الخط و الدائرة ثنائية أدنوية تختزل نمطين أساسيين في الفكر الوجودي على اختلاف مرجعيّاته.الخط امتداد مستقيم من نقطة البداية إلى نقطة النهاية أو ما يفترض أنّهما نقطتا البداية و النهاية.أمّا الدّائرة فهي تسلسل انحنائيّ من النقاط قد يعود على بدئه أو يكاد.لسنا هنا بصدد الحديث في مجالي الرّسم أو الهندسة و لكن المتأمّل في ما خلص إليه الفكر الإنسانيّ يمكن أن يختزل هذا الصّرح من الأفكار الوجوديّة في تمثيل أدنويّ بسيط في شكله لكنّه عميق في تأويله
هو ثنائيّة الخط و الدّائرة.
حينما استوى الإنسان واقفا على أديم هذه الأرض وجد نفسه قبالة امتداد مستقيم يدعوه إلى التقدّم فلم يكن من الغريب أن ينبني الفكر الجغرافيّ القديم على خطاطة الخط و أن يسكن فكر الإنسان القديم حلم بلوغ الهوّة السّحيقة لنهاية العالم فيطلّ على آخر نقطة من الأرض معلنا اكتشافا عظيما.هكذا كان الرّحّالة يحلمون و هم يشدّون الرحال إلى آخر هذا الامتداد المنبسط أمامهم.لكن الفكر الجغرافيّ الحديث أبى إلا أن يوقظهم من وهم ذلك الامتداد المستقيم و حلم الإطلال على هوّة النهاية فشكّك فيما يبدو بديهيّا في تصوّرهم للوجود في حدود ذلك الزّمن بإعلان كرويّة الأرض.
بدأ ذلك بملاحظة بسيطة لا تجرؤ على مواجهة صرح البديهيّات الذي كان يغرق فيه الفكر الجغرافيّ القديم فالأفق كان يميل إلى الانحناء في طرفيه. ما من إنسان لم يتأمّل ذلك الأفق لمرّة أو مرّات خلال مسيرة حياته لكن البعض فقط لاحظ ذلك الانحناء و من بين هؤلاء الأكثر جرأة فقط هو من طرح بسؤال لماذا ينحني ذلك الأفق عند طرفيه؟ كان الوقت عندها قد حان للتخلّص من خطاطة الخط و تمثّل خطاطة جديدة للوجود هي خطاطة الدّائرة و قد نجح العلم في إثبات ذلك فما من فرد اليوم يخطط للسفر نحو تلك النهاية السّحيقة للأرض أو يخشى السّقوط عن أرض يقال إنها كروية الشّكل .لم يكن من اليسير أن يقتنع أهل هذه الأرض بأنهم يقفون على نقطة ضئيلة من كرة عظمى و ذلك لأنّهم لم يتّخذوا رؤية فوقيّة لاكتشاف مجال حضورهم في هذا الوجود كما أنهم استسلموا لسلطة البديهيّ و ثقل حقائقه.
كيف اقتنع الإنسان إذا بتلك الفكرة الجنونيّة التي لا تعصف ببديهياته فحسب بل تدرج أعظم طموحاته ضمن دائرة الأوهام؟كيف لذلك الإنسان المتبجّح بذكائه أن يواجه حقيقة بساطة تفكيره؟ كانت المواجهة عظيمة بين قوّة الحقيقة البديهيّة و قوّة الحقيقة المنطقيّة العلميّة. تلك الأقليّة التي قرّرت الخروج عن خطاطة التمثّل الخطيّ للوجود من خلال الإقرار بكرويّة الأرض كان عيها أن تقدّم عديد التضحيات في سبيل الانتصار لهذه الثورة .كان سلاحهم خلال هذه المواجهة هو قدرتهم على الإجابة عن أسئلة حيّرت الجغرافيين القدامى خاصّة منها ما اتصل بنقطتي البداية و النهاية.
لا نعلم هل كان الرّحالة القدامى يطمحون إلى اكتشاف بداية الأرض بقدر طموحهم إلى السفر إلى نهايتها .هل ذلك يعود إلى أنهم يعتبرون كلّ نقطة ينطلقون منها هي البداية أم أنهم يعتبرون حضورهم على هذه الأرض محدود بمجال مغلق أي أنّ تلك الهوّة السحيقة تحيط بهم من كلّ جانب أم أنّهم اسقطوا على تمثلهم للمكان مقاييس تمثلهم للزمان الذي لا يعود إلى الماضي.
الجدير بالملاحظة هنا أنّهم رغم عمق انشغالهم بمطمح الإجابة عن سؤال النهاية و البداية لم يكونوا يمتلكون غير مجرّد تصورات خيالية عن كلا النقطتين,كان المجهول يلفّهم من كلّ جانب بداية و نهاية. فكانت هذه الحقيقة الجغرافيّة صدمة نجحت في تحقيق شروخ عميقة في صرح البديهيات. تلك التي لم تكن تملك من القوة غير القدرة على الثبات عبر الزّمن في فكر عاجز لا يملك عنها بديلا.
توسعت شروخ تلك الخطاطة البالية بترجيح كفّة المنطق العلمي و افتقار التصوّر الخيالي لبرهان قوي.و توفّت للإنسان من الوسائل المتطوّرة ما يسهل انفتاحه على محيطه الخارجي و يمنحه فرصة تحقيق رؤية فوقيّة لمجال حضوره في الكون ليلفي ذلك التّصوّر الخطيّ لجغرافيّة الأرض مجرّد فكر بدائيّ.
و لكن هل كان من الممكن الاستغناء عن تلك الحقبة من التاريخ؟ و ما أهميّة العودة إلى الحديث عنها بعد أن أمن الإنسان لخطاطة الدائرة نمطا مطابقا لحقيقة الواقع الجغرافي للأرض.
هذه العودة تردّ في الحقيقة إلى إلحاح السؤال:هل تخلّص الإنسان حقّا من خطاطة الخط بما تنطوي عليه من تصوّرات محدودة؟هل طالت تلك الثورة الجغرافية لبّ الفكر الوجوديّ للإنسان أم أنّها لم تكد تتجاوز حدود مجالها الماديّ.
يبدو الأمر مجرّد اكتشاف عظيم لخارطة جديدة للأرض و لكنه لم يثر في الإنسان ما يكفي من الشّك و الحيرة ليقرّر التحقّق من مختلف خطاطاته الفكريّة السّاكنة في جيوب البداهة .إذ لا بدّ من تجريد تصوّرنا لهذا الوجود الزّاخم بالاتجاهات و العلاقات و الوحدات ذلك التجريد الذي يقدّم خارطة بسيطة شاملة و واضحة تفتح أعيننا عن موقعنا الحقيقي و ترصد اتجاهنا و تنقي ذهننا من ضوضاء التفاصيل و أوهامها. الأمر أشبه بالنظر في جهاز راصد للموقع أثناء جولة أولى في عاصمة كبرى, تنظر من حولك فتتحقق من ضياعك أو في أفضل الأحوال تتوهم أنّك تظفر بالطريق الصحيح و تطّلع على الجهاز فتتبيّن بوضوح موقعك و تدرك أي اتجاه يجب أن تسلك رغم أنّك لا ترى كلّ التفاصيل التي تراها من حولك,ذلك أن هذا الجهاز يوفّر لك نظرة فوقيّة شاملة و واضحة بفضل تبسيطه للتفاصيل بإلغاء كل ما ليس ضروريّا و الابقاء الخطوط الأساسية للموقع .أهم ما يميّز هذا الجهاز هو القدرة على التمييز بين ما هو جوهري و ما هو عرضيّ. ثم إن فضله يكمن في الظفر بزاوية نظر ملائمة لتحقيق رؤية فوقيّة شاملة. و قبل كل ذلك هو لا يعود إلى تصوّرات مسبقة تتدخّل في تجربة رصده للموقع.
القصد من هذا المثال تبيان شروط تحقيق رؤية ناجحة لموقع الإنسان في مجال وجوده ذلك ان اكتشاف بطلان التصوّر الخطي لجغرافية الأرض كان بفضل هذه الشروط, فحينما نزع إنسان ذلك العصر رداء البداهة كان الشّك و السؤال مطيّة بحثه استطاع بفضلهما التشكيك في وجود تلك الهوّة السّحيقة التي يفزع اكتشافها أعظم الرّحالة في ذلك العصر. و لم يقرّ زيف ذلك التصوّر الا بعد الخروج عن موقعه الماديّ إلى موقع افتراضيّ من خلال مبدأي القياس و المقاربة و قد كان ذلك الإنسان عاجزا عن السّفر خارج الأرض لريادة الفضاء كما كان من المستحيل أن يتضاءل بحجم نقطة من كرة مصغّرة فكان المنطق العلمي سابقا للتجربة الماديّة و كانت الثقة في نجاعة هذا المنطق هي السبيل الأفضل لتصحيح تصوّر الإنسان لمجال حضوره فحينما نتحدّث عن جغرافيّة الأرض ما بين الامتداد المستقيم و الشّكل الكروي فإننا لا نهتم بتفاصيل التضاريس و لا نقصر فكرنا على المستوى الماديّ فحسب و لكننا نقصد لغاية تجريد هذه الثورة الجغرافيّة و اختزالها في خطاطتين فكريتين متطوّرتين من المسار الخطيّ إلى المسار الدائريّ.و قد تمكّن الإنسان بفضلهما من التطوّر من نقطة الجهل بالبداية و النهاية و الاستسلام إلى التصورات الواهمة إلى مستوى الوعي أولا ببطلان تصوّراته السّابقة و من ثمّة الإقرار بمنطقيّة الخطاطة الدّائريّة و بأهميّتها لكشف ما يحف بالبداية و النهاية من مجهول.
قد نجح الإنسان في التخلّص من خطاطة الخط في مستوى تمثّله لجغرافيّة الأرض و لكن هل تخلّص حقّا من هذه الخطاطة في مستوى تمثله لوجوده الإنساني خاصة و الأحيائيّ عموما و هل طالت هذه الثورة الجغرافيّة خارطة ذهنه بقدر ما عصفت بخارطة أرضه.