إن الصدق عتبة للتصفية، ومعيار القيم الأخلاقية، وهو ضرورة من ضرورات الاجتماع، بل هو أكبر أبواب السعادة للأفراد والجماهير ([1]).
فبالصدق يعرف المنافق من المخلص الصادق، والصدق خروج عن خصال النفاق. ولهذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذه الخَصلة الجامعة للأخلاق الحميدة؛ كالصدق في القول
والعمل، ومع الخالق، ومع الخلق، والنية والإخلاص، والنصيحة، والأمانة والوفاء بالعهد، وسلامة القلب، والهجرة، والنصرة، والشجاعة، والتصديق بالغيب. هذه الأخلاق كلها تنضوي تحت لواء الصدق.
وبناء عليه؛ فالصدق برهان المحبة والإيمان، ولنا في المهاجرين إلى الحبشة والمهاجرين من بعدهم إلى المدينة نموذجا كاملا معبرا عن حقيقة الصدق.
ولنا في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة وقدوة، فآل ياسر رضوان الله عليم ابتلوا فصبروا، وبرهنوا على صدق إيمانهم ومحبتهم لنبيهم، وبذلوا أرواحهم في سبيل الله، وفي سيرة باقي الصحابة الذين عذبوا وقتلوا فما صدهم ذلك عن دين الله، ما بدلوا وما يتبدل الصادقون، ولا نقضوا عهدهم، وإنما ثبتوا وذكروا الله فكانوا هم المفلحين والفائزين.
والصدق منجاة، ونتائجه حميدة، وقد رأينا صدق أولئك المهاجرين إلى الحبشة لما سألهم النجاشي عن قولهم في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، فبينوا موقف الإسلام في ذلك دون محاباة أو تمويه لبطارقة النجاشي وللنصرانية السائدة في الحبشة آنذاك التي تخالف عقيدة الإسلام في ذلك، بل قالوا كلمة الحق، ولم يخافوا في الله لومة لائم، صدقوا الله فصدقهم الله، فآمنهم من مكر الماكرين وكيد الكائدين، وأحسن لهم ثوابهم في الدنيا والآخرة.
وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لُقِّب بالصِّدًّيق لصدقه وتصديقه لمن جاء بالصدق (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ([2]) أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)([3]).
وهذا سيدنا أبو سلمة رضي الله عنه يهاجر إلى المدينة رغم كل العقبات الكؤودة التي وضعها المشركون في طريقه، تاركا وراءه زوجه وابنه، تحكي لنا أم سلمة قصة هجرته، نوردها هنا لما فيها من صور رائعة لتلك التربية النبوية لأولئك الرجال الذين تربوا على بذل الغالي والنفيس في سبيل نصرة الإسلام ولو كانوا أبناءهم أو أزواجهم، فعن أم سلمة -زوج النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها، قالت:« لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي، حتى أمسى سنة أو قريبا منها»([4])، ثم بعد ذلك تمكنت من الهجرة بابنها والتحقت بزوجها. فكانت تقول: «والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة»([5]).
أضف إلى ذلك كل من هاجر إلى المدينة، فكانت الهجرة تمحيصا واختبارا لصدق إيمانهم وحبهم لنبيهم ونصرتهم لدينهم، وبذلهم الغالي والنفيس في سبيل عقيدتهم.
وصدق الحق جل ذكره الذي قال في أولئك الرجال الذين تربوا في حضن الصحبة النبوية، وارتشفوا من أصلها الصدق والإخلاص: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)([6])، قال الإمام القشيري -رحمه الله-:شكر الله صنيعهم في المراس، ومدح يقينهم عند شهور البأس، وسماهم رجالا أثباتا لخصوصية رتبتهم، وتمييزا لهم من بين أشكالهم بعلو الحالة والمنزلة، فمنهم من خرج من دنياه على صدقه، ومنهم من ينتظر حكم الله في الحياة والممات، ولم يزيغوا عن عهدهم، ولم يراوغوا في مراعاة حدهم؛ فحقيقة الصدق حفظ العهد وترك مجاوزة الحد ([7]).
([1]) أخلاقنا الاجتماعية، مصطفى السباعي، ص61.
([2]) أي: بالصدق لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق، ولكن قد لا يصدق به، بسبب استكباره ، أو احتقاره لمن قاله وأتى به، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق، فصدقه يدل على علمه وعدله، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره. تفسير السعدي، 1/724.
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَة: "الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّد، وَصَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْر. فتح الباري، 8/437.
([4]) سيرة ابن هشام، 2/341-342.
([7]) تفسير القشيري، الإمام عبد الكريم القشيري، 5/158.