قصة الغرانيق الباطلة

طباعة

 

 

لقد أولع المؤرخون بحكاية قصة الغرانيق([1]) الباطلة وجعلوها سببا لرجوع المهاجرين من الحبشة إلى مكة، حينما بلغهم سجود المشركين لما سمعوا النبي r يذكر آلهتهم بخير.

 قصة الغرانيق([2]) مغزاها أن النبي r لما قرأ سورة النجم وانتهى إلى قوله تعالى :﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾([3]) ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه،

ويتمنى أن يأتي به قومه:"تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى"، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، وسرهم ذلك، فلما انتهى إلى السجدة سجد وسجد المسلمون وسجد من في المسجد من المشركين لما سمعوا ذكر آلهتم.

"وهذا مما لا تجوز روايته إلا من قليلي الإدراك الذين ينقلون كل ما وجدوه غير متثبتين من صحته"([4])، قال العلامة القاضي عياض:"فاعلم رحمك الله أن لنا في الكلام على مشكل الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله. والثاني: على تسليمه.

أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولَعَ به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولوعون بكل غريب المتلفقون من الصحف كل صحيح وسقيم.(...)

أما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث ولو صح وقد أعاذنا الله من صحته، ولكنه على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغث والسمين"([5]).

قال الشيخ محمد بن علوي المالكي رحمه الله:"بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيه البتة حديث الغرانيق، ولا شك أن من جوز على الرسول الأعظم تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه" ([6])، وصدق الله تعالى القائل في محكم التنزيل:﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾([7]).

 وقد روى الحديث الإمام البخاري في صحيحه وليس فيه حديث الغرانيق، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ t «أَنَّ النبي r قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا، فَمَا بَقِىَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلاَّ سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ يَكْفِينِي هَذَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا»([8]).

وبمعنى آخر فإن الذين ينقلون هذه العبارة ويجعلونها سببا لرجوع مهاجري الحبشة يقولون أثناء كلامهم: إن الهجرة كانت في رجب، والرجوع كان في شوال، ونزول سورة النجم كان في رمضان، فالمدة بين نزول السورة ورجوع المهاجرين شهر واحد، والمتأمل أدنى تأمل يرى أن الشهر كان لا يكفي في ذاك الزمن للذهاب من مكة إلى الحبشة والإياب منها، لأنه لم يكن إذ ذاك مراكب بخارية تسهل السير في البحر، ولا تلغراف يوصل خبر إسلام قريش لمن بالحبشة، فلا غرابة بعد ذلك إن قلنا إن هذه  الخرافة من موضوعات أهل الأهواء الذين ابتلى الله بهم هذا الدين ([9]).

وخلاصة القول:إن تلك الفرية مما دسه الزنادقة على المسلمين، ولم ينتبه إليها إلا القليل، شغلتهم روايتها عن عاقبتها الوخيمة، وما ينجم عنها من شر وإساءة أدب مع مقام النبوة. 

فالقصة مكذوبة على سيدنا رسول الله r، وأنكرها بعض المفسرين، وأصحاب السير؛ إذ كانت تنقص من مقام النبوة، وتنسخ نسخا صريحا عصمة النبوة!

ولذلك فمن الضلالة والجهل أن نلصق ذلك بالنبي r، وأن يقول قائل أنه ألقى الشيطان إليه، فمدح أصنام قريش، وأثنى عليها، ورفع ذكرها، وأن لها عند الله شفاعة! وذلك باطل بلا ريب ومستحيل أن يقع لأن الشيطان لا يتسلط على النبي r وفي شأن التنزيل والقرآن الكريم، وإلا جاء الشك والباطل في شأن القرآن الكريم، وجوز الفاسقون على مقتضاه أن يكون القرآن قد اعتراه التغيير والتبديل، والزيادة، وتجويز أن يكون النبي وهو مبلغ الرسالة قد اعتراه خوف، وابتعد عن مؤداه، وذلك باطل فما يؤدى إليه باطل بلا ريب ([10]).

فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال: أن هذه القصة موضوعة، وقد قيل: إن القصة من وضع الزنادقة ولا أصل لها ([11]).

فسبحانك سبحانك.. ﴿مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾([12])، ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً﴾([13]).  

 



([1]) الغرانيق: هي الأَصنام، وهي في الأصل الذكور من طير الماء، واحدها غِرْنَوْق وغِرْنَيْق سمي به لبياضه. لسان العرب، مادة: غرنق.

([2]) أوردها  الطبري في تاريخه، 1/564-566. ابن سيد الناس  في عيون الأثر (تحقيق: الخطراوي ومتو)، 1/214-215.

([3]) سورة النجم:19-20.

([4]) نور اليقين، للخضري، ص66.

([5]) إتحاف أهل الوفا بتهذيب كتاب الشفا، 412-416. وقد فصل في رد القصة، تفصيلا قيما، من الصفحة 412 إلى الصفحة 424.

([6]) الذخائر المحمدية، ص31.

([7])سورة النجم:3-4.

([8]) صحيح البخاري، كتاب سجود القرآن، باب سجدة النجم، ح1070.

([9]) نور اليقين، ص67.

([10]) خاتم النبيين r، الإمام أبو زهرة، 1/501.

([11]) الذخائر المحمدية، ص31.

([12]) سورة النور: من الآية16.

([13]) سورة مريم:90.