اختتم مركز تريم للعمارة والتراث الذي ترأسه المهندسة ريم عبد الغني سلسلة محاضرات أربعائه الثقافي احتفاء بدمشق عاصمة للثقافة العربية، ويستضيف الدكتور عفيف البهنسي متحدثاً عن «أورسلام» بمناسبة الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009 مقدماً عرضاً علمياً موثقاً عن أصالة هذه المدينة منذ فجر التاريخ،
موضحاً أن الحفريات الأثرية بدأت في القدس بدوافع توراتية منذ منتصف القرن السابع عشر وجميعها لم تكن علمية لأن المنقبين كانوا يربطون مكتشفاتهم بالتاريخ التوراتي دون الاعتماد على تاريخ الفخار، لكن الاكتشافات الأثرية في إيبلا وما قدمته من وثائق بعد عام 1975 هزّت العالم ونقضت الكثير من الأفكار التي كانت سائدة وقائمة على الأخطاء والأوهام، ومشيراً الى آخر العمليات التي قام بها علماء آثار إسرائيليون في القدس واعترافاتهم بعدم اكتشافهم أي أثر يتعلق أو يقترب من التاريخ التوراتي وغيرهم من العلماء الذين أكدوا هذه الحقيقة، مبيناً أن هذا الانتصار الضخم لعلم الآثار يساعدنا اليوم في فهم الوجود الإسرائيلي في القدس وفي فلسطين، وأن هذه المبررات التي تستند الى التاريخ التوراتي والى وعد من يهوه إنما ترتبط بالقوة والمدفع وبهذا العدوان الذي نشهده، مشيراً الى أن ما يثبت الهوية الثقافية العربية لمدينة السلام (القدس): هو ـ اللغة ـ والعقيدة الواحدية، موضحاً ما كشفته الحقائق الأثرية الأخيرة عن معالم الهوية الثقافية لمدينة القدس (أورسلام) وأكدت أصالتها من خلال الوثائق المكتوبة، ومن خلال اللغة التي تعاقبت لهجاتها ووصلت قمة بلاغتها في اللغة العربية.
ويتمنى الدكتور عفيف أن يطلع السياسيون في العالم على هذه الوثائق التي يعلنها لأنها تزيدهم ثقة بأن المطالبة بحقوق العرب في هذه المنطقة هي مطالبة تاريخية وليست فقط عاطفية أو إنسانية.
وتتناول المحاضرة: نتائج آخر الكشوف الأثرية في هذه المدينة، وصمود الهوية الثقافية فيها على الرغم من تعاقب ثقافات المحتلين لها عبر قرون، والكشف عنها خلال تاريخ العهد القديم.
أور ـ سلام
يؤكد الدكتور البهنسي أنه يتحدث عن «أورسلام» وليس عن أورشليم لأن أورسلام هي القراءة الصحيحة لهذه التسمية القديمة التي عثر عليها في رسائل تل العمارنة، وتعني مدينة السلام وانها كانت موجودة وتعود فعلاً الى /5000/عام، مشيراً الى أنه في عام 1975 أوضحت المكتشفات الأثرية في إيبلا أن اسم «أورسلام» قديم يعود الى الألف الثالث ق.م وأنها سميت «أورسلام» باللغة الكنعانية القديمة، وهذه التسمية هي الأقدم لمدينة القدس وهي أقدم المدن التاريخية التي ابتدأت ثقافتها (عربية) بمعناها اللغوي واستمرت صامدة حتى اليوم، موضحاً أن سكانها الأصليين هم اليبوسيون من الكنعانيين منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ولم يستطع أحد من الأثريين أن يكتشف شيئاً من مدينة القدس ينفي هذه المرحلة رغم عثورهم على كثير من الآثار التي تعود فعلاً الى العصر الحديث ولا ترتبط بأحداث التوراة، وأن اليبوسيين عاشوا فيها ألفي سنة وأنشؤوا سوراً وحصناً وجرّوا إليها المياه وآثارهم قائمة وكان اليهود قلة فيها.
الهوية الثقافية العربية
ـ أولاً اللغة
يؤكد د.البهنسي أن اللغة الكنعانية استمرت سائدة في أورسلام عبر العصور الطويلة، وعلى الرغم من ضخامة الثقافات المتتابعة (الآشورية ـ البابلية ـ الفارسية ـ الاغريقية ـ ثم اللاتينية) التي هيمنت زمناً طويلاً استطاعت هذه الثقافة الأصلية الصمود بقوة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، مشيراً الى أن اللغة الكنعانية ما هي إلا لهجة من لجهات اللغة العربية كما أكد ذلك العالم اللغوي الإيطالي فرانزاردللي والرجوع الى المعاجم العربية القديمة. ما يؤكد أن سكان هذه المدينة اليبوسيون يتكلمون اللغة العربية الأولى ثم أنهم كانوا يعتقدون بآلهة واحدة.
ـ ثانياً العقيدة الواحدة
ويذكر الدكتور عفيف أن الهوية الثقافية لشعب أورسلام تتجلى بالعقيدة الواحدية المختلفة عن العقائد اليهودية والفارسية واللاتينية، تجلت بمفهوم اللإله (ال) الذي كان معبوداً منذ عام 2400ق.م وهو رب الأرباب العلي العظيم ـ رب ابراهيم الخليل وليس له علاقة برب اليهود (يهوه) مؤكداً أن التسميات التي عثر عليها مكتوبة في وثائق إيبلا هذا الانتماء وهذه العقيدة مثل: اسماعيل (يسمع ال) وميكائيل (من ك الى ال)، وإسرائيل (أسير أو عبد ال) مفسراً أن اسم (ال) يعني (عبد الإله ال)، مبيناً أن هذه التسميات تدل على أن هناك من كان يعبد هذا الإله حتى من الأوساط العاملة وليسوا من الأنبياء ولا بالملوك وأن هذه المدينة كانت فعلاً موجودة منذ خمسة آلاف سنة حتى اليوم.
أما عن النشاط المسيحي في المدينة فيوضح د.عفيف أن هيلينا والدة قسطنطين جاءت عام 324م لزيارة القدس بعد اعتناقها المسيحية فأنشأت كنيسة القيامة وأصبحت منذ ذلك الوقت مركز النشاط المسيحي مع بيت لحم مهد المسيح، ولكن العاصمة كانت قيسارية ولم تكن القدس أكثر من مدينة مقدسة تعرضت لاجتياح الفرس وتهجير أهلها الى أن جاء العرب عام 628م بقيادة خالد بن الوليد في معركة اليرموك فاستعادت هويتها العربية القديمة التي كانت عليها أيام اليبوسيين وازدهرت معمارياً.
ـ الحفريات الإسرائيلية
ثم يتحدث الدكتور البهنسي عن الحفريات الأثرية في دار السلام والتي بدأت بدوافع توراتية منذ منتصف القرن السابع عشر، وتشكيل صندوق الاستكشاف الفلسطيني في لندن ومساهمة كل الهيئات التوراتية فيه بحثاً عن التاريخ القديم، مبيناً أن جميع العلماء الذين جاؤوا الى منطقتنا لم يكن هدفهم البحث العلمي بقدر ما كان قصدهم تثبيت التوراة وإطلاق أسماء توراتية على المواقع القائمة مشيراً الى «أريحا» التي يعوّل عليها الإسرائيليون في تثبيت مزاعمهم، و«الهيكل» حيث يعترف العالم الإسرائيلي مازار بأنها تعود الى عهد عبد الملك بن مروان وأنها كانت قائمة ومستعملة خلال العصور (الأموي والعباسي والفاطمي). أما فيما يتعلق بالهيكل الذي كان ومازال هاجساً لإسرائيل يحاولون من خلاله تأكيد وجودهم تاريخياً في القدس فيوكد الدكتور البهنسي أنه رغم التنقيب الكثيف لم يستطع الأثريون العثور على عمود أو تاج أوساكف أو ما يثبت من وجود أي أثر للهيكل، مشيراً الى أنه مازلنا حتى اليوم نكتشف آثاراً تعود الى ما يقرب من عشرة آلاف عام، متسائلاً: فلماذا لم يعثر هؤلاء الجادون جداً والذين يحملون قضية تثبيت وجودهم في التاريخ على أي أثر بسيط من آثار الهيكل؟
ـ دحض الروايات التوراتية
جميع الحفريات التي تمت في فلسطين تابعت انتصاراتها على الروايات التوراتية ـ يتابع د.عفيف ـ وكل الأفكار التي كانت سائدة لتعزز موقف التوراتيين نقضها العلماء ووضعوا بديلاً عنها علماً جديداً قائماً على الوثيقة، وأكدوا أنه لا وجود لما يسمى بتحصينات داوود في القدس أو بقلعة شاؤول في تل القشول أو اسطبلات سليمان، ولم يستطع حتى الأثريون الإسرائيليون تقديم أي دليل أثري على مرويات التوراة، ثم يستشهد الدكتور عفيف البهنسي بمصنفات منشورة رجع إليها تتضمن اعترافات علماء آثار إسرائيليين يؤكدون بأن كل التقنيات التي تمت في القدس بعد عام 1969 لم تؤكد التاريخ التوراتي.
كلمة أخيرة
وفي ختام حديثه يقول الدكتور عفيف البهنسي: إذا ما انفصل التوراة عن التاريخ تصبح الأحداث التوراتية من أمور العقيدة التي لا تدخل في نطاق علم الآثار، لكي ينفرد علم الآثار بالاعتماد على الوثائق المكتوبة المكتشفة للتعرف على تاريخ القدس وثقافتها العربية... كانت القدس التي حملت اسم أورسلام، وإيليا، ودار السلام، ثم بيت المقدس أو القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين يحتفل بها العرب بوصفها عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 وليس على أقاويل عاطفية أو مسيسة أو أسطورية.