تمهيد: "الشغيل الثقافي" و "المثقف":
لو كان الأمر بيدي لبحثت عن مصطلح يختلف عن مصطلح "ثقافة"، لأنه ترجمة إشكالية لكلمة اختلف فيها الأوروبيون بين Kultur الألمانية و culture الإنجليزية ومرادفات أخرى وكلمات متقاطعة في الدلالة معها فتوجب على العرب أن يبتكروا مفهوماً يناسبهم. ولكنني هنا لست بهذا الصدد فأكتفي باستعمال مفهومي"الثقافة" و "المثقف" كما استعمل تحديداً في الساحة السورية خلال العقود الماضية، علماً أن الاشتقاق العربي لكلمة "مثقف" كتعريب للكلمة intellectual يعطي علاقة مع كلمة "ثقافة" لا يعطيها الأصل الأجنبي الذي لا يشتق ما نترجمه بكلمة "مثقف" من "الثقافة" بل من "الذهن" intellect.
(وكل مقابل عربي لكلمة أجنبية هو تقريبي يجب أن يفهم بكل حذر على أنه "مقابل" بالفعل لتلك الكلمة الأجنبية).
وللكلمة حين تعرّب تاريخ خاص بها منفصل عن تاريخها الأصلي، ويجب دراسة "معناها" لا من خلال أصلها في الاشتقاق الأجنبي، ولا (وهو بعد أبعد عن الصواب) من خلال أصل اشتقاقها العربي، بل من خلال استعمالها، ومن هنا أعود في معنى كلمة "مثقف" هنا للاستعمال الذي أعطي إليها في الساحة السورية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين. وللبرهنة القاطعة على أنها استعملت هكذا أنا بحاجة بالتأكيد إلى بحث لغوي منفصل معزز بشواهد كثيرة تكفي للبرهان، ولكنني هنا أكتفي بالاستخلاص الحدسي الذي يمكن أحياناً كما هو معلوم أن يعطي النتائج نفسها التي تؤكدها لاحقاً دراسات إحصائية دقيقة للمادة النصية المعنية.
وعلى هذا أقول: يعني مصطلح "المثقف" في الاستعمال السائد ذلك الشخص الممتلك لقدر من "الثقافة الغربية المترجمة" يميزه عن الغالبية السكانية (والعادة أن تكتسب هذه "الثقافة" من قراءة كتب مترجمة أو كتب عربية أو مناقشات شفهية تعيد ما ورد في الكتب المترجمة وتناقشه من منظور غير مبتكر غالباً ولا هو نقدي). ولو كان المرء "علامة" في الثقافة العربية الموروثة (سواء منها المكتوب باللغة الفصحى أم المتوارث شفهياً بالعامية) فإنه لا يسمى "مثقفاً" في هذا الاستعمال. أما إطلاق مصطلح "مثقف" على كل متعلم (وصل للجامعة مثلاً) فهو استعمال لا يلقى قبولاً من "المثقفين" لأنهم يميزون بين "المتعلم" و "المثقف"، ومن المهم ملاحظة أن "الثقافة الغربية المترجمة" المعترف بها على أن معرفتها هي ما يؤهل المرء لإن يكون "مثقفاً" لا تتضمن "العلوم الدقيقة" الغربية والعلوم الطبيعية، فحتى لو نلت جائزة نوبل في الفيزياء أو الطب لن تعد "مثقفا" بهذا المعنى.
وأقصد بمصطلح "الثقافة الغربية المترجمة" جملة النتاج النصي الغربي (الأدب والفلسفة إلى آخره..) الذي ترجم إلى العربية، وتلقي بطريقة معينة خاصة. وعلينا أن نلاحظ أن "الثقافة الغربية المترجمة" شيء مختلف عن "الثقافة الغربية" في حالها الأصلي دون ترجمة!
وأنا، رغم تفضيلي للاستغناء نهائياً عن مصطلح "ثقافة"، لكنني، ربما لكيلا أشغل ذهن القارئ بقضية إضافية، ارتأيت إطلاق صفة متعلقة بالفاعلية في مجال تداول وإنتاج الأفكار ذات المصدر "الغربي المترجم" (لا "الغربي" إجمالاً وهذا التمييز مهم لأجل الدقة) هي صفة "الشغيل الثقافي". وأطلق هذا المصطلح على من اشتغل بالأفكار من المصدر المذكور أعلاه أو من غيره. وعلى هذا يتميز مصطلح"الشغيل الثقافي" عن مصطلح "المثقف" في أنه أوسع دلالة فهو يضم من اشتغل بالثقافتين المحليتين الحاضرة والموروثة اللتين لم تؤخذا عبر التلقي من الخارج أيضاً علاوة على من اشتغل بالثقافة الغربية المترجمة، على حين يقتصر مفهوم "المثقف" كما قلت على المشتغل بهذه الأخيرة.
وعلى هذا يعد كاتب هذه السطور نفسه "شغيلاً ثقافياً" سورياً لنشوئه في المجتمع السوري مع كونه من أصل فلسطيني، أولاً لأن المجتمع السوري بثقافته وتعليمه وقضاياه وأولوياته هو الذي كوّنه ذهنياً وثانياً لإيمانه لحد الآن بتلك الفكرة "الخشبية" بأن العرب أمة واحدة! فلذلك آثر أن يصف نفسه باسم المجتمع الذي شب فيه وعلى اعتبار أن الفلسطينيين والسوريين هم في الحقيقة شعب واحد (ولو استعملت التعبير الشائع "فلسطيني سوري" لما ابتعدت عن الحقيقة).
(1)
كتبت القاعدة النظرية الأساسية لنظرية الشعور الجمالي والحب بين عامي 1976-1977 وكنت يومها مراهقاً يستعمل الفكر لتحليل “ما يجده” بالتعبير العربي القديم، وما كان يجده في ذلك الوقت كان ببساطة و “بدائية” هذه المصيبة التي اسمها التمييز بين الناس على أساس الشكل الخارجي ومشكلة الحب المبنية على أساس الإعجاب بالشكل.
و”المصادر” التي كانت تحت يدي للتفسير كانت نظرية نشوء المجتمع الطبقي الماركسية بأوسع معانيها أي نظرية البدء بمجتمع لا طبقي ينتقل إلى الطبقات ليعود في اليوم الموعود إلى مجتمع لا طبقي.
ومن هنا كان السؤال الذي أكدت عليه مثيرا استهجان أصدقائي الماركسيين قبل غيرهم عن ظاهرة الشعور الجمالي بهذا المعنى الخاص (أي التمييز بين البشر على أساس “جميل” و “قبيح”) متى نشأت في هذه الحقبات الثلاث الكبرى (مجتمع اللاطبقات البدائي- المجتمع الطبقي- المجتمع اللاطبقي)؟ وما أثار استهجان الأصدقاء كان النظرية التالية: إن “الشعور الجمالي” هو نتاج المرحلة الثانية أي الطبقية، ومصيره إلى الاختفاء في المرحلة اللاطبقية المرجوة! ولم يكن في ذلك إلا الخير للبشرية في اعتقادي آن ذاك لرؤيتي لمساوئ التمييز بين البشر على أساس شكلي (كنت أحس لسبب ما أني معني شخصياً بالموضوع كجزء من كوني معنياً بظاهرة الانقسام الطبقي-التراتبي التي لم أكن أحس بها بصورة خارجية بل بصورة داخلية).
وكان الحدس الموصل للفرضية الأساسية التي أعدها من ناحية شخصية “الاكتشاف” الأهم هو التالي: لمعرفة طبيعة “الشعور الجمالي” تجب معرفة طبيعة “الجمال” (لم أكن في ذلك الوقت أعلم أن هذه التعابير يطلقونها على شيء يزيد عن الاستعمال البسيط لكلمة “جمال” فبتأثير الترجمات اتضح لي لاحقا أنهم يحملونها على جمال الفن والأدب وهو جمال أعترف أنني إلى الآن لم أفهم صلة الوصل فيه بين “جمال” عمل شعري مثلا وجمال امرأة، ولا بأس علي بهذا الاعتراف لأنني بكل صراحة لم أكنّ “للمثقفين” منذ صغري قدراً كبيراً الاحترام والاعتبار!).
لمعرفة طبيعة الجمال أخذت الصفات الجمالية المعترف بها في مجتمعنا الملموس مثل بياض البشرة، لون العيون وحجمها إلى آخره، وجربت أن أثبت أن الجاذبية التي تتمتع بها وتجعل الناس يرونها “جميلة” ناتجة عن كونها السمات المميزة للطبقة الأعلى. هذه الطبقة هي التي اختفت فيها مظاهر الإرهاق والمعاناة المادية وسوء التغذية وبدت عليها “علامات” الترف. “الجمال” إذن هو سمات الترف المفقود عند الطبقة الدنيا. ومن الأمثلة التي لم أجد صعوبة في استحضارها كان واقعة العيون الزرق المستحسنة في مجتمعنا الحاضرـ ولم أجد صعوبة أيضا مستعينا بسعة اطلاعي على الأدب العربي في إثبات أن الشعور بأن العيون الزرق جميلة لم يكن موجودا منذ الأزل بل هو بدأ في مرحلة صارت فيها الطبقة الأعلى من زرق العيون. ومما تندر به بعض المعارف آنذاك ولعلهم لا يزالون يذكرون هذا قولي إن ما نراه في مجتمعنا في غاية القبح وهو الجلد الأسود كان سيصبح نموذج الجمال لو أن السود هم الطبقة العليا!.
وفي وقت مبكر أيضا يعود ربما لسنة 1975 أثناء تأملاتي النفسية تكلمت لأول مرة عن شيء سميته “الاستلاب” وعرّّفته أنه إيمان الفرد بالفكرة السلبية عن نفسه التي تجعله مثلاً قبيحاً عاجزاً بطبيعته عن فعل شيء مفيد غبياً إلى آخره. وكان استعمالي لكلمة “الاستلاب” التي مرت بي في قراءات فلسفية ماركسية جديدة على ما أظن هو نتاج غريزة لغوية ولم أكن بحال من الأحوال أحذو حذو أحد في هذا الاستعمال، وقد رأيت في سنوات لاحقة أن كلمة “الاستلاب” تستعمل عادة بمعنى بسيط لا يتجاوز معنى “الاضطهاد” (فيتكلمون مثلا عن “استلاب اقتصادي” أو حتى “استلاب سياسي”) وأردت أنا أن أستعملها بمعنى آلية نفسية خاصة.
وفي عام 1977 أدخلت مفهوم الاستلاب لأول مرة في مجال توسع “نظرية الشعور الجمالي والحب” لوضع “نظرية عامة في العاطفة” تنبني على أساس أن العاطفة هي ناتجة عن ثغرة في جدار الاستلاب وقد قسمت الاستلاب لأول مرة آنذاك ذلك التقسيم الذي ظهر لاحقا في الكتاب الوحيد عن الموضوع الذي ظهر باسم “حول الحب والاستلاب”. وفقاً للتقسيم المذكور قسمت الاستلاب إلى أربعة أنواع هي “الاستلاب الطبقي” ولم أعن به اضطهاد الطبقة الكادحة كما قد يتبادر لذهن من لا يعرف الموضوع! بل عنيت به استبطان الطبقة الفقيرة لقناعة تقول إن شظف العيش (نقيض الترف) الذي هي فيه أمر لا يمكن تغييره. والاستلاب الأيديولوجي وغيرت اسمه لاحقاً بالاستلاب الأخلاقي، ولم أعن به المعنى العام الذي قد يتبادر إلى الذهن بل عنيت به كما في جميع أماكن تفكيري حالة نفسية فردية يستبطن فيها الفرد فكرة أنه مذنب، وقد استنتجته من تحليل عاطفة “الحزن” التي رأيت أنها تظهر عند إحساس الفرد أنه مظلوم، ثم “الاستلاب التغلبي” وأظنني استنتجته من تحليلي لعاطفة الفرح التي رأيت أنها تأتي عند تحقيق إنجاز مفاجئ كان الفرد يظن نفسه عاجزاً عن تحقيقه، وعلى هذا يكون “الاستلاب التغلبي” هو استبطان فكرة العجز عن فعل شيء في الصراع مع الآخرين وفكرة صفرية القوة الذاتية، والنوع الرابع كان “الاستلاب العنصري” ونتج عن رؤيتي لظاهرة مختلفة عن ظاهرة الانقسام الطبقي ضمن مجتمعنا وهي ظاهرة الانقسام على أساس “الأصل” أي وجود ناس من “أصل رفيع” وآخرين “بلا أصل”.
وفي “النظرية العامة للعاطفة” قلت إن العاطفة هي تدفق لدافع عاطفي كان محبوساً عند حدوث “ثغرة” في جدار الاستلاب، وهذا تعميم لما قلته قبل ذلك عن الحب أنه ينتج عند الشعور بإمكانية الانتقال إلى عالم الترف المفقود عبر الاتحاد بممثله الجميل الذي هو الحبيبة مثلاً التي تمثل طبقة كاملة لا شعوريا لأنها تحوز (كونها جميلة) على سماتها المشتركة، وقد سررت لتعرفي إلى نظرية بافلوف آنذاك، واعتبرت السمات الجمالية بمثابة مؤثرات شرطية هي التي تفسر الشعور المرافق لها فكما أن الجرس عند كلب بافلوف اقترن بتقديم الطعام فكذلك اقترنت سمات الطبقة الأعلى بالترف الموجود عندها.
وما جرى في السنة اللاحقة 1979 كان إضافة بعد فرويدي لهذا الأساس الطبقي، فقد دمجت بين تجربتين: تجربة قاعدية هي التي كنت أتكلم عنها لحد الآن، وهي تجربة الفقير مع شظف العيش، مع تجربة الطفل الذي فطم وفقد “الحالة الأمومية” التي كانت ميزتها الإشباع المطلق (وما يرافقه من أمان مطلق إلى آخره). وعلى هذا الأساس المطوّر يكون الحب تجربة تتضمن بعدين لاشعوريين متكاملين: البعد الطبقي للفقير التائق إلى الترف ممثلا بممثله المحبوب والطفل التائق للعودة إلى الحالة الأمومية التي يمثلها المحبوب أيضا.
وهذه النظرات قادتني لاحقا للحوار مع من قرأت لهم في مواضيع مماثلة،وسيجد القارئ أمثلة على ذلك في النسخة التي كتبت في نيسان –أيار عام 1986 حيث ناقشت نظريات لابن حزم في طوق الحمامة (عن طريق بوعلي ياسين الذي ذكرها)، ولبوعلي ياسين الذي جانب الصواب فيما رأيت في كتابته عن ألف ليلة وليلة (في بعد المعايير الجمالية)، ولنيتشه في كتابه عن أصل الأخلاق وفصلها، وسررت بالمكان الذي يقول فيه ابن خلدون “إن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب”، وفي وقت لاحق جدا وفي برلين اكتشفنا أقوال عزيزنا فانون وتحليلاته عن “الجلد الأسود والأقنعة البيضاء” (وكتب عنه شقيقي حسين الفصل الذي نشر في الكتاب) علماً أني كنت في صيدا عام 1989 قد كتبت دراسة من منظور هذه النظرية نفسها لرواية “البيضاء” ليوسف إدريس (وكتب أخي حسين الجزء الثاني من الدراسة عن مفهوم الانتماء).
وحين تصفحت لاحقاً كتاب شاخت عن “الاغتراب” وجدت أنه يؤكد اتجاها أصليا عندي يقول بأن من حق كل كاتب أن يستعمل الاصطلاح الذي يشاء على شرط أن يستعمله بشكل منسجم ويستطيع القارئ السير معه بناء على التعريف الذي وضعه هو أولا بحرية للمصطلح. من هنا لم يكن عندي قط أي اهتمام بالمقارنة بين معاني مصطلح “الاستلاب” (أو “الاغتراب” وهما ترجمتان لأصل أجنبي واحد) عند الكتاب المختلفين.
(2)
أعتقد أنني لا أزال أشعر ببعض السرور لأنني بين عامي 1977-1978 (وكنت في الصف الثاني الثانوي) تحدثت عن العاطفة النقيضة لعاطفة الحب، وكانت وفقاً لمقتضبات المنهج لن تكون “الكره” مثلاً (الذي هو ليس بعاطفة وفقاً للقواعد التي نظمت “النظرية العامة للعاطفة”) بل هي “الاحتقار”.
وسبب السرور الباقي أنني عبرت بطريقة اصطلاحية حاولت أن أجعلها دقيقة قدر الإمكان عن واحدة من أبغض الظواهر النفسية في المجتمع التراتبي إلى قلبي ألا وهي ظاهرة النظرة الفوقية التي ينظرها الفقير لأخيه الفقير (وهي ناتجة تحليلياً كما لا يخفى على القارئ عن نظرته التبخيسية لنفسه).
وفقاً لهذه المتابعة المنهجية لنظرية الحب عرف “الاحتقار” بأنه “الشعور بإمكانية نبذ الطبقة الدنيا ممثلة بالشخص المحتقر” (بفتح القاف). ولنتذكر أن تعريف عاطفة الحب كان منذ البداية “الشعور بإمكانية الانتقال إلى الطبقة الأعلى عبر ممثلها المحبوب”.
والشخص المحتقر هو نموذج “القبح” كما كان المحبوب نموذج “الجمال”، وعبر الاحتقار ينبذ الفقير ذاته الحقيقية الطبقية (كما قلت لاحقاً) ليحصل على “ذات مثالية” قدمها “المرجع الاستلابي” (وهذه المصطلحات الأخيرة ظهرت في بداية الثمانينات).
لقد تكون منهجياً زوج من العواطف الفاعلة اجتماعياً (الحب-الاحتقار) يقوم بدور مهم كما اتضح لي لاحقاً في الحفاظ على تماسك المجتمع الطبقي نفسه، لأن هذه “الأوالية” التي سميتها في وقت لاحق “البحث عن العاطفة”) في مجال العلاقة بين الطبقات نتيجتها تماسك المجتمع الطبقي عبر شريحة من الطبقة الأدنى تخون طبقتها بسرور لأنها لا تعدها شيئاً أكثر من وساخة وانحطاط.
وهذا يتطلب قدراً من الإمكانية (ولو الوهمية) للحراك الطبقي، ولعل المجتمع السوري في فترة السبعينات كان بالفعل هو النموذجي لظهور مثل هذه التحليلات النفسية-الطبقية لأنه آنذاك كان مجتمعاً ضربت فيه ركائز سيطرة الطبقة العليا وبلغ فيه صعود تلك الشريحة التي كان الحديث عنها كثيراً جداً في السبعينات كما يذكر القارئ ألا وهي “البرجوازية الصغيرة” ذروته. (وقد صبت عليها الماركسية الثورية جمام غضبها ونسبت إليها كل هزائم الأمة).
ومن الأمور المميزة أن أكثر من عادى هذه النظرات الجديدة كان الماركسيين في المحيط الذي أنا منه، بل لم يسم هذه النظريات “ماركسية” إلا غير الماركسيين! وفي ندوة عقدتها في “القريا”-جبل العرب، في مضافة بيت صديقي جبر مراد عام 1983 على ما أظن وحضرها نحو من ثمانين شخصاً ووجهت “نظرية الاستلاب” بهجوم ماركسي ساحق (مستند إلى نظرية “الانعكاس” الرسمية السوفييتية) ولم تلق تفهماً إلا من أوساط غير ماركسية!
ولعلي في حياتي لم أكن منسجماً مع “المثقفين” بالمعنى السوري للكلمة، ومن الأمور التي أبتسم لها الآن أني، وأنا ابن ذاك الوسط فكرياً أو المفروض أن أكون ابنه، كنت منذ البداية إلى النهاية مختلفاً في التفكير عنه وفي التفضيلات الجمالية حتى، ولأضرب لذلك مثلاً دالاً لعل القارئ يستغربه: لقد كنت في أول فترة المراهقة مغرماً بفيروز، ليست فيروز التي تنشد الغناء الشعبي كالدلعونا وأبو الزلف، بل فيروز الرومنسية التي ترافقها موسيقا قريبة من الموسيقا الكلاسيكية الغربية (مثلاً في أغنية يا ريت إنت وأنا بالبيت) إلى أن اكتشفت أن المثقف عندنا يعد فيروز علامة ثقافية تفصله عن المجتمع المحيط (وما لا ينتبه إليه المثقف السوري عادة أن فيروز لم تكن المطربة المفضلة عند الشعب!) وعندها (وبرد فعل غير منطقي ولا أحتاج إلى أن أقول أني أقر بذلك) توقفت سنين عن الاستماع إلى فيروز بعد أن كنت فعلاً بالحرف الواحد حفظت أغانيها لا الكلمات فقط بل الموسيقى اعتباراً من المقدمات الموسيقية نفسها.
وسأكتب لاحقاً عن ظاهرة “حب فيروز” مقالاً في وقت متأخر (1996) لم أنشره، وفيه بناء على “نظرية الحب” نفسها حاولت أن أفسر حب المثقف السوري لفيروز (في مقابل احتقاره لأم كلثوم مثلاً!) بأن فيروز ببساطة قطعت مع قواعد الغناء العربي “التقليدي” (هل يستطيع المثقف أن يصدق إن قلت له إن فيروز خلافاً لمطربي العرب يفتقد أداؤها كل الافتقاد للعاطفة ومن هنا سمعت بعض أبناء الشعب يصفها بالجمود!). الموسيقى المرافقة لغناء فيروز قريبة كما هو معلوم (إن استثنينا طبعاً الغناء الشعبي وغناء الموشحات) من الموسيقى الغربية في التوزيع الموسيقي وأحياناً في اختيار المقامات المتقاطعة مع المقامات الغربية (كالعجم والنهوند).
لا شك أن هذا الموقف من فيروز كان فيه طابع “المجاكرة” وفد وضعت مرة فرضية أن الإرث الفلسطيني عندي له دور حيث ألاحظ هذا الطابع عند شعبنا المناضل! ولا أظن هذا صحيحاً فقد كنت في غالبية فترات حياتي سورياً قلباً وقالباً وإن كنت فيما آمل لم أتنكر قط لفلسطينيتي. وحين عدت بعد سنين (وكنت قد تعلمت بعض الأشياء الضرورية في علم الموسيقى) للتفكير في فيروز والرحابنة أيقنت أن الأخوين رحباني كانا بالفعل عبقريتين لا يجود الزمان بمثلهما إلا في قرون عديدة، وقد رأيت ذلك ليس فقط حين أعدت استعراض تراثهما الموسيقي بل أيضاً حين أعدت استعراض تراثهما كشاعرين.
(3)
كانت هذه التأملات مندرجة ضمن مناخ اشتراكي ميز جزءاً من الحركة الثقافية-السياسية الفاعلة كاد يكون الوحيد المهيمن في الساحة السورية-اللبنانية-الفلسطينية في السبعينات (بحيث كانت الرؤية الاشتراكية والمصطلحات المرافقة لها تميز جميع الفاعلين عدا الإسلامانيين الممثلين بالإخوان المسلمين الذين كانوا معزولين عملياً في سوريا ولبنان وفلسطين حتى نهاية السبعينات وبالذات حتى اندلاع الثورة الإيرانية الكبرى)، ولكن إدماني على القراءة لم يكن يشمل القراءات الماركسية (والفرويدية اعتباراً من عام 1980) فقط، بل كان يشمل قراءات في التراث العربي تشمل كتب الأدب بل وبعض "العلوم النقلية" كعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه أيضاً. وعلاقتي القوية باللغة العربية القديمة التي لم يكد يضاهيني بها أحد في ذلك الوسط جعلتني في غير غربة عن التراث العربي، ولكنها لم تخفف وقتها من النفور مع التيار الإسلاماني، ويبدو أن السبب الأساسي كان سوء تعامل الوسط الطلابي المنتمي لذلك التيار وقلة اهتمامه بالحوار، فقد كانوا لا يفهمون للحوار معنى وكان عداؤهم شديداً للفكر الاشتراكي، على حين كنت منذ الصف العاشر بعد قراءتي لكتاب "الدولة والثورة" للينين قد تبنيت الفكر الماركسي، ليس كما يظن بعض المتدينين بسذاجة كعلامة على كره الدين، بل كان رد فعل على أشياء كثيرة منها رفضي الموروث على ما يبدو لمبدأ خضوع بعض البشر لبعضهم الآخر، وهو ما تجلى لي بصورة واضحة في الحالات التي كنت أعمل فيها أوقات العطلة في مصانع ومشاريع تعهدات للقطاع الخاص (الذي كان في بدايات طلوعه في سوريا)، وكان الإسلامانيون يرتكبون في منظوري آنذاك ذنبين لم أستطع أن أغفرهما لهم: الأول: مناصرتهم الصريحة للرأسمالية وسخريتهم من الاشتراكية، والثاني: تهديداتهم الدائمة الضمنية للماركسيين بالقتل كمرتدين، ولم أقرأ ذلك في مكان ما عندهم، ولكن كنت أحس هذه الروح متضمنة في التأويل السائد للشريعة وزاد الأمر سوءاً الطابع العنفي لهؤلاء، مما قادني مع عدد من الماركسيين في سوريا كبير إلى عدم التعاطف مع الانتفاضة المسلحة (وبالأحرى العداء لها) لمن نسبته السلطة يومها للإخوان، واتضح لنا لاحقاً جداً أنه كان في كثير من الحالات منظمات صغيرة منشقة عن الإخوان ولكن السلطة آثرت لأسباب دعائية على ما يبدو، أو من باب شيطنة الخصم، أو لأن الإخوان حتى في جناحهم المسالم آل بهم الأمر فعلاً لتأييد تلك الحركة التي كادت تأخذ شكل حرب أهلية طائفية، أن تصف باسم عام لا تفريق فيه "الإخوان" على أنه هو من يقوم بتلك الأعمال الدموية.
وقد بدا لي في وسط المثقفين الذي كنت أتابع كتاباته ونشراته (وهو وسط ينتمي لما كان يسمى أحياناً "اليسار الجديد"، وهو أفراد ومنظمات تبنت نسخاً من الماركسية مختلفة عن الماركسية السوفييتية الأورثوذكسية المعتمدة في الأحزاب الشيوعية الرسمية) أنهم يرون السلطة رغم نقدهم لها أفضل من "الإخوان" بكثير، والشعور الكبير بالتهديد الذي يمثله الإخوان كان سائداً في هذا الوسط الذي تحول عملياً إلى وضع أقلية اجتماعية منعزلة لها وضع يشبه وضع الطوائف المحاربة من قبل السلطة والمجتمع معا،ً وهو الموضوع الذي سأناقشه الآن بعض المناقشة.
كان التعليم الماركسي يفترض أن الشيوعيين هم طليعة الطبقة العاملة، وكنت أرى أن هذا التفكير المأخوذ من الكتب لا ينطبق على الواقع، إذ في كل محاولاتي (وكانت معدودة ولكنها مؤثرة وبعيدة مدى التأثير عندي) للتواصل مع الطبقة الكادحة أو الجماهير اتضح لي أن اللغة المشتركة معدومة، وأن الجماهير لا تكن لأي طرح اشتراكي غير العداء المنطلق بصورة كانت (ولا زالت إلى حد ما) ملغزة من الزعم أن الشيوعيين ملحدون.
وفي الحقيقة يبدو أن هذا الزعم كان مثل "النبوءة التي تحقق نفسها) أو مثل أن تدفع شخصاً لاتخاذ موقف هو لم يكن اتخذه أصلاً، ولا شك أن هذا هو حالي في الأصل، إذ لم أكن أنوي ترك الدين عندما قررت تبني الفكر الماركسي متأثراً بإعجابي الكبير بنموذج الدولة العمالية الذي قدمه لينين في كتاب "الدولة والثورة"، وهو نموذج يتولى فيه العمال المسلحون جماعياً إدارة الشؤون الأمنية، مما عنى لي تحرراً من الهيمنة الفوقية القمعية لدولة منفصلة عن المجتمع تجري ذكريات التجارب الأليمة معها في دم كل منا بل وتتوارث في جيناته الوراثية إن شئت التعبير المجازي. ولكني في تلك الفترة تركت الدين فعلاً ودافعت بوسائل فلسفية عن ذلك لعلها كانت حتى متطورة قليلاً عن تلك التي كانت في حوزة زملاء الفكر من جيلي، والسبب كان هذه الفكرة السائدة، علاوة على بلاهة بعض المتدين من زملاء المدرسة الذين طلب مني واحد منهم الإفطار في شهر رمضان الذي صمته في تلك السنة لأنه ما الجدوى من هذا الصيام لشخص ماركسي؟!.
لكن هذه الثقافة اليسارية كان لها رغم ادعاءاتها الطبقية المناصرة للطبقة الكادحة طابع طبقي هي نفسها، وقد كنت في وقت مبكر أحس بذلك، وعبرت عنه في بعض القصص القصيرة التي كتبتها آنذاك وعبر سخريتي من وصف المثقف الثوري عند بعض كتاب القصة من اليسار الجديد ولا سيما وائل السواح وجميل حتمل. فهؤلاء كانوا من الطلاب المنفصلين في الزي واللغة ونمط الحياة عن الطبقة التي ادعوا تمثيلها. وقد بدا في مرات عديدة أن زملائي في التفكير لا يناصرون الفقراء في الواقع من أعماق قلوبهم، لأنهم يتعالون عليهم ببساطة. وهذا التعالي لم يكن معلناً في الأيديولوجيا عبر التعالي على معتقدات الشعب "المتخلفة" ولغته فقط، بل كان تعالياً عملياً عبر نمط حياة يتجاهل الواقع الاقتصادي لهذا المجتمع (فقد كانت معيشة هؤلاء الثوريين أميل للترف كما رأيتها) ويتجاهل أيضاً عادات هذا المجتمع ومحرماته أيضاً (ومن ذلك عادة الشرب وطريقة النظر للعلاقة مع الجنس الآخر).
ولكن الصراع مع المتدينين الشديد في سوريا والذي كانت السلطة تضاعفه عبر تشهيرها "بالإخوان" كان يدفعني بعيداً في اتجاه نوع متطرف من التفكير اليساري جعلني في عام 1981-1983 نصيراً لنسخة تدعو لتفكيك النظام الاجتماعي كله من أساسه، وهذه الواقعة هي التي أذكّر بها الآن (عبثاً) من يتهجم من معاديي الدين على مواقفي التأصيلية التي بدأت منذ وصولي إلى أوروبا عام 1991 وتشكل ارتداداً كاملاً بزاوية مائة وثمانين درجة على الموقف اليساري المتطرف المذكور، أذكرهم بأنهم في كل هجماتهم على المجتمع لن يستطيعوا تجاوز الموقف الذي أخذته مرة، ومن هنا لا يكون الحوار بيني وبينهم متكافئاً لأنني أعرف منطلقاتهم المعادية للمجتمع فقد مررت بها ولكنهم لا يعرفون منطلقاتي المدافعة عن المجتمع لأنهم لم يمروا بمرحلة تشبه مرحلة "الفكر التأصيلي" عندي.
ودائماً أستشهد ببيتين جميلين لإقبال رحمه الله:
ليس يخفى على "القلندر" فكر..ساور النشء ظاهراً أو خفياً
أنا عندي بكل حالك خبر..فبهذا الطريق سرت ملياً!
وفي الحقيقة في أسوأ مراحل العداء للنظام الاجتماعي التي مررت بها لم يبارحني قط الشعور بالاغتراب عن هذا الوسط الثقافي اليساري، وحين أعود لتفسير ذلك لا أجد إلا انتمائي العميق الجذور لعائلة فلسطينية فلاحة محافظة ظلت قيمها تشكل بالنسبة لي إما مرجعاً أخلاقياً يقودني لرفض مكبوت أو ظاهر لقيم مستغربة يعبر عنها ويمارس تطبيقاتها يساريو ذلك الزمان، وإما عقدة نقص طبقية تقود عملياً للاتجاه الرافض نفسه. ولو عدت لموضوع "الشعور الجمالي والحب والاستلاب" لقلت إن موقفي لم يكن يخلو من استلاب طبقي تجاه هؤلاء المعادين نظرياً للطبقات! ولكنه أيضاً لم يكن يخلو فيما أعتقد من مقاومة صحية تبديها "الذات الحقيقية" للمرجع الذي يحاول فرض قيمه الاستلابية. وهذه المقاومة ستنتصر نهائياً لكن ليس في سوريا بل مع وصولي لأوروبا.