ولمّا لمْ تنجحْ آلة العدوان الجهنمية الصهيونية في حَسْم الحرب بفعل المقاومة الشرسة من قِبَل عناصر الفصائل الفلسطينية، وبسبب صمود وصبر المواطنين الذين تحمّلوا مِن المصائبِ ما لا تتحمّله الجبال الراسيات، عندها أسْقِط في يد القادة العرب، وحاروا في أمرهم حرَجًا مِن شعوبهم، فلجؤوا إلى طائرات الإغاثة وقوارب (الكرامة) المحمّلة بالغذاء والدواء وأرسلوها إلى معبر رفح تمهيدا لنقلها إلى غزة، وكأنّهم بذلك يتعاملون مع كارثة طبيعية ناجمة عن زلزال أو بركان أو فيضان، وبعضهم لجأ إلى اصطناع المواقف، والسماح لمسيرات الاحتجاج الشكلية الهادئة للتنفيس عن الشارع المصدور، وألهبوا خطوط الهاتف للتشاور في عقد قمة عربية طارئة، ولما كانت للقمة طقوس تقضي بأنْ يسبقها لقاء لوزراء الخارجية كان لا بد مِن تكليف السيد عمرو موسى عرّاب القِمَم العربية بإجراء الترتيبات اللازمة، وبعد ذلك اللقاء خرج الوزراء منقسمين على أنفسهم دون الاتفاق على موعد أو مكان القمة، لكنهم كلفوا رئيس السلطة الفلسطينية التوجه إلى نيويورك لعرض قضية شعبه على مجلس الأمن الدولي، وهُمْ رُبّما يرمونَ بذلك إلى مَنح الجيش الإسرائيلي مزيدا مِن الوقت لتحقيق أهداف حَملته العسكرية لا سيّما أنّ بعضَ أولئك الوزراء كانوا على اتصال شبه دائم بوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني.
وكما هو متعارف عليه في أروقة هيئة الأمم، دَعَتْ إحدى الدول العربية إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن، وقدّمت المجموعة العربية مشروعا يطالب إسرائيل بوقف العمليات العسكرية فورا، وإن لم تفعل ذلك فسوفَ تعتبر مسؤولة عن دماء آلاف الضحايا، وبعد اطلاع الدول الغربية الداعمة لإسرائيل على ذلك المشروع طلِبَ مِن العرب تخفيضُ سقفِ مشروعهم، كي لا يصطدم بالفيتو الأمريكي، وانصاع العربُ وخفضوا ذلك السقف، واكتفوا بالمطالبة بوقف إطلاق النار، وفكّ الحصار، وفتح المعابر، وإرسال قوات دولية لمراقبة الأوضاع في القطاع.
ووُلدَ القرارُ (الفريد) بامتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت، وبالاستناد إلى الفصل السادس مِن الميثاق، ممّا يُفقده صفة الإلزام لإسرائيل، ومع ذلك فرحت الحكومات العربية بتحقيقها انتصارا في مجلس الأمن، لكن وللأسف الشديد رفضت إسرائيلُ القرارَ بعد صدوره بوقتٍ قصير، وواصلتْ عدوانها، وأوغلت في إزهاق الأرواح، وتشويه الجثث، وهدم العمران، ولم تسلم المدارس ولا دور العبادة، وتحكمَتْ مصر العربية بمَعبر رفح، فتارة تغلقه في وجه الجرحى والمصابين، وتارة تفتحه لإدخال بعض الطواقم الطبية العربية والدولية المتطوعة، وأمام هول هذه المأساة تعالتْ صَرَخات المستغيثين مِن الضحايا، فارتجّ ضميرُ الشارع العربي، وماجَ بالمظاهرات والاعتصامات في عواصم الوطن الكبير مِن الرباط إلى مسقط، وكلها تطالب بنجدةِ الأهل في قطاع غزة.
وواصلتْ وسائلُ الإعلام المرئية نقل صُور ضحايا العدوان، تلك الصور التي تقشعر لها الأبدان، أشلاء ممزّقة، أطراف مبتورة، عيونٌ مفقوءة، ووجوهٌ محروقة، فتحرّكَ ضميرُ شعوب العالم، وانطلقت المظاهرات والاعتصامات في عواصم العالم ، مُندّدَةً بالعدوان الإسرائيلي، ومُطالبة بطرد إسرائيل مِن هيئة الأمم المتحدة، ووصلت الحمية العربية والغضبة المُضريّة إلى صدرِ الرئيس الفنزويلي (هوغو تشافيز) فقام بطرد السفير الإسرائيلي مِن عاصمته (كراكاس)، ممّا حدا بإسرائيل طردَ القائم بأعمال فنزويلا مِن تل أبيب وقطع العلاقات بين الدولتين.
هذا الموقِف البطوليّ والمشرّف لفنزويلا ورئيسها العظيم، قابلهُ مَوقِفٌ محْزنٌ ومؤسف للدول العربية وقادتها، فلمْ يُلوّح أحدٌ منهم بقطع النفط، ولا بسَحْبِ الأرصدة المُقنطرة مِن الذهب والفضّة، ولم يُطرَد سفراء إسرائيل، ولمْ تُغلقْ مكاتبها التجارية ولا سفاراتها في عواصم العروبة، ولمْ يُنزلْ العَلمُ الصهيوني المرفوع في سماوات تلك العواصم، ناهيكَ عنْ أنّ أحَدُا منهم لم يُلوّح بقعْقِعة بالسلاح، ولا بتحريك الكتائب والفيالق ، وفوقَ ذلك راحَ قادة إسرائيل يفضحون المستور قائلين بأنّ بعضً القادة العرب حرّضوا إسرائيلَ على غزو غزة، ولم تأبه حكومات العرب بهتافات الجماهير ولا بما يجري، ولا بما يُقال، وواصلت الإعداد البطيء للقمة المنشودة، والاكتفاء بإرسال المعونات الإنسانية.
واستشرسَتْ آلة الحرب الإسرائيلية، واستخدمت أسلحة الفتك والدمار المحرمة دوليا، كالقنابل الحارقة والعنقودية والفراغية والفوسفور الأبيض، وتلك أسلحة اتفق خبراء القانون الدولي في العالم على تحريم استخدامها في الحروب بناءً على اتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949، وفي ظل هذا البطش لآلة الحربِ الإسرائيلية وأمامَ عجزها عن الحسم العسكري السريع عاد قادة العرب إلى القصة الممجوجة، قصة القمة العربية، فدَعتْ حكومة قطر إلى قمة عربية طارئة، ودعتْ حكومة البحرين إلى قمة إسلامية طارئة، وأحجمت الشقيقة الكبرى مصر العربية عن القيام بدورها القومي المعروف، وتخلت عنه لمن همْ أصغرُ منها حَجما وشأنا، واكتفتْ بأداء دوْر الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولما استقرّ الرأي على عقدِ قمة عربية اختلف المؤتمرون على مكانها، فالبعض فضّلَ الذهاب إلى قمة استشارية تعقد في مدينة الكويت، والبعض فضّلَ الذهابَ إلى قمة في الدوحة القطرية، وكلّ هذا يجري ببطء شديد، بينما أنهار الدم في غزة تجري بتسارع جارف، ومع ذلك فالجماهير العربية تُدركُ أنّ القِمَمَ العربية لا فائدة ترجى منها، وأنّها تفشلُ في صياغة بيان مشترك، وإنْ صَدَرَ ذلك البيان في أحسن الأحوال فإنه يقتصر على الشجب والتنديد بالعدوان، والتصدق على المجاهدين المدافعين عن شرف الأمة وعلى أسَرهِم المنكوبة بمبالغ زهيدة مِن أموال البترودولار، ثمّ تنتهي تلك القمم بالسلام والعناق وبوس اللحى، وكلّ قمة والأمّة بخير.
ليسَ غريبا على الحكومات العربية أنْ تقفَ مثلَ هذه المواقف، فقد تعاملَتْ مع بغداد بالطريقة ذاتها، إذ سهّلَ بعضُ ذوي القربى للأمريكيين سُبُلَ الاعتداء عليها واحتلالها، ثمّ تركوها تعاني بطشَ ذلكَ الاحتلال، فارتكبتْ على أرضها جرائم فيها يُضرَبُ المَثل، وسالت دماء الأبرياء على الرمضاء أقنية، وهدّمتْ فيها المباني، واستبيحت الحُرُمات، ودوَّتْ صرَخاتُ أبنائها وبناتها، لكنّ أحدًا مِن (معتصمي) العصر العربي الحديث لمْ يسمع تلك الاستغاثات، وتلك كانت قاصمة الظهر.
أمّا أنتم يا أهل غزة يا أهل الكرامة والعزة، فإنّكم بتضحياتكم تعيدون كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث، وتتدخّلون في تشكيل خارطة المنطقة العربية مِن جديد، فوالله سيكون لهذا الصمود ما بعده مِن أحداث، ولن يطولَ فرحُ المتخاذلين ممّن تخدّروا بحياة الرّخاء والدّعة، فلا تراهنوا على مَن خَذلوكم، واحتسبوا عند الله كلّ شهدائكم وجرحاكم، وعلمّونا شيئا مِن رجولتكم وصُمودكم، فنحن خارج فلسطين أحوج ما نكون لمثلِ هذه الدروس، واعلموا النصرَ مع الصبر، فشدّوا ولا تثّاقلوا، وما هي إلا غمة وتنجلي، ولينصرنّ الله مَن ينصره، إن الله لقويّ عزيز.
د. محمد الجاغوب