عندما كانت الدبابات والجرافات الصهيونية تجوب شوارع نابلس في نيسان عام 2002 تنشر الخراب والدمار والقتل والتشريد، لم يغب عن قادة عصابات الإرهاب أنهم في نابلس حيث الحضارة والتاريخ والتراث والاقتصاد الفلسطيني.. فلم يتوانوا للحظة في تدمير كل ما تقع عليه أعينهم من شواهد هذا التاريخ فنالت مصانع الصابون النابلسي بما تحمله من كل تلك المعاني نصيبا من العذاب.
مظاهر العدوان تجاه مصانع الصابون النابلسي (المصابن) لم تبدأ مع عملية بناء جدار الفصل العنصري، وهي كذلك لم تنته إلى الآن، فالعدوان الصهيوني يلاحق هذا المنتج منذ سنوات عدة باعتباره أحد أهم المنتجات الفلسطينية وهو يحتل المركز الأول في صادرات مدينة نابلس وبالتالي شكل على مدار سنين عديدة قاعدة صلبة لاقتصاد المدينة يعين الفلسطينيين على الثبات في أرضهم، ورمزا حضاريا يشدهم إليها.
ثروة اقتصادية عبر العصور
تعرضت صناعة الصابون في نابلس بعد عام 1930 لقلاقل وهزات أثرت فيها بشكل بالغ ومنها عدم حماية الاسم التجاري مما شجع البعض على تقليد العلامات التجارية المشهورة، وكذلك الضريبة الجمركية التي فرضتها مصر على تصدير الصابون إلى مصر بإيعاز من حكومة الانتداب ورسوم الاستهلاك التي فرضتها سوريا على الصابون النابلسي، بالإضافة إلى سماح سلطات الانتداب البريطاني باستيراد الصابون الأجنبي وتشجيعها لليهود بإنشاء مصانع للصابون المصنوع من الزيوت والشحوم النباتية والحيوانية الرخيصة.
ورغم كل هذه الضربات ظل الصابون النابلسي محافظا على مكانته، وفي عام 1938 بلغ مجمل الصادرات من فلسطين إلى مصر 60 ألف جنيه وشكل الصابون النابلسي أكثر من ثلثيها حتى إن بعض مصانع الصابون كانت تسوق كامل إنتاجها في الأسواق المصرية.
ولا تتوفر أرقام دقيقة حول الكميات المنتجة من الصابون النابلسي في الوقت الحاضر ولكن سجلات الغرفة التجارية تشير إلى أن الصابون النابلسي يحتل مكان الصدارة في صادرات نابلس إلى الخارج فقد شكل الصابون نسبة 41.5 بالمائة من حجم الصادرات عام 2001 وانخفضت هذه النسبة عام 2002 إلى 36.2 بالمائة عام 2002 ويعتقد أن هذا الانخفاض ناتج بشكل أساسي عن تدمير قوات الاحتلال ثلاثة مصابن خلال عملية السور الواقي في نفس العام وهذه المصابن هي مصابن كنعان والنابلسي والرنتيسي ، وكذلك شهد العام 2002 حظرا على التجول وإغلاقا طويلاً فرضته قوات الاحتلال استمر لعدة أشهر وأثر سلبا على مختلف الصناعات في المدينة.
وبلغ عدد مصانع الصابون في نابلس في أواخر القرن التاسع عشر 30 مصنعا ، إلا أن هذه المصابن أخذت تختفي شيئا فشيئا حتى بلغ عددها في العام 1904 ستة عشر مصبنة تراوح إنتاجها السنوي ما بين 500 – 1000 طن . وعشية اندلاع الحرب العالمية الأولى ارتفع عدد مصانع الصابون في نابلس من جديد ليصل إلى 29 مصبنة منها 23 مصبنة كبيرة و6 صغيرة تنتج ما بين 2400 – 2640 طنا من الصابون .
وحسب سجلات غرفة تجارة وصناعة نابلس فقد بلغ عدد المصابن المسجلة رسميا في الغرفة حتى نهاية العام 2002 (28) مصبنة ، ولكن كما هو معلوم فإن عددا كبيرا من هذه المصابن متوقفة عن الإنتاج منذ سنوات وبعضها الآخر قلّص إنتاجه بشكل كبير بسبب نقص الطلب على هذا النوع من الصابون مع ازدياد المنافسة من قبل الصابون الصناعي ، كما يضم العدد المذكور المصابن الثلاث التي دمرتها قوات الاحتلال.
ويواجه الصابون النابلسي إلى جانب عدوان الاحتلال سلاح المنافسة الشديدة من قبل الصابون الصناعي الكيماوي بمختلف أصنافه ، وفي الوقت الذي يتجه العالم المتقدم نحو المنتجات الطبيعية الخالية من الكيماويات ،فإن الشعوب العربية -وللأسف- لا زالت تلهث وراء كل ما هو مصنّع كيماوياً وتعج شاشات التلفزة يوميا بالإعلانات التجارية لمئات الأصناف من منظفات الشعر والغسيل والأواني .
دور اقتصادي ووطني
لقد لعبت صناعة الصابون دورا اقتصاديا هاما في تاريخ نابلس وساهمت في ازدهار الوضع الاقتصادي لسكان المدينة ،وفي الماضي كان أصحاب المصابن من كبار الشخصيات الاقتصادية والسياسية في المدينة وكان الأغنياء ينشئون المصابن في الأحياء ويشغلون العمال فيها وكانت المصبنة تعمل عمل البنوك في يومنا الحاضر فكان أصحابها يقدمون القروض لصغار التجار والفلاحين ويسترجعون ديونهم عند انقضاء الموسم ، ولعل الأمر الذي ساعد على قيام المصبنة بهذا الدور هو وجود خزنة حديدية داخلها فكان كل من يريد إيداع أمواله في مكان آمن يسلمها إلى صاحب المصبنة كوديعة ، وكذلك كان المزارع يضع زيته أمانة عند صاحب المصبنة وإذا احتاج للمال يحضر إلى المصبنة ويبيعها من زيته المودع فيها ويقبض الثمن بالسعر السائد .
ولما كان أصحاب المصابن (أو ما كان يعرف بجماعة المصابنة) من الزعماء وأصحاب الالتزام وكبار التجار والعلماء وأعضاء في مجلس المبعوثان العثماني وأعضاء في المجلس البلدي و كان نتيجة ذلك أن وجد في المصبنة غرفة أو قاعة يجلس فيها صاحب المصبنة وحوله الوجهاء والأثرياء وكبار موظفي الدولة فيما كان يعرف باسم "الديوانية" حيث يتبادلون الحديث والآراء ويتشاورون في الأمور العامة، ولعل أهم قرار سياسي اتخذ في فترة الانتداب البريطاني خرج من مصبنة الشكعة، فبعد أن اعتدى اليهود على فلسطينيي يافا في 17/4/1936 تحركت نابلس لنصرة يافا فعقد اجتماع تمهيدي بتاريخ 19/4/1936 في تلك المصبنة ووضع في هذا الاجتماع أسس ومبادئ الحركات الثورية عام 36 وتم الاتفاق على عدة أمور أهمها إعلان إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية وأن يتم إعلان الإضراب العام في نابلس وأن تدعى سائر مدن فلسطين إلى الإضراب.
حرفة الآباء والأجداد
يرجع بعض المؤرخين تاريخ صناعة الصابون في نابلس إلى أكثر من ألف عام مضت مستدلين على ذلك بالكثير من الكتابات التي دوّنها الرحّالة والمؤرخين القدماء ومنهم "المقدسي" الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، وأول وصف لصناعة الصابون جاء على لسان شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي الملقب بشيخ الربوة بأن الصابون كان يصنع في المدينة ويحمل إلى سائر البلاد.
وفي زمن الاحتلال الصليبي نالت نابلس شهرة كبيرة في هذه الصناعة التي أصبحت حكرا ملكيا حيث كان الملك هو المسئول عنها وكان يحظر على أصحاب المصانع ممارسة هذه الصناعة إلا بعد أن يمنحهم ملك بيت المقدس عقدا يسمح لهم فيه صنع الصابون، وضمن بذلك الملك موردا ماليا جيدا وثابتا من أصحاب المصانع.
ويعتقد أن هذه الصناعة انتقلت على أيدي الصليبيين إلى أوروبا وخاصة فرنسا فتأسست مصانع الصابون من زيت الزيتون في مرسيليا وكانت هذه المصانع تحضّر الصابون بطريقة مشابهة لطريقة تحضير الصابون النابلسي، وانتشرت هذه الصناعة في انجلترا في القرن الرابع عشر.
وقد شكل الصابون سابقا أحد أهم السلع التي كان يتاجر بها تجار نابلس، وقد كان التجار يجوبون مدن سوريا الشمالية لتسويق ما لديهم من صابون وكانت بضاعتهم تلقى رواجا كبيرا في تلك المدن التي كان سكانها يستعملون الصابون النابلسي بكثرة باعتباره أجود أنواع الصابون.
ولا يعرف على وجه التحديد من هو مبتكر هذه الصناعة، وهل وجدت في نابلس أم نقلت إليها من مدينة أخرى، ولكن الثابت أن هذه الصناعة وجدت لها في نابلس البيئة والظروف المناسبة والتي ساعدت على تمركزها في هذه المدينة أكثر من غيرها، ولعل من أهم الأسباب التي ساعدت في ذلك وفرة زيت الزيتون في منطقة نابلس ومحيطها والذي هو المادة الأساسية في صناعة الصابون.
كما كان لانتشار الحمامات التركية العامة في المدينة دور في استمرار هذه الصناعة وزيادة الطلب عليها، فقد ارتبط الصابون النابلسي قديما بالحمامات العامة إذ كان العامل ينتهي من عمله مساءً ويشتري قطعة من الصابون ويذهب بها إلى أحد الحمامات ليغتسل.