الموت، كلما تقدم الإنسان في العمر أصبح أليفاً، مجرد طقس يتكرر بإسراف، ينسحب علي إثره جارٌ لنا في الكون إلي لا مكان تاركاً خلفه في القلوب بعض الذكريات و بعض الحنين، يرتفع إحساس اللامبالاة بالموت في قلوبنا، خاصة، عندما يفقد أحدنا ذلك الشخص الذي، لسبب ما، يصبح كل فقد بعد فقده هيناً، كان ذلك الشخص بالنسبة لي هو أبي، و أصبحت بعد موته لا أهتم كثيراً بمن مات و لا من عاش ..
لكن، في ذاكرة كل منا حتماً ذلك الشخص الذي لا يعرفه إلا في عالم الخيال ، مع هذا، فقد ترك في قلبه ندوباً و مسرات، و انتابه حلمٌ صغير ليس له أي منطق أن يراه ذات يوم و يحاكيه، " جابرييل جارسيا ماركيز "، كان بالنسبة لي، ذلك الشخص الواقف علي قارعة هذا الحلم الذي احترق منذ عدة أيام فقط، لينضم إلي كومة من رماد أحلام كثيرة قد احترقت في الطريق إلي كتابة هذا الكلام، كلام ..
نعم، سقط " ماركيز " في الفجوة التي لابد له منها، بعد عراك شديد مع مرض السرطان بدأ منذ عام " 1999 "، و ظلت الملائكة تنتظر وفادته، حتي قبل حزمة من الساعات !
لقد قام القبر بهضم جسده تماماً، لكن ضوء روحه الغامض الذي انسحب إلي اللا مكان، أصبحت خيوطه الآن، و أكثر من أي وقت مضي، معلقة في المطلق بوضوح شديد !
في مثل هذه الاوقات، ينتاب المرء شعور غامض بقرب نهايته هو، و أن حياته قد استطالت جداً، و أنه يحتاج أكثر من أي وقت مضي إلي قليل من الموت، التجوال لدقائق في ذلك اللا مكان الذي لايئوب منه المسافرون !
" جابرييل جارسيا ماركيز "، أو، " جابرييل خوسيه دي لا كونكورديا جارثيا ماركيث "، واحد من أبرز كتاب الواقعية السحرية، و الواقعية العجائبية في العالم، باعتراف العالم من القطب إلي القطب، مع ذلك قال هو عن أدبه ذات مرة :
- ليس في أعمالي الروائية التي كتبتها ما لا يستند إلى الواقع !
غريب أمر هذا العبقري، صاحب رواية "مئة عام من العزلة"، أعظم رواية كتبها أحد الناطقين بالإسبانية عبر العصور، تلك الرواية التي أحدثت، بمجرد صدورها في عاصمة "الأرجنتين" عند بداية منتصف العام " 1967 "، ضجيجاً غير مسبوق في العالم الكبير، و أثرت في معظم الأدباء الجوهريين فيه، وما زالت ، كما حدث تماماً في القرن الـ " 17 " ، لكن بتصرفات أقل، عند صدور رواية " دون كيشوت" للأديب الأسباني أيضاً، " ميجيل دي سيرفانتس " !
لقد جعلت "مئة عام من العزلة"، الأديب المصري "يحيي الطاهر عبد الله" يقف، بعد أن قرأها، علي مشارف الجنون، إذ سمع من داخله أصواتاً توحي إليه بأنه كان يستطيع أن يكتب مثلها، و هذا إحساس شهير ينتاب المبدعين عادة بعد قراءة كل عمل مفصليٍّ في مسيرة الأدب ..
"نجيب محفوظ" أيضاً، حدق النظر في هذه الرواية بلا شك، و من السهل أن نعثر في الكثير من إبداعاته علي أصداء لها احتفظت بها ذاكرته، لكن التأثير، كما التأثر، أمر أليف في عالم الأدب، و مبرر ..
"ماركيز" نفسه، تأثر كثيراً بـ " أوديب ملكاً " لـ " سوفوكليس "، إضافة إلى ذلك، من المرجح أنه قد أذاب الأسطورة اليونانية " أنتيجون " في روايته الأولي،" الأوراق الذابلة "، و على الرغم من أن النقاد في عصره أفرطوا في جلد هذة الرواية، إلا أنها، علي غير العادة في مثل هذه الظروف، لم تحقق رواجاً يذكر، و لم يحصل من ورائها على أي شيء، علي الرغم من ذلك، اعتبرها حتي النهاية أفضل أعماله علي الإطلاق، لما تميزت به من صدق و عفوية ..
كما كان للروائي " ويليام فوكنر " أيضاً، لدي " جارسيا ماركيز " أثر كبير لا يمكن التغاضي عنه، هذا الأثر يلمع كالسكين في قصته القصيرة المبكرة، " نابو، الزنجيُّ الذي جعل الملائكة تنتظر "، ذلك الغموض المبيت و الشعور المفعم بالوحدة .
و عن عنوان هذه القصة أخذت عنوان المقال !
لكن ذلك التلميذ المتواضع قد فطن إلي قيمة التكثيف و السرعة و إبداع الدهشة بشكل أعمق من أستاذه، كما لقب " فوكنر" في خطابه للحصول علي جائزة " نوبل " !
كان " جابرييل جارسيا ماركيز " يُعرف بين أفراد عائلته و بين أصدقائه بلقب " جابيتو "، فيما لقبه " إدواردو ثالاميا بوردا "، مساعد رئيس التحرير صحيفة الإسبكتادور، التي عمل كمراسل لها وناقد سينمائي في مطلع شبابه، باسم " جابو " !
كان " جابو "، فقيدنا الفادح، يمتلك مسكناً في " باريس " و آخر في " بوجوتا "، و ثالث في " قرطاجنة دي إندياس "، إلا أنه، لسبب ما، آثر أن يقضى جل حياته في مسكنه في " المكسيك" الذي استقر فيه في ستينيات القرن العشرين، هو و امرأته، مصرية الجذور !
لقد حدث، خلال دراسته، وهو في عمر " 13 " سنة، في إحدي زياراته لوالديه في مدينة " سوكر"، أن تعرف، في حفل راقص للطلاب، على " ميرثيديس بارشا "، ابنة أحد الصيادلة، و حفيدة أحد المهاجرين المصريين ذوي الجذور اللبنانية، فقرر، دون تفكير مسبق، أن يتزوجها بعد الانتهاء من دارسته،
و هذا تماماً ما قد حدث، و عقدا قرانهما في مارس العام " 1958 " في كنيسة سيدة المعونة الدائمة في مدينة " بارانكويلا " !
" ماركيز "، في مفاجأة سارة لكل المصريين، صهرنا، و نحن أخوال ولديه، المخرج السينمائي " رودريجو "، و أخيه الأصغر " جونزالو"، وهو رسام جرافيك !
هذا ما يؤكده أحد كتاب سيرته، إذ وصف ابنتنا " ميرثيديس" بأنها امرأة طويلة و فائقة الجمال، ذات شعر بني ينسدل على كتفيها، و أنها حفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو واضحاً من عظامها العريضة و عيونها الواسعة ذات اللون العسلي ..
و كان " ماركيز" يتحدث عنها دائماً باعتزاز و فخر، لقد قال عنها ذات مرة ، عندما تحدث عن صداقته مع الزعيم الكوبيِّ " فيدل كاسترو ":
- " فيدل " يثق بـ " ميرثيديس " أكثر حتى مما يثق بي !
صداقته هذه بـ " فيدل كاسترو "، و " جيفارا "، دفعت البعض إلي الاعتقاد بأنه كان شيوعياً، و هو من جانبه نفي هذا الانتماء تماماً، بل نفي انتمائه إلي أي حزب سياسي، سُأل ذات مرة :
- هل أنت شيوعي ؟!
فأجاب :
- بالطبع لا، أنا غير ذلك ولم أكن كذلك سابقًا، ولم أشكل طيلة حياتي جزءاً من أي حزب سياسي ..
مع ذلك، لقد قال لصديقه " بلينيو أبوليو ميندوثا " مرة :
- أريد أن يصبح كل العالم اشتراكيًا، وأعتقد أنه عاجلاً أم أجلاً سيكون كذلك !
و لا توجد مسافة بين العبارتين يمكن أن يتحرك خلالها أحد يتهمه بالتلون، لكن، تضارب مفاهيم الآخرين حول تعريف الشيوعية هو الذي خلق هذه المسافة المتوهمة، فالشيوعية نظرية تستحق التقدير تماماً، لكن الأخطاء التي شابت تطبيقها كانت قاتلة، جعلت من النظرية نفسها نظرية سيئة السمعة !
حتي يجد جديد، من المؤكد أن الصداقة التي جمعت بينه و بين " فيدل "، عدو " أمريكا " اللدود، كانت صداقة فكرية قبل كل شئ، و هكذا قال، و هكذا قال كل الذين لمسوه عن قرب، و لقد واظب علي حراسة رفضه لتوظيف عمله كمنبر للدعاية السياسية لأي مذهب أو نظرية حتي النهاية، و ظلت وظيفة الكاتب، بالنسبة له، هي فقط أن يبدع حرفاً جيداً، و يحرض المتلقين علي حب الحق و الحرية و الجمال ..
و لقد كتب في سياق مواز، رواية " الجنرال في متاهته "، و هي رواية ذات طابع تاريخي توثق الأيام الأخيرة من حياة الجنرال " سيمون بوليفار "، وهو واحد من أبرز دعاة التحرر في تاريخ الإنسانية، و محرر " أمريكا الجنوبية "، لكن علاقته بـ " فيدل كاسترو " فقط، هي التي جعلت " أمريكا " تتهمه في نواياه حيالها، وتحدق في اسمه النظر بريبة، لذلك، أغلقت حدودها في وجهه حتي وقت قريب، و حتي اعترف " كلينتون "، و إن من قبيل المجاملة، أن "مئة عام من العزلة " هي روايته المفضلة !
قد يعتقد الذين يكتفون بالقشور و لا يفضلون انتهاك ما ورائها أن العزلة هي الباب الملكيُّ لدخول كل من يريد أن يستوعب حالة " ماركيز "، و أنه يدين لتلك العزلة بكل وسام حصل عليه، و هو أيضاً كان يظن ذلك تماماً، لقد سأله ذات يوم " بلينيو أبوليو ميندوثا "، الذي كان بمثابة أب روحي له، و صديقه أيضاً :
- إن كانت العزلة هي المحور الرئيسي في كل أعمالك، من أين ينبغي علينا ان نبحث عن جذور الأمر؟، في طفولتك ربما؟
فأجابه " ماركيز " :
- أعتقد أنها مشكلة في العالم بأثره، كل فرد لديه تكونيه الخاص ووسيلته للتعبير عن نفسه، هذا الشعور يعم أعمال الكثير من الكتاب، إلا أن البعض منهم يمكنه التعبير عنه دون وعي !
لمس أيضاً، هذا الموضوع في خطاب قبوله لجائزة نوبل، وهو يحمل عنوان " العزلة في أمريكا اللاتينية "، حين قال :
- تفسير واقعنا من أنماط عدة، وليس من خلالنا نحن، يجعلنا فقط نشعر في كل مرة وكأننا غرباء عن عالمنا، ونصبح أقل حرية وأكثر وحدة في كل مرة ..
لكن الحقيقة أن الإنسان، فضلاً عن الكاتب، لا يمكن أن يكون انعكاساً لذاته فقط، و إذا كان كذلك فحتماً ستكون محاولات الخلق لديه شديدة الضمور، و هذا ما لا يستطيع أحد أن يتهم به " ماركيز "، لذلك، كان " جابو " انعكاساً للآخرين وذاته، فاستطاع، حين نضجت أدواته، أن يصبح عالماً قائماً بذاته!
تماماً كما استطاع أن يخلق في روايته الأشهر " مئة عام من العزلة، عالماً بكراً قائماً بذاته أيضاً، ما زال الجغرافيون حتي يومنا هذا يتعجبون من دقة تفاصيله، حتي بعد أن انزلقت " ماكوندو " في شرخ النسيان مع آخر جيل في عائلة " بوينديا "، مؤسس هذه القرية الافتراضي، و حتي ظن البعض أن قرية " ماكوندو " قرية حقيقية لا مجرد قرية ذهنية ..
من الجدير بالذكر أنه استمد جغرافية و تفاصيل قرية " ماكوندو "، تلك القرية الذهنية التي ابتكرها من جغرافية و تفاصيل مسقط رأسه " أراكاتاكا " في " كولومبيا "، لكن اسم " ماكوندو " تحديداً، كان اسماً رآه مكتوباً علي الباب الخارجي لمزرعة موز و هو طفل في أولي رحلاته مع جده، يقول عن هذه الحادثة :
- " توقف القطار في محطة ليس لديها بلدة، و في وقت لاحق مر بمزرعة الموز الوحيدة على امتداد الطريق والتي كانت تحمل اسم " ماكوندو " على بابها الخارجي، و قد لفتت انتباهي هذه الكلمة منذ أولى رحلاتي التي قد قمت بها مع جدي، و لكنني اكتشفتها كشخص بالغ و أعجبني وقعها الشعري على أذني، و لم أسمعني مرة أقول ولا وددت حتى أن أتسأءل عن معنى المفردة، حتي قرأت عنها ذات مرة في إحدى الموسوعات أن " ماكوندو " تعني شجرة استوائية تشبه شجرة السيبا " !
هذه الحادثة تفصح بوضوح أنه كان يصغي منذ طفولته إلي أصوات داخلية ترشده إلي الشجرة الغضة لذلك الأديب الذي كانه، وهي تنبت في هواجسه دون أن يدري، حتي بلغت ذروة نضجها في كتابه " عشتُ لأروي "، و لو أنصف ذاته لأسماه " ولدتُ لأروي " ..
إن كل امرئ يريد أن يتصدي لتحليل " ماركيز " كأديب جلل، يجب عليه أن يتوقف طويلاً عند أثر عائلته الصغيرة فيه ، جديه لأمه علي وجه الخصوص، و لا أظنني سوف أنحرف عن جادة الصواب إذا قلت أن معظم أعمال " ماركيز "، هي انعكاس لحياة هذه العائلة الكولومبية الصغيرة !
و لقد فطن السيد " جيرالد مارتن "، كاتب سيرته، إلي هذه الحقيقة المضيئة ..
" ماركيز "، هو ابن " جابرييل إيليخيو " و " لويسا سانتياجا ماركيز إجواران "، وُلد، كما حدد هو في مذكراته، في التاسعة من صباح يوم الأحد السادس من مارس " 1927 "،
و رفض العقيد " نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا "، جده لأمه، هذه العلاقة بين أبويه، لأن أباه عندما وصل إلى " أراكاتاكا " كان عامل تلغراف، و لم ير فيه العقيد " نيكولاس " الشخص المناسب للارتباط بابنته، حيث كانت أمه عزباء، وهو نفسه ينتمي لحزب المحافظين الكولومبي، إضافة إلى اعترافه بكونه زير نساء،
و تماشياً مع نية والدها بإبعادها عن أبيه، أرسل " لويسا " خارج المدينة، فيما تودد إليها " جابرييل " بألحان الكمان الغرامية و شلال من قصائد الغزل و عدد من الرسائل التلغرافية التي لا تعد و لا تحصى،
و استسلمت في النهاية عائلة " لويسا " للأمر، و حصلت " لويسا " على تصريح بالزواج من " جابرييل "، في " 11 " يونيو " 1926 " في كنيسة " سانتا مارتا "،
المهم، أن " ماركيز " قد استلهم من هذه القصة، قصة أبويه، روايته " الحب في زمن الكوليرا " !
و حدث بعد ولادته بوقت قليل، أن أصبح والده صيدلانياً، كيف تحول من عامل تلغراف إلي صيدلاني بهذه السهولة، لست أدري !
و في يناير من عام " 1929 "، انتقل مع " لويسا " إلى مدينة " بارانكويلا "، تاركاً ابنه في رعاية جديه لأمه، و خلال هذه السنوات الأولي من حياته، و هي سنوات التكوين، سوف يتأثر " ماركيز " إلي حد بعيد بجده لأمه العقيد " ماركيز "، و سوف يزداد إعجابه به حين يعرف من حكايا المنزل أنه قتل رجلاً في شبابه في مبارزة بينها، و أنه، بالإضافة إلى أنه كان أباً رسمياً لثلاثة من الأبناء، كان ثمة تسعة من الأبناء غير الشرعيين من أمهات عدة !
لقد كان جده محاربًا ليبرالياً قديمًا في حرب " الألف يوم "، و رجلاً يحظى باحترام كبير بين أقرانه في الحزب، واشتُهر برفضه السكوت عن مذبحة إضراب عمال مزارع الموز، ذلك الحدث الذي انتهي بوفاة قرابة المئات من المزارعين على يد القوات المسلحة الكولومبية في نهايات عام " 1928 " خلال إضراب عمال مزارع الموز، و هذا الحدث قد عكسه " ماركيز " في روايته مئة عام من العزلة تماماً !
كما نجد شخصية ذلك الجد تلمع كالخنجر في كل أعماله الأولي، كرجل يحمل داخله قلباً كولومبياً قبل كل شئ، مثل " ليس للكولونيل من يكاتبه "، و " في ساعة نحس " و " جنازة الأم الكبيرة " ..
لقد لقبه هو نفسه بـ " أباليلو "، واصفاً إياه بالحبل السري الذي يربط الماضي بالحاضر، كما كان حكاءً ممتازاً، علمه الاستعانة الدائمة بالقاموس، و كان يصحبه إلي السيرك كل عام، و كان يردد له دائماً : " لا يمكنك أن تتخيل كم يزن قتل شخص "، و هو الدرس الذي سوف يتسلل فيما بعد، بكثافة، إلي بعض أعمال الحفيد الرئيسية !
يقال أيضاً أنه وجد في مكتبة هذا الجد نسخة من كتاب " ألف ليلة و ليلة " !
كذلك كانت جدته " مينا "، كما أسماها هو، وهي " ترانكيلينا أجواران كوتس "، حكاءة ممتازة، لا تجعل المنزل يخلو ساعة من الأشباح و الهواجس و الطوالع و الأساطير كما لو كانت أمراً مألوفاً و حقائق مؤكدة، حتي وصفها " ماركيز " بـ " امرأة الخيال والشعوذة "، لذلك، كانت هي المصدر الجذري لحفيدها، كما استلهم منها شخصية " أورسولا إجواران " التي استدعاها في " مئة عام من العزلة "، و من إحدي حكاياتها أيضاً اختزن لحظة ولدت فيها فيما بعد قصته، " نابو، الزنجي الذي جعل الملائكة تنتظر " !
و تماشياً مع هذا التصور، و لتدمير نظرية تأثير العزلة في أدب " ماركيز" من جميع الجهات، نجده حين أراد أن يكتب روايته " خريف البطريرك "، انتقل مع أسرته إلي مدينة برشلونة الإسبانية، تحت ظلال حكم ديكتاتور أسبانيا الأشهر " فرانكو" قبل أن ينفق بسنوات، ليخلق عن قرب انعكاسات ديكتاتورية " فرانكو " في نفسه، و في نفوي الأسبان، و إن كان ثمة تصريح نسب إليه نفي فيه أنه استلهم ديكتاتوره الخاص في هذه الرواية من شخصية " فرانكو "، و وصف " فرانكو " قائلاً :
- كان " فرانكو " ديكتاتوراً شاحباً، فقير الألوان، من دون صبغة فولكلورية !
إلا أنني لا أميل إلي تصديق نسبة هذا الحديث إليه، أو لعله بعض هذيان الرياضة الروحية، و لعله ناجم عن الزهو بالنفس، فتوقيت هذا الحديث يعود إلي الشهور اللاحقة لفوزه بـ " نوبل "..
سواء كان يقصد " فرانكو " أو لا يقصده، فماذا يضيرنا و قد ظفرنا بصورة ثابتة للديكتاتور في كل مكان و زمان، و أصبحنا، ندرك، أن التمثيل السياسي هو المصدر المفصلي لصناعة الديكتاتورية، حيث يصبح الديكتاتور شخصاً مقززاً و دموياً وفاسداً، و بيده سلطة غير عادية، حيث يهابه الجميع، و تصل المهابة إلى تصويره كشخص خرافيٍّ يمتلك قوي خارقة، لذلك، هو يستطيع التحكم حتي في الزمن، فحين يتسائل عن الوقت، تكون الإجابة :
- هو طوع لك يا سيدي الجنرال، و كما تأمره تكون !
من الثابت أن " مئة عام من العزلة "، وضعت " ماركيز " مبكراً في مأزق كبير، فهو لم يستطع أبداً، علي الرغم من غزارة إنتاجه، أن ينتج عملاً في قامة هذا العمل العظيم،
لا " الحب في زمن الكوليرا " و لا " خريف البطريرك "، و لا " رائحة الجوافة "، ولا " ذكري عاهراتي الحزينات "، و لا حتي " عشت لأروي "، و هذه تقريباً هي أعماله الرئيسية !
وهو، لعمري، لو توقف عن الكتابة بعدها، لكانت العمل السماويَّ الرنين بالقدر الذي يكفي ليضمن له الخلود في المطلق و الذوبان فيه أبد الدهر، ..
لذلك، فإن إيقاع قلم أي أديب لم يقرأ هذه الرواية، حتماً، يشوبه بعض الاختلال ..
وداعاً جابو، صهرنا العزيز..
محمد رفعت الدومي
Facebook Social Comments