بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ (3) ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)."
في المرحلة الإعدادية وفي أثناء حصة احتياطية دخل علينا معلم الرياضيات وكان ملتحيا ، ويبدو من سمته أنه متدين ، فسألنا جميعا سؤالا عجزنا عن جوابه. قال لنا: هل يستطيع أحد منكم أن يكلمني عن الله سبحانه
وتعالى؟
الحقيقة كان السؤال عسيرا لسبب بسيط هو أننا تعودنا ألا نقترب من هذا الجانب أبداً. يومها قلت له : لا أدري.
فرد علي من فوره: كيف لا تدري شيئا عن معبودك ، ثم كيف تسوق هذه الفكرة: فكرة أنك مؤمن لقوم لا يحسنون إلا الجدل ودراسات العقل والمنطق.
بعد كل هذه السنوات تذكرت هذا السؤال وأنا أقرأ كتاب توفيق الحكيم الذي لفتت نظري إليه زوجتي الحبيبة وهو كتاب:" تحت شمس الفكر" ...الحقيقة أن الحكيم قد عالج فيه أمورا كثيرة كنت في حاجة إلى بسطها معكم ، وهاأنذا أعرضها عليكم سعيدا بقراءتها:
يتعجب الحكيم تحت عنوان:"منطقة الإيمان" لما كان وكيلا للنائب العام كيف كان يرى القاتل في قاعات المحاكم وصحيفته الجنائية تقطر دماء وإجراما ومع ذلك يقف أمامه متطلعا إلى السماء ، وهو يأبى أن يقسم بالمصحف كذباً!
يقصد الحكيم أن في هذا المجرم منطقة ما تزال عذراء لم يتطرق إليها فساد ، وهي منطقة العقيدة ، مما يؤكد وجود حد فاصل بين الغريزة والعقيدة.
الأجمل من هذا فيما قرأته في هذا الكتاب هو دهشة الحكيم من صديق له من خيرة القضاة ورعا وعبادة ، ومع ذلك كان عقله حراً من كل قيد ، حيث يدور بينهما حديث عن الخالق والخليقة حتى يذهب هو في التدليل والأفكار كل مذهب ، إلى أن يقع في الإلحاد وإنكار الجنة والنار! ويؤذن المؤذن بالصلاة ، فإذا القاضي أسرع الناس إلى الصلاة يؤديها في خشوع وتنسك عجيب.
يخلص الحكيم من هذا إلى الفصل بين العقيدة والعقل والغريزة ، والاستقلال بين هذه الملكات الثلاث ...يعني أن ما يصدق عند القلب (الإيمان) ليس بالضرورة أن يصدق عند العقل ، فلكل عالمه المختلف ، مثل أن حاسة البصر منفصلة عن حاسة السمع... فالحجر الساكن حقيقة تراها العين بينما لا تدركها الأذن.
العقل يلحد ، والقلب يهتف بنداء حار في أحشائه يحتاج فيه إلى خالق عظيم ليس كمثله شيء. يخرج الحكيم من هذا إلى السخرية من رجال وعلماء الدين الذين يبسمون فرحا عندما يصدق العلم الدين والعكس عندما يكذب العلم الدين فيؤكد أن من الهراء محاولة التوفيق بين العلم والدين فلكل منهما خط لا يحيد عنه إلى الثاني.
والحقيقة أن كلام الحكيم قد لمس فؤادي سيما وهو يشكك في نزاهة الفكر الحر الذي دفع بفولتير إلى كتابة قصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبه ويشتمه فيها بأقذع الشتائم ، وقد استبان للحكيم نفاق فولتير زعيم الفكر الحر الذي أهدى هذه القصة إلى البابا بنوا الرابع عشر. المصيبة أن جان جاك روسو كتب نقدا لهذه القصة ومع ذلك لم يستنكر على فولتير هذا الظلم وتلك الشتائم الرهيبة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان في حاجة إلى معجزات لإثبات صدقه فهو الصادق الأمين الذي تحكي كتب السيرة أنه بينما هو وصحبه عائدون من غزوة تبوك وهم عطشى إذ تمطر السماء مطرا غزيرا فيقولون معجزة فيصوب لهم قائلا: بل سحابة مارة كما نقل الحكيم في الفصل التالي.
يعني ما أريد قوله لمن يحتفي بأوروبا وفولتير والفكر الحر أقول لهم بكل قوة وشجاعة وبلا خجل: فولتير الذي شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلمه ظلما أكيدا هو والفكر الذي يمثله تحت حذائي مع الاعتذار لحذائي.
محمد صلى الله عليه وسلم يا فولتير هو من أعطى للإنسان كرامة ما بعدها كرامة عندما أكد هو نفسه أنه بشر مثلنا لا إلهاً مثل يسوع الذي تخلى أتباعه عن سماحتهم ، وأضحوا وحوشا ضارية تشتم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبكل سفالة يظهر واحد منهم يدعى زكريا بطرس يقول بملء فيه القذر: محمد ابن زنا!!!
لقد جاء الإسلام واضحا جليا لا يأمر بالرهبنة ، ولا بالفرار من الدنيا ، ولا بتعذيب الجسد من أجل الله ، لأن الله لا يأمر بتحطيم ما بناه..! (نص كلام الحكيم)
طيب أترك توفيق الحكيم الآن بعد أن أشكر زوجتي الحبيبة لأني وإن كنت قارئا للحكيم لكني كنت أحتاج أن أعيد تقييمه بعيدا عن تغير رأيه عما كان في عهد عبد الناصر (عودة الروح "عن ثورة 19" ثم عودة الوعي) مما يعد نفاقا وكونه جيدا في الحوار لا في الثقافة العامة وهو ما ثبت بطلانه لدي فأظهر لي أن الحكيم لا يقل مكانة عن نجيب محفوظ مثلا سيما وأن الحكيم غزير الإنتاج أيضاً.
أعود الآن على بدء لأتكلم باختصار عن جوهرة الإسلام وهي التوحيد الذي تلخصه هذه السورة الكريمة سورة الإخلاص ، وأستعين في ترجمتها بتفسير عالم الدين التونسي الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (وهو تفسير قيم جدا في رأيي ، وأحب دائما الرجوع إليه من وقت إلى آخر ، فقد استغرق صاحبه في تأليفه ما يقرب من ثلاثين عاماً) يقول ابن عاشور: واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية. وقد عقد الفخر في التفسير الكبير فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها. وذكر في الكشاف: أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.
وسماها البقاعي في نظم الدرر سورة الصمد ، وهي مكية وأغراضها :
إثبات وحدانية الله تعالى.
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات وإبطال أن يكون له ابن.
وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام.
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن.
قل هو الله أحد : افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى (قل يا أيها الكافرون).
ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين: انسب لنا ربك، فكانت جوابا عن سؤالهم فلذلك قيل له (قل) كما قال تعالى (قل الروح من أمر ربي) فكان للأمر بفعل (قل) فائدتان.
وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة: إن (أحد) دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول، ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة. والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل، والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء والأشكال ، والألوان ، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل على أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء.
والمعنى: أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس، وللعد الذي لا يحصى عند البراهمة.
والصمد: السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات، وهو سيد القوم المطاع فيهم.
قال في الكشاف: وهو فعل بمعنى مفعول من: صمد إليه، إذا قصده، فالصمد المصمود في الحوائج. قلت: ونظيره السند الذي تسند إليه الأمور المهمة. والفلق اسم الصباح بأنه يتفلق عنه الليل.
والصمد: من صفات الله، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم.
فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي. ومعناه: المفتقر إليه كل ما عداه، فالمعدوم مفتقر وجوده إليه والموجود مفتقر في شؤونه إليه وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولا. ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه تعالى حيا، عالما، مريدا، قادرا، متكلما، سميعا، بصيرا، لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصمودا إليه. لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا (أي شبيها أو ندا) أحد. صدق الله العظيم.
"بمناسبة الحديث عن ابن سينا إن شاء الله أعدكم بمقال عن المنقذ من الضلال للغزالي ، وحديث الغزالي عن ابن سينا"