عندما صدح د.عبد الوهاب المسيري
رحمة الله عليه من اعتلاء القيمة الاستهلاكية للهرم الانساني في العصر الحديث,
ووافقه نعوم تشومسكي بالقول ان النيو ليبرالية ليست الا نوع من أنواع الافلاس, لم
يكن كلاهما يتبنى وجهة نظر
مناهضة لما هو مستقبلي بقصد الرجعية, لكن كلاهما راى
غيما في فضاء الانسانية.
عندما ترى أمامك مادة اعلانية لأحدى أدوات حلاقة الذقن الرجالية, وفيه تبدو حسناء تمسد بيديها ذقن (الموديل) ناعمة كبشرة الأطفال كما ورد بأعلان اخر لأدوات ترطيب بشرة الرجال لمرحلة ما بعد الحلاقة, عندما ترى حسناء تضع عطرا يقدمه الاعلان جاذبا بقوة للوسماء أو معجون أسنان في اعلان آخر, فعبثا ظنك انه استخدام مبتذل للعلاقة الجسدية بين الجنسين, لكنه آذان بالحقيقة التى تجاهلناها دهرا من الزمن.
فعندما نص علامة علم الاجتماع ابن خلدون بأن الانسان اجتماعي بطبعه, علل ذلك بأنه فطن الى انه لا يقوى على قضاء حوائجه كلها بمفرده فاحتاج الى التعاون مع آخرين لذلك, فلما كان الاجتماع الانساني كان في حاجة ماسة الى التنظيم عن طريق انشاء سلطة عليا تقوم بترويض الكائن البشري وتقييد نزاوته وشهواته, فانتهى المآل الى سلطة مجتمع دولى, فسلطة دولة, فسلطة جماعية فئوية أو قبلية أو آخرى, قامت بسن القواعد التى يجب ان يسير عليها الكائن البشري داخل فضائه الخاص والعام, هنا تستطيع ان تعلن ان الكائن البشري قد تم ترويض ليصير انسانا يتمتع بمشاعر وأحاسيس انسانية منبعها العقل والقلب, وأصبحت اللبيدو أو الأنا الشهوانية مبرمجة بطريقة آلية لتعبر عن نفسها بآلية متفق عليها اجتماعيا- كل فضاء اجتماعي يختلف عن نظيره- وبرزت نظريات الأنسان الأعلى أو السوبر مان كما أسماها آخرون, بعد سقوط بعض الأديان التى تلاعبت بها أيادي الكائن البشري أمام بعض الأسئلة. وأعتلت الرأسمالية هرم النظريات الاقتصادية, بعد ان كانت تنازعها النظرية اليسارية وتؤرق مضجعها, ولأن المال أمال العقول, فقد دلفت نظرية الدولة المتدخلة الى أدبيات الاقتصاد السياسي, وبدأ العالم في اتباع تلك النظرية, فسوق حرة تكفل المنافسة ودولة تقوم بالتدخل لحماية حقوق الفقراء والمعدمين في النواحى الصحية والتعليمية, لكن الثغرة كانت ها هنا, فرأس المال معنى بالدرجة الأولى بالتوسع والتمدد أفقيا ورأسيا, والتوالد الكمي الربحي. فلا مبدأ يعوق الربح تحت تحكم عشرات الأفراد في اقتصاديات دولية . فانبعث فن جديدا يسمى فن التسويق والاعلان, ولان الكائن البشري قد صار انسانا يرنو الى سماء المثالية, وهذا يتضاد مع التسويق والاعلان, فكان لا بد من ان يكون الاعلان رسولا للقيمة الاستهلاكية, دينا جديدا يتبع كل ما هو قابل للاستهلاك, صنما تتقرب اليه بالشراء المستمر,وخلقت هواية جديدة تسمى التبضع, والانسانية تتضاد في مقابل الاستهلاك, فلا يجوز الحديث عن الزهد أو العطاء في العصر الجديد. فكان لزاما ان يتم نزع الانسانية بطريقة تدريجية عن الكائن البشري, ومخاطبة الكائن المتوحش داخله, الكائن الذي يشتهي الاستهلاك, لا لمنفعة يدرها لكن لشهوة يقتضيها, فمثلا لم يعد الهاتف الجوال هاتفا يتحدث به وانما بكل كل الامكانيات التى تشتهيها ولا تتخيلها, ورأينا السيارة التى (تركن) بمفردها. هل تدرى لماذا؟؟ لانه حقك ان تتملك وتستهلك, دون النظر الى المنفعة العائدة عليك من السلعة, لكن الحق في التملك لوحده صار سببا. فهل صار هنا الاعتماد على المنفعة من السلعة؟؟ بالطبع لا.. لكن الى حقك ان تتملك ما يتملكه الآخرون, ولهذا فطنت دولة الصين فقامت بانتاج سلع زهيدة الثمن بذات (شكل) المرتفعة الأسعار, فأستوى جهازين شكلا وان اختلفا القدرات, فما الفرق بين جهاز يحوى كاميرا عالية الجودة واخرى متوسطة الجودة؟؟ هل حضرتك مصور فوتوغرافي محترف؟؟ في هذه الحالة الكاميرا عالية الجودة للجوال أيضا لا تنفعك. وكذلك رأينا الاعلانات سالفة الذكر في البداية, فماكينة الحلاقة صارت عامل جذب للحسان, ومزيل عرق المرأة كذلك, فهل هذا استخدام مبتذل للعلاقة الجسدية بين الجنسين؟؟
لا, انه جوهر الاستهلاك, فما يجذبك لشراء تلك الماكينة هي قدرتها المذهلة على جذب السيدات لا حلاقتها الجيدة.
المشكلة تكمن في ان ما سلف أخرج الكائن البشري من انسانيته وتطلعه الى فضاء الكمال الى فضاء الشهوة والنزوة, فصار الفرد يشتهى , وتم حثه على تملك ما يشتهى بكل ما أوتى من قوة ومال وذكاء, وصارت الشهوة – لا الكمال- هي المرام الجديد, فأتحداك ان تقارن دخول العلماء والمثقفين والمفكرين مع العابثين بعقول الكائن البشري, ليس في الوطن العربي فقط, بل في العالم اجمع, ولو اقتصر الأمر على الدخل لهان الأمر, لكن الاحتفاء بصاحب الفكر نفسه قد انحدر الى أسفل درجات الهرم البشري, واعتلت القمة كائنات بشرية تتغذى على الشهوة وتدعو اليها, فقارن مثلا مطربين أجيال مضت بمطربين أجيال حالية, ومفردات الأغنية بسابقتها تجد البون شاسعا.
توحش الكائن البشري هو الكارثة, فبعد ان مورس قانون آدم سميث (ألعرض والطلب) ومورس الاستهلاك بأعلى معدلاته, تمركزت الثروة المالية بأيدى مؤسسات معدودة وصارت اقتصاديات الدول شبه خاوية, فاليونان تعاني من شبح الافلاس منذ أعوام, دول أوروبية دخلت مرحلة التقشف, الولايات المتحدة الأمريكية باقتصادها الضخم دخلت في حالة كساد أفلست مؤسسات بنكية ونقدية لتمركز الثروة في المؤسسات العقارية وتضخم الفائدة المركبة, ثم الأخيرة التى أوقفت مؤسسات حكومية عن العمل لعدم استطاعة الحكومة الفيدرالية تمرير الموازنة العامة أمام غضب الحزب الجمهورى من تزايد الدين العام بالموازنة بشكل كبير, وطبعا الحزب الجمهوري يعلم انه الحزب الحاكم بعد الحزب الديموقراطي كما جرت العادة في الانتخابات الامريكية. وأفلست آحاد الشعوب, وصار المال حلما يراود المرء ككعكة العيد لليتيم.
لكن الانسان توحش وارتد الى طبيعته ككائن بشري مطلق الشهوات والنزوات, وفقد القدرة على التحكم, فصار عصبيا متحرشا, صار يهوى العنف ويمارسه, أصبح يشتهى كالطفل ويتملك كالطفل, واعتاد على ذلك, فمن سيمنعه بعد ذلك؟؟
بالاضافة الى أنه لم يعد يرى فضاء الكمال حتى يتطلع اليها, فما زالت فضاء الاستهلاك والشهوة تعلوه وتزين نفسها له؟؟
فهل سيقدر على ان ينتزع انسانيته مرة أخرى من داخله ويتذكرها؟؟ أم يرضخ تحت نيرر شهوة الاستهلاك؟؟ هل سيجد أقلاما ترشده الى انسانيته؟؟ أم سيظل عبدا لما يدعوه الاعلان؟؟ خاصة وانه فقد الحرية على اختيار ما يشاهده في ظل الفضاء الاعلامى المفتوح – كما قال الراحل د.أحمد أبو زيد- وصار يشاهد ما يعرض أمامه دون قدرة على اختياره.
هذا في اعتقادى هو اشكالية الانسان في العصر القادم, عصر ما بعد الاستهلاك.