يتميز الإنسان عن الحيوان بالنطق مستعملا لغة ما. تلعب أدوارا عدّة من بينها حفظ الهوية، خلق العلوم، نقل المعرفة، إنعاش الثقافة والحضارة. لكن يبقى الدور الأول لاللّغة هو التواصل. سائد في كل المجتمعات، هذا الأخير أفقي شفهي أساسا يمكّن الإنسان التواصل مع بني جلدته لقضاء حوائجه. وعمودي، كتابي أساسا عماده المعرفة و التفكُّر يوصل تواصل الماضي بتواصل الحاضر. فكلما طال في أمّة كلما استطاعت خلق ما يسمّى بالحضارة. أما إذا، في مرحلة ما، فقدت إحدى الحلقات فقدت الهويّة و تعطّلت الحضارة. لأن المجتمعات الشفاهيّة لا تنتج هوية، لا ثقافة و لا تاريخ بل تُمحى مع موت حكمائها الحاملين معهم ما اكتسبوه من التجارب، المعارف، القصص و الأساطير. فذاك حال المجتمعات البدائية التي لا يذكر عنها تاريخ البشرية سوى أنها كانت بدائية.
عكسهم، مجتمعات تعلّمت من كتب الحكماء و السفهاء الأقدمين منهم والمعاصرين. إستفادت منها زوال كل شيء وخافت من ذهاب العجوز و ما يحمل ويورث بعده الجهل للحاضر و المستقبل. وزّعت محتويات الرؤوس فعمّروا بذلك المجلدات و المكتبات بل شقّوا الطريق واحتفظوا بالقاطرة جارين معهم عربات التّابعين حتى ربطوا مصيرهم بمصيرهم فإن توانوا فزعوا و إن توقفوا تاهوا فنزلوا يدفعون.
كانت اللغة واحدة. يُحكى أن قوما كانوا على لسان واحد تركوا أمورهم فاتفقوا على بناء صرخ عال ليطلعوا من علاه على أمور مسبب الأسباب فخلّل لسانهم حتى تعدّدت لغاتهم فاختلفت مفاهيمهم. فأصبح كل حزب يدافع عن حقيقة لسانه تاركين مشروعهم الذي تحوّلت ريحه هباء.
تعددت اللغات فاندلعت الحروب في ما بينها فكم من واحدة اتّسعت رقعتها و كم من أخريات تقزّمت و تركت السمع والأبصار و من بعدهما الأفواه مستعمرات لغيرها في انتظار دمجها.
مُؤَكّداً أن اللغة هي أيضا تخضع لمنطق القوة و الهيمنة أو الضعف و حتى الموت. منضمات عالمية تشهد باختفاء المئات كل سنة. و أخريات تسهر على نشر وحفظ هيمنة و قوة لغاتها لما لها من أهمية قصوى لها و لمآربها.
لغات تغيرت و أخرى اندثرت أو هُضمت و تركت مكانها لأخرى قوية غالبا ما يكون وراءها طبقة متحكمة و مالكة لوسائل العمل، الإنتاج و القرارات تفرضها وتدفعها إلى المقدمة بشتى الوسائل المباشرة : كالإنفاق عليها، إنشاء وسائل ملقنة لها سمعية و بصرية، تعميمها في التعليم، العلوم، الأبحاث و في المسارح الثقافية و الفنية و زيادة، بتهييء طاقات بشرية لتعليمها وتداولها.
و بطرق غير مباشرة: بنشرها على السواد الأعظم بدون ضوابط ولا قيود حتى تعتاد عضلات الفم على تكييفها، هضمها ثم اكتسابها فالنتيجة ليس حسن النطق بل امتلاك الأفواه والتفكير بواسطتها. فمُتكلمو لغة معينة ليسوا كلهم بناطقيها بنفس اللّكنة شرطا. فبهذا كل ما تنتجه هذه اللّغة يكون منها لها وإليها ولو أنتج على صعيد زلق.
جل اللغات التي سادت وتسود مرّت عبر هذا المنوال فيكفي أن نختار مثلا الفرنسية.
قبل أن تنتشر كالنار في الهشيم و تصبح لغة عديد من البلدان، كانت الفرنسية لغة جزيرة فرنسا فقط، اي منطقة باريس و ضواحيها. هذه الجزيرة متحكمة في عديد من الوسائل تمكنت من إقصاء كل لغات المدن و المناطق المحيطة بها حيث استطاعت تعميمها عبر التعليم و فرضها كلغة تواصل في المرافق العمومية و الخصوصية، في المجالات الثقافية، الإقتصاديّة، السياسية، العلمية، الفنية و الإجتماعية. تعدت حدودها فأصبحت لغة عديد من البلدان و شغلت كثير من الأفواه في انتظار جدبها، كالفراشة المنبهرة بأنوار نارها الملتهبة، ثم صهرها.
إن الإصطدام الفُجائي مع الحداثة ترجمته، كما هو معلوم، إنهزامات في عدة ميادين: عسكرية، اقتصادية، سيادية، علمية، ثقافية و حتى لغوية.
في معركة طويلة الأمد و اكتساح مواكب للحداثة تعرف ساحة اللغات في عديد من البلدان معارك بين المحلية و الأجنبية. هذه الأخيرة يمكن أن تأخذ أقنعة مقنّنة في ما يسمّى بالعامية أو الدارجة. تعرف رواجا لذا جميع شرائح المجتمع من الأميين منهم حتى المثقفين ليسوا كلهم استثناء. تنتشر و اللغات المحلية "الرسمية"، في تنافس وهمي، يُنقض غزلها تناسبيا و اتساع رقعة الأخرى التي كانت تسميها، من قبل، أعجمية.
أساسيا، يتم ذلك من جهة أولى، طمعا في الريادة، عبر الدعم الفوقي المؤسساتي المباشر الذي تُعنى به من طرف الطبقة المتحكمة.
من جهة ثانية، مدعومة سُفليا و غير مباشرة لدى العامة التي اجتثّت، كالفرنسية، من الأبجدية الحروف المابين السنِّية كالثاء، الذال و الظاء. فأصبح نطق هذا بهدا، ثلاثة بتلات و الظلام بالضلام و قس على ذلك. تشبُّها أيضا، أزيل المثنى، الشكل، التاء المربوطة و التنوين إلى غير ذلك مما يعرفه اللغويين. هذا التبسيط الذي يتكلم عنه البعض، الحامل للإبهام والمُحرِّف للمعاني ينتج مفاهيم و مصطلحات عكسية، متناقضة ومخالفة للمسمّيات الأصلية. فعلى سبيل المثالين التاليين تتحول العافية في معجم الدارجة إلى جهنم و المثقّف، مع مساوئ تكرارالصُّدف، الى المتقّف أي الذي تعطل في وقت و زمان حرجين.
مُبسِّطين دائما، أدخلوا على حروف الهجاء و المعجم كنتيجة حروفا أعجمية ك*پ* و *ڤ* و*ݢ* و نجدها على التوالي كأمثلة في : پيرمي و پورتابل، فستيڤال و ڤيزا، ݢراج وݢال عوض قال.....
من جهة ثالثة، بالترجمة التلقائية حيث يُفرنِسُ الشخص الكلمة داخل الجملة أو يفرنسها كلّها مُدخِلا كلمات أجنبية سواء لأن لسانه فرنسي أو تعويضا لنقص و عوز في مصطلحات لغته المحلية أو لم تجد من يترجمها بعد.
من جهة أخيرة و ليست كذلك، هناك عوامل خارجية أخرى تساعد اللغة الدخيلة في الإنتشار كماً و حجماً مثل عودة الغرباء في المناسبات عالقة بألسنتهم كلمات غُربتهم كما يعلق القشُّ بحمل البعير تلقفه أفواه المستقبلين سائغة، مكيّفة و قابلة للنطق دون ترويض.
يمكن أن نزيد على هذا، الإستنساخ الثقافي والنمط العيشي بما فيهما اللغة المرتبطة جذريا بهما.
إن بعض المجتمعات متهاونة في ما يخص تفعيل اللغات المحلية و استعمالها شفهيا و كتابيا كي تبقى الحاملة الحافظة العاكسة لهوياتها، وفي انتظار الحسم يترك المجال للغة أخرى تتفشّى بخفت وحاجة الناس للتواصل كحاجتهم للأكل، الشرب و النوم.
فعليا، إن عدد الكلمات الأعجمية المتداولة يوميا، رغم قصر عمر إدخالها، ضخم و في تزايد مستمر. فهي من يسمي كل ما يتعلق بالآليات، التقنيات، المقاولات، الاقتصاد، الإدارات، المعلوماتيات، التدريس، الترفيه و الفنون...إلخ . فهي بالمجمل تغطي مصطلحات العصر وربما ما بعده.
و هم يُفرنسون دون توقف هل دنا موعد إعلان ولادة فرنسية شمال إفريقيا كما تم من قبل مع بلدان سلكت نفس النفق ومن بينها بلدان جنوب الصحراء، بلجيكا وكندا..؟
سؤال ستجيب عنه الأيام وليس الغد ببعيد.
ايدابراهيم محمد
0032(0)475354242