قراءة ذاتية لقصيدة "لاينظرون ورائهم"
للشاعر محمود درويش
القصيدة:
لاينظرون وراءهم
ليودعوا منفى
فإن أمامهم منفى،
لقد أنفوا الطريق
الدائري،فلا أمام ولا وراء،ولا
شمال ولاجنوب"يهاجرون
من السياج الى الحديقة يتركون وصية
في كل متر من فناء البيت:"لا تتذكروا
من بعدنا
إلا الحياة"
مسافرون من الصباح السندسي الى
غبار في الظهيرة حاملين نعوشهم ملئ
بأشياء الغياب:بطاقة شخصية ورسالة
لحبيبة مجهولة العنوان:
"لا تتذكري من بعدنا
إلا الحياة"
يرحلون من البيوت الى الشوارع
راسمين اشارة النصر الجريحة
قائلين لمن يراهم:
"لم نزل نحيا فلا تتذكرون"
يخرجون من الحكاية للتنفس والتشمس
يحلمون بفكرة الطيران أعلى..ثم أعلى
يصعدون،ويهبطون ويذهبون ويرجعون
ويقفزون من الصيراميك القديم الى النجوم
ويرجعون الى الحكاية.....
لا نهاية للبداية...
يهربون من النعاش الى ملاك النوم
أبيض،أحمر العينين من أثر التأمل
في الدم المسفوك:"لا تتذكروا
من بعدنا إلا الحياة
الشاعر: محمود درويش
قراءة للقصيدة:
تعد القصيدة من أبرز التعبيرات الفنية التي تنسج لنا نضج الإحساس بالشخصية العربية والقومية،وإحدى الدعامات التي تصور المعانات بشكل يسجل هذه الشخصية ويبلورها ويحدد لبنات الأمل وخطوات المستقبل،وإن كان محمود درويش غاب "وما وراء الموت"كانت مرتعه وسؤاله الدائم "بلا قدس،ما معناها"فقد حمل القضية روحه وحياته وهذه إحدى قصائده المنتقات من دواوينه جسد فيها قهر وذل الداخل المتجسد في الوطن ،فقد أصبح منفى،له جدران وأبواب موصدة.ولكن حالة الموت المتفشى والمنقاد عبر الشوارع والطرقات،وفي كل سياج يوضع على الخريطة هو صعود الى النجوم،وفرح ينعش القلب، لماضي ناقص من غير شك "لا ينظرون ورائهم" وحاضر يمسك بزمام القيد المفلت في الأيدي: فهو يريد أن يطمئن لصواب تقدير المستقبل.
فمحاولة الإنسان الخروج من عبق الموت المدبج أو المتصنع في البيت الى موت أكيد في الخارج الذي أصبح مكان يخنق رغم وساعته ،وصورة الدم المسفوك هي صورة الدولة التي خاف الشاعر أن تتلاشى كما يتلاشى ضباب الصباح أو الصباح السندسي "مسافرون من الصباح السندسي الى غبار في الظهيرة" فمن الصعب على أولئك الذين ألفوا في شبابهم وماضيهم المليئ بالألوان أن يصدقوا أن ما يمرون به هو الواقع وليس حلم الى زوال،فالسياج الذي ملئ المدينةوالجدران العازلة لن تنتقص منهم وستزيد من عدد المارين والقافزين حاملين نعوشهم لا يخافون لأن هدفهم دولة وإنتماء وهوية واحدة والمصير الذي سيلقونه لا يعدم أن يكون مصير شخص واحد لكنه بالتأكيد لن يكون مصير أمة وشعب .
لقد جسد لنا الشاعر كيف يكون القلق والخوف من مصير مجهول، وكيف يكون الخارج"خارج الوطن" ملجئ وملاذ أو لنقل هروب من سفك الدماء،والشرود والخوف المتكرر،لكن هؤلاء "لا ينفكون يرجعون الى الحكاية "بروحهم بجسدهم بكل ما لهم من حب عميق متأصل فيهم، لقد ذوت الحياة معهم ،وذوى جمالها كرف فوق غصن الزهر وإن كان يعد موقف لطيف كالصباح السندسي أو كالنصر الجريح،والطيران الى الاعلى لا يعدم ذلك .
الا ان الصراع ، وتلك الارادة الماردة التي لا تحنى الرأس على العذاب صنعت ايمان عميق يمسك عليهم الحياة التي أصبحت تمثل الكرامة والعزة والوجود .
ولان المضارع " يهاجرون،يتركون،يرحلون،يرجعون..."يجسد مستقبل مجهول ،لكنه دعوة صريحة الى حمل النعاش ونبذ الحياة لان رسالة الحبيبة هي رسالةلكل الشعب لكل محب للوطن،فالوطن هي الأم "ملاك النوم" هي ماضي وحاضر ومستقبل يطمح أن يحقق،فهي دعوة معبأة بروح الألم المختبئ في آخر شريان بأن أترك لقدميك خطواتها وليديك ذلاتها ولتصعد الى أعلى حيث الحكاية تبدأ من جديد لشخص آخر وطفل وحبيبة
فالنصر لن يكون حبيس الحياة و الظلام المكتنف في البيوت بل يجب أن ينجرح ليسيل الدم فوق الوطن الطاهر،ويخلد الحكاية بكلمة ليست ككل الكلمات ،لان الدم صار "يسقي الزرع ويأكل البشر منه" وهي عنوان لجثة خمدت وتلبدت بين أيدي سيكون مصيرهم بالطبع المنفى،وهو استشراف للمستقبل فالداخل اصبح منفى دون شك ولكن الخارج سيكون منفى من غير شك وسيزدحم مصير الرجل الداخل والطفل والأم ،واليوم الذي صار عنوانا مجهولا سيكون عنوانا لمستقبل الشعوب الأخرى ،وأصبح الطريق الدائري واختزال المكان والزمان في البقعة الموجودة "لا أمام لا وراء،لا شمال لا جنوب "هي وصية البقاء المعدم بغبار الفناء
وان كانت للعين وهي لغة صامتة "لا ينظرون " ثلة فللصراع بين الداخل والخارج وبين الداخل والاشياء المعبئة في خزانات الوقود البرية بحث أكيد عن شئ مادي ومعنوي وهو بالذات:الحرية والرفعة الى أعلى
بقلم :طلحي نسيمة