استلهمت البلدان العربية فيما مضى ، المتصورات و المقولات الدينية ، كقاعدة الارتكاز المتحكمة في أنظمتها الثقافية ٠فقد شكل الخطاب الديني ، النسق المرجعي الوحيد و المجال الأصلي المطلق الذي تجد فيه المفاهيم المعرفية و العملية شرعيتها ٠ غير أن التحولات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، التي عرفتها هذه البلدان ، سوغت الانفتاح على خطابات مخالفة ، تحتوي أنماطا مختلفة من الفكر ، تقدم ذاتها كسلطة معرفية ٠ فلم يعد الخطاب الديني ، الخطاب الوحيد و المرجع الأصلي الذي تستوحي من منجزه الأنظمة الثقافية استنباط تصوراتها التحليلية في مختلف جوانب الحياة ٠ بل أصبح يتموقع كجزء من هذه الأنظمة ، تتواجد بها خطابات أخرى تمثل شرعيات مغايرة ، امتاحت من العلوم و عبت من حياض شتيت من الفلسفات و المذاهب و المدارس التي تتوافق مع العقل .
لقد حاول الخطاب الديني طيلة القرون المنصرمة ، تحريرالحقل المفاهيمي في المجال السياسي و الاجتماعي و الأخلاقي من سلطان الخرافة و الوهم ، بتصحيح عقيدة الفرد ٠ على اعتبار أن ثمة قوة غامضة جاءت بالإنسان إلى هذا الوجود ، الذي يظل إشكاليا و مبهما ٠ و الحق أنه ، لمن المستحيل على المرء أن يعيش يوما واحدا ، دون أن تجتاحه أفكار حارقة حول أزمة الكينونة و كل الكوارث الوجودية المرتبطة بها ، ابتداء من الولادة و حتى الموت ، الذي يبقى الجذر الأصم للوجود البشري ٠ فلم يكن للإنسان من حلول لهذه الأسئلة الحارقة سوى الارتماء في أحضان الخطاب الديني ، و اعتناقه عن حب و شغف ، فرارا من أزمة الكينونة و ضيق المعنى ٠٠٠إلخ
إلا أن هيمنة رجال الدين و السلطة السياسية ، أخضعت الخطاب الديني للاحتكارات المذهبية المتصارعة في ظل اللعب الأكروباتي بالكلمات ، يوازيه تدويخ أذهان العامة و إرباك عقولهم حتى متاهات المجهول و الغامض ، و الانغماس في أسماء الأشياء عوض الأشياء نفسها ٠ فكان من نتائج الصراع السلبي بين هذه المذاهب ، أن أخذ كل على حدى يدعي امتلاك الحقيقة التي لا يجب الطعن فيها ، و التي يجب باسمها ممارسة كل أشكال الرقابة على الآخرين ، مع احتفاظها الكامل بهذه الحقيقة ، و عدم التصريح للأفراد إلا بكيفية التطبيق و الممارسة ٠ لقد أعطت لذاتها صلاحية التدخل المباشر و الجبري في مختلف ضروب السلوك و التفكير ، بغية التأثير في نفوس الأفراد و الهيمنة على عقولهم ، بإدعاءات متغطرسة ما أنزل الله بها من سلطان ، كالحرص على الخلاص من شرور العالم ٠٠٠
انطلاقا من هذه اللمحة التي لا تخلو من غلو و تعميم ، يمكن القول ، أن الخطاب الديني قد اكتسب أبعادا إيديولوجية و سياسية تحت مظلة المقدس ، الموظف أساسا كمطية لمركزة النفوذ و السلطة في يد الفئة الحاكمة ، عبر الوظائف التوجيهية لرجال الدين ٠ فالخطاب الديني في إطاره النظري و النموذجي يظل هو هو ، لكن تأويلاته تتعدد حسب السياق السوسيوـ تاريخي و السياسي ، و المرتبطة أساسا بمصلحة مؤسسة الحاكم و رجال الدين ٠ إذ لم يعمد هؤلاء على توضيح الخطاب الديني ـ النظري ـ على ضوء الظروف التاريخية المعاصرة له ، بل عمدوا على توضيحه وفق الظروف التاريخية المعاصرة لهم بما هم كذلك ، و تسخيره لأغراض غريبة عن معانيه ٠
أغرقت هذه الوضعية العالم الإسلامي في سبات عميق ، تتلاعب به الهرطقات و تمزقه النحل والخلافات ، إلى أن دقت طلائع الجيوش الأوروبية ، مستوطنة جل البلدان العربية حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي ٠ دخلت بعده البلدان العربية في حوار حضاري ضخم مع مخلفات التركة الكولونيالية ، قصد فهم الذات العربية لذاتها ٠نجمت عنه ردود أفعال تعددت و اتخدت شكل خطابات متمايزة ، بين من ينظر للغرب نظرة سلبية ، على أنه الميدان الحضاري الذي يحتوي موتنا ، واعتبار القديم هو مستقر المثل الأعلى لهذا العصر ٠ أي الأنساق الدوغمائية و الشكية المتصارعة فيما بينها ، و التي تبقى مجرد مظاهر لجدل خادع ، دون إخضاعها للمساءلة و النقد ٠و بين من يرى في الغرب إطارا مرجعيا لكل شيء في الحياة العربية ٠ أي كونه الوجه الحضاري البراق ، الكفيل بإطلاق سيرورة النهضة المنشودة ، و إخراج البلدان من الانسداد و الاحتقان الذي تعيش فيه مجتمعاتها بإحداث القطيعة مع الماضي ، و نزع كل إلزامية خارجية لأي ثقافة تسلطية ، وما يستتبعها من رقابة كيفما كان نوعها دينيا أو سياسيا.ثم إعطاء الأولوية في اختيار السعادة و تحديد نموذج الحياة لمبادئ العقل ؛ الحرية ، الاستقلال الذاتي ، الواجب ٠٠٠
لقد تبنى هذا التيار الخطاب الحداثي الغربي ، برصف و ضم المفاهيم بعضها لبعض،باعتبارها مسبقات و إطارات يتم حشوها بمعطيات موضوعية و واقعية، وفق قوالب معدة سلفا ٠كذلك افتراض واقع مثالي مسوغ على ضوء مقدمات سابقة له دون العمل على تبيئة هذه المفاهيم داخل تربة المجتمعات العربية ، و دون التحديد الواضح لمضامينها و دلالاتها وفق معطيات الواقع السوسيوـ حضاري العربي ٠
تجدر الإشارة في هذا الصدد ، إلى تيار بلور خطابا هجينا ،يتعايش فيه المنطق التقليدي مع المنطق الحداثي المستورد ، و يعمد إلباس الأفكار التقدمية ثوب التنظيمات المذهبية العتيقة ٠ كما يراهن على تعايش وعيين مختلفين ، يشملان حقيقتين مختلطتين بكيفية غير واعية فوق أرض خطاب واحد ٠ يعبر عن نفسه في بعض مظاهر التحديث التي يداخلها النمط الدغمائي العتيق ٠
بالٳجمال ، يمكن القول ، أن الأنظمة الثقافية العربية أصبحت تحتوي ضروبا مختلفة من الخطاب ، تدعي كل واحدة منها بناء الشرعية الفكرية والعملية من أجل المساهمة الفعالة في تأصيل التجربة السوسيوـسياسية للمواقف الفردية و الجماعية ٠ أفرزت هذه الوضعية فسيفساء ثقافية بات معها من الصعب ، أن نتحدث عن نسق مرجعي وحيد يحدد النظام الثقافي و يؤطر الفضاء العمومي ٠الأمر الذي يقودنا إلى القول بانعدام وجود معنى يؤطر هذا الفضاء.
في ظل الوضع الراهن ، يمكن طرح بعض الحلول للتدليل على السبيل الذي يمكن من خلاله القبض على المعنى ، وإن كان يظل انفلاتيا و متقلبا ، لمواجهة الانهيارات و عواقب تجزئة النظام الثقافي و تشظيه :
- فإما السماح لهذه الخطابات بالنزول إلى الفضاء العمومي من أجل التنافس عن طريق القيادة السياسية و الأيديولوجية ٠ فيكون الخطاب الأكثر شرعية ، هو ذلك الخطاب الذي يحظى بقبول أغلبية القوى الاجتماعية٠ أي الارتكاز على الفعل السياسي من أجل تصريف خطابات واعية بذاتها تطرح قضايا مختلفة ، يترك أمر تصديقها و قبولها للآخرين ٠
- وإما ، فصل الشرعية السياسية عن الشرعية الأخلاقية ، بإقرار اتفاق سياسي سابق ،يضمن شروط الاستقلالية الفردية حسب قوانين حقوقية صورية سابقة لأي وفاق أخلاقي : أي الإقرار بالشرط المتعالي الكانطي السابق لتحديدات نموذج الحياة ٠
- أو توسيع قاعدة التواصل بين هذه الخطابات ، الذي يفترض إعادة تأصيل مفاهيمها النظرية باعتماد مبدأ ( التفكير مع الآخر ) بقواعد التوافق و عقلانية الحجاج ٠٠٠ إلخ
- أو كذلك ، بإعادة ترهين و تخصيب الخطاب الديني ، و تطويعه ليتماشى مع الحاضر ، و ينفتح على المستقبل ككائن حي صالح لكل زمان و مكان ٠ الأمر الذي يستدعي دمجه ضمن سياقات جديدة و تطبيقه على مواد جديدة ، بغية الحصول على أجوبة و إيضاحات جديدة حول معناه ، و الحصول أيضا على كلمات خاصة بنا في شكل أجوبة للحظة الراهنة ٠ إنها محاولة لأرضنة الخطاب الديني من إطاره النظري اللامتناهي ، باقتطاع مشروع مفهمة محايث لراهنيتنا ٠ و يبقى صانع هذه الأخيرة زمني ، تتكشف خصوصيتها عبر ربط الخطاب بالماضي و الحاضر و المستقبل ، و بمخزون معارفنا ٠ الشيء الذي يفضي إلى تجربة شديدة الفردية محايثة لواقعنا الراهن ٠ و تبقى كل تجربة متفردة و خاصة يستحيل أن تتكرر بنفس الصورة مادام المعنى يتغير بتغير البعد الزمني .