفاسي إلى جانب الأمينيين ، حيث إنه بعد أن يئست الذات – المخزن المغربي – من أي نصر يأتي عن طريق المواجهة العسكرية ، لم تجد لتحصين ماتبقى من حياض الوطن سوى المداهنة ن وتذكير الآخر بالمعاهدات التي وقعت معه.
لا يتحرج الفاسي وهو يقف على معجز الآخر ومظاهر تمدنه ، في مقابل عجز الذات وفقرها أن يرفع يديه بالدعاء إلى الله يسأله هلاكهم وإبادتهم ، يقول " الله يهلك الكافرين وينصرنا آمين".30 وهو دعاء يتكرر حين صادف في معرض زاره بعض آي القرآن الكريم مكتوبا على أرضية تطؤها الأقدام ، فاستاء وصحبه لذلك وكلموا بعض عظماء الدولة بشأنه ، هناك ختم وصفه للمشهد بعد أن أحجم عن كثير بالدعاء " اللهم احص القوم الكافرين عددا وشتتهم بددا ولا تبق منهم أحدا آمين"35.
هكذا إذن تحضر الأدعية في سياق الاحتماء الذي تلجأ إليه الذات أمام قوة الآخر الكافر وشدة بأسه . تستحسن نموذجه العسكري المنظم وسبقه التكنولوجي ، لكنها تنفر منه لكفره ولشره غير المأمون ؛ إنه منطق يتغذى على موروث ديني وثقافي ، سبق أن أشرنا إليه؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها " ، وبهذا المنطق دائما لا يرى الفاسي بأسا في الاستفادة من الانجليزي مع ذم كفره.
ب- بين العقل النوراني والعقل الظلماني
إن التمفصل الذي يقيمه الفاسي من خلال تقسيمه العقل إلى عقلين ؛ نوراني وظلماني يفيد في فهم تمثله للآخر ، وفي كيفية نظره إلى هذا الحد من القوة التي حققها على جميع الصعد.
لقد طرح مشكل التخلف /التقدم، النصر / الهزيمة ، سؤالا آخر أكثر إيلاما ، إذ كيف يتقدم الآخر الكافر ويصير إلى ما رآه الفاسي في انجلترا رأي العين ، بينما تضعف " الأنا" وتصير إلى حال تبكيها العين ؟ وهو سؤال وإن تعددت الإجابات عليه في سياق النقاش الفكري ، فقد حمله كتاب الرحلات السفارية في لا وعيهم فكان يحاصرهم كلما لمحوا من الغربي ما سحر عقولهم. لذلك كانوا يلجؤون دائما إلى تبخيس كل المنجز الغربي بمحفوظهم الفقهي والحديثي ، وكشف النقاب عن تهافته ، حين يقارن بما فات الغرب بجهلهم الإسلام والإيمان " فالعقل على قسمين ، ظلماني ونوراني ، فالظلملني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم ، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل النورانية كالإيمان بالله وملائكته ورسله، وكل ما يقرب من رضى الله ، ومن هذا الباب وصفهم الله في غير ما آية بعدم العقل وبعدم التفكر وبعدم الفقه"36.
بهذا الفهم ينسف الفاسي كل ما حققه الغربي بجهد عقله الظلماني، الذي لم يزده إلا توغلا في كفره، كما زاده بعدا عن ربه ، وهو سلوك يرضي غرور الذات الجريحة التي لا تملك من أسباب القوة شيئا، إذ ماقيمة هذه القوة الزائفة يتساءل الفقيه، إنها فقط " إشارة إلى أن طيباتهم عجلت لهم ، وذلك نصيبهم وحظهم ، وفيه إشارة أيضا أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة".37.
وبصرف النظر عن قوة هذا المنطق وضعفه ، يبقى النظر إليه في سياق الأحداث التي عايشها هؤلاء الرحالة ، وكذا البنية الثقافية والفكرية للمجتمع المغربي حينذاك مفيدا ليس في قبوله أور فضه ، بل في فهمه وتبين الخلفيات الثاوية وراءه ، خاصة عندما نجده يسند كثيرا مما كتبه الرحالة السفاريون وهم يجابهون الآخر ، ويقفون على حقيقة حداثته بعيد الهزيمة النفسية المتولدة عن الهزائم العسكرية . يقول العمراوي ملخصا حداثة الفرنسيين ومبررا سبب الكشف عنها لأبناء دينه ووطنه بالقول " وما ثم إلا زخارف الحياة الدنيا وبهرجتها وسرابها الزائل وترهاتها ، ولكن في الإطلاع على هذه الأمور ومعرفتها معرفة قدر نعمة الله على المومنين بتخليصهم من فتن الافتتان بزينتها والاغترار بعرضها الفاني الموجب للإعراض عن الله تعالى مع تحقق مصير هؤلاء إلى غضب الله وعذابه المقيم ، فإنا رأيناأناسا من العباد عقولهم كعقولنا حكم عليهم بذلك وأنقذنا منه بفضله وكرمه، وكره لنا كفرهم وفسوقهم وجبلنا على عداوة حالهم ظاهرا وباطنا .فلو لم يحصل لنا غير هذا القدر لكان متجرا رابحا وسبيلا عن طريق الخيرات ناجحا ، على أن من له أدنى سكة من عقل وأقل نصيب من ميز وفضل ، لايرضى بالعيش بحالهم ولا يغتر بسراب محالهم"38.
بهذا يحدد صاحب تحفة الملك العزيز ، الفروق بين الأنا والآخر، معلنا انتصار الأول على الثاني ، إذ ماقيمة الحياة الفانية والبهرجة الخاوية ، أمام ماينفع الناس في أخراهم.. ؟ إنه تبرير وتفسير –نكرر- تحتمي به الذات أمام سلطان التقدم البادي للعين ، فمادامت القدرة على المطاولة معدومة ، فليكن اللجوء إلى الهدم من الخارج وسيلة وحل.
وإجمالا فإن مااستهجنه محمد الطاهر الفاسي ومن جايلوه أو أتوا بعده من الرحالة ، هو كفر الغرب الأوروبي ، وعقله المتفلت من عقال الدين " عقله المسدد- الذي أدرك آلات أحبوها وتمنوا لو أن حكامهم يعملون على أخذها واستدماجها في أوطانهم ، بينما غابت عنه آيات هي ما يحرص العقل المؤمن المؤيد بالوحي على تحصيلها والاهتداء بحقائقها.
عود على بدء
لقد كان همنا في هذه الدراسة الوقوف على الصورة التي رسمها الفقيه والكاتب المخزني لانجلترا ، معتمدين لذلك منهجا وصفيا يستقرئ عددامن المقاطع الدالة في متن الرحلة والتي بدا لنا أنها تكشف عن محددات هذه الصورة . وقد وجدناها تتوزع إلى شقين ؛ شق مستحسن وآخر مستهجن . رأينا كيف أثنى الفاسي على مظاهر الحداثة الانجليزية مركزا بشكل كبير على القوة العسكرية ، واصفا الجيش ووحداته ، ملتفتا إلى السلاح ومصانعه وتكلفته ، وما تنفقه إنجلترا باعتبارها دولة قوية على هذا الجيش ، كذلك وقفنا مع الفاسي على المظاهر العمرانية ، فوجدنا منه إشادة بالقصر الذي استقبلهم وأقامت فيه الملكة مأدبة العشاء التي حضرها ورفاقه مبديا إعجابه بالحدائق التي تتوسط فضاءات لندن وجمالها ، تتبعنا معه زيارة القنطرة التي عجز والواصفون عن الإحاطة بعظمتها ، أحسسنا معه بجمال النظام حين ساد بين الإنجليز فكان سببا انضاف إلى أسباب رقيهم وتقدمهم.
ثم حاولنا تبين الجانب الآخر من الصورة ومحاولة فهمه ، إجابة على سؤال راودنا طيلة هذه الدراسة ، إذ كيف يستقيم إعجاب ونفور من شيء واحد ؟
فتبينا أن ما يستهجنه الفاسي من انجلترا هو ما يخالف معتقده ، رأيناه ينفر من كفر الانجليز ويستعظمه حتى إنه لم يستنكف الدعاء عليهم بالهلاك والإبادة ، رأيناه يستقبح عقلهم الذي أسعفهم في إدراك أمور دنياهم ، بينما فوت عليهم إدراك شؤون أخراهم- عقل ظلماني- . كما تبينا أن ذلك كله يندرج في إطار الاستقواء الذي تسلكه الذات احتماء من سطوة النموذج الغالب .
تبقى الإشارة في الختام إلى أنه كان لهذه الرحلة – مثلما كان لرحلات غيرها- أثر كبير في محاولات الإصلاح التي شهدها مغرب القرن التاسع عشر ومابعده ، خاصة محاولات الإصلاح التي قام بها سيدي محمد بن عبد الرحمن ...
فعلى المستوى العسكري – وهو الذي كان يؤرق المخزن المغربي بعد الهزيمتين – تقرر تنظيم الجيش وتجهيزه وترميم ما يمكن من المنشآت العسكرية مع توفير ما يلزم لذلك من أموال تم تحصيلها بفرض ضرائب جديدة، كما تم إرسال بعثات إلى الخارج لتلقي العلوم والفنون العسكرية بصفة خاصة .39.
وعلى المستوى الاقتصادي تم شق العديد من الطرق ومد السكة الحديد للربط بين عدد من المدن التجارية ، كما تم مد عدد من المراسي بالحاجيات الضرورية ، ناهيك عن السياسة الإصلاحية التي انتهجت في الميدان الإداري.40.
وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات لم يكتب لها النجاح بالشكل الذي أريد ، إلا أنها تبقى علامة دالة في مسلسل المشاريع الإصلاحية التي شهدها مغرب القرنين التاسع عشر والعشرين.
................................................................
1- محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية ، تحقيق وتعليق محمد الفاسي ، مطبعة جامعة محمد الخامس ، فاس 1967.
2- أورده جمال حيمر ضمن مداخلة بعنوان " سيدي محمد بن عبد الرحمن ، نموذج السلطان المجدد .موقع ديوان أصدقاء المغرب.
3- ابراهيم حركات ، المغرب عبر التاريخ ن ج 3 ، دار الرشاد الحديثة ط 3، ص 196.
4-أحمد بن خالد الناصري ، الاستقصا لأخبار المغرب ألأقصى – الجزء التاسع – دار الكتب ، الدار البيضاء 1956ص 227.
5- 32- نفسه ص 227.
6- نفسه ص 228.
7-نفسه ص 252.
8-...ص 227.
9- حسن احمد الحجوي ، العقل والنقل في الفكر الإصلاحي المغربي 1757، 1912، المركز الثقافي العربي ط 1، 2003.
10- نفسه ص133.
11- محمد الطاهر بن عبد الرحمن الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار ال إنجليزية-م. مذكور- ص 5.
12- نفسه.
13- محمد بن الحسن الحجوي ، الرحلة الأوروبية 1919، تحقيق سعيد الفاضلي ، دار السويدي للنشر والتوزيع ط1 ص 122.
14- محمد الصفار ، رحلة الصفار إلى فرنسا ، تحقيق سوزان ميلار ، - تعريب خالد بن الصغير ، ط1 ص 198.
15- محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة ألابريزية إلى الديار الانجليزية –م. مذكور- ص 6.
16- محمد بن ادريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تقديم وتعليق زكي مبارك ، مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع طنجة 1989، ص86.
17- نفسه ص 86
18- محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الابريزية إلى الديار الانجليزية – م.مذكور- ص 37.
19- نفسه ص 12.
20- محمد بن الحسن الحجوي ، الرحلة الأوروبية 1919، - م.مذكور- ص.55.
21- محمد بن ادريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز-م. مذكور- ص 57.
22-نفسه ص 57.
23- محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية – م.مذكور- ص 11.
24- نفسه ص 11.
25- نفسه ص 11.
26- نفسه ص 37.
27- محمد بن الحسن الحجوين الرحلة الاوروبية 1919، - م.مذكور- ص 45.
28- محمد بن ادريس العمراوي، تحفة الملك العزيزبمملكة باريز، - م.مذكور- ص 44.
29- محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الابريزية إلىالديار الانجليزية – م.مذكور- ص 16.
30- كارل بروكلمان ، تاريخ الشعوب الاسلامية ن ت نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي ، ط 5، دار العلم للملايين ، بيروت ص 625-626.
31- محمد الطاهر الفاسي ، الرحلة الإبريزية إلى الديار الانجليزية-م. مذكور- ص 23.
32-نفسه
33- نفسه .
34- نفسه ص 27.
35- نفسه ص 17.
36- نفسه ص 31,
37- ...ص 28.
38-. محمد بن ادريس العمراوي ، تحفة الملك العزيز بمملكة باريز- م. مذكورن ص 92-93-
39- ابراهيم حركات ، المغرب عبر التاريخ ، الجزء 3- م، مذكور، ص 255.
40- جمال حيمر – سيدي محمد بن عبد الرحمن نموذج للسلطان المجدد – مقال- موقع ديوان أصدقاء المغرب.