حينما ترد كلمة ثقافة٬ يتبادر إلى أذهاننا مجموعة من التّصوّرات النّمطية عن مهرجانات للسينما و المسرح٬ و فرق موسيقية و غنائية٬ و مبارزات شعرية و معلوماتية٬ الهدف الرئيسي منها التسلية و ملء فراغ الناس٬ و كذا عرض سطحي لبعض المظاهر من التراث٬ كالألبسة و الأطعمة و ما شابه...
لكن المتمعن في فكرة الثقافة٬ لا يقنع بهذا الدّور الضّحل و المبسّط لما يجب أن يكون لهذه الكلمة. إذ يجب أن يكون معناها أعمق من هذا بكثير٬ و دورها في نهضة الأمم أو إنحطاطها أخطر أيضا٬ و كذا مدى العلاقة التي يجب أن تكون لها بسياسة الأمة و نموِّها الإقتصادي و رقي أفرادها و شحذ هممهم٬ من أجل تنبيه وعيهم بالدور الذي يجب عليهم القيام به.
إن التّصور الحقيقي لمعنى الثّقافة٬ يكمن في ذلك الزّخم الغني من تراث الأمة الغير المادي والمتمثل في الجو الثقافي الذي يبدأ المولود بامتصاصه من محيطه بمجرد ولادته أي إنه مجموعة التّصورات للمحيط الإجتماعي و النفسي السائد ٬ و الذي يشكل المناخ المُلائم للنّمو الصّحيح لنفسيات الأفراد فيه٬ و كذا الخرسانة القوية للبناء الإجتماعي الذي حفظ المجتمع و ما زال.
على الثقافة إذا، أن تكون عامل استقرار نفسي و اجتماعي يضمن للفرد الإندماج الكلي في محيطه الإجتماعي و يجعل منه لبنة منسجمة مع نسيج البناء في مجتمعه. كما يخضع بذلك لمناخ ثقافته و يقيس مدى تناسقه و انسجامه معها أو تناقضه و بعده عنها مما يجعل منه عنصرا منتجا أو على الأقل غير مُعيق لنمو مجتمعه.
إن الأغنية التي تتغنى بقيم إجتماعية كطاعة الوالدين أو مضار شرب الخمر٬ أو القصيدة التي تمدح قيمة إجتماعية كالكرم أو التكافل الإجتماعي٬ أو الفيلم الذي يتعرض للظلم الإجتماعي و الفساد الأخلاقي٬ لهي الدّعائم التي تسند الثقافة الحقّة لمثل مجتمعاتنا٬ و تحافظ عليها من الإنزلاق لنماذج مُستوردة لا تتناسب إطلاقا و نفسياتنا و تركيبة مجتمعاتنا القائمة أساسا على سلطة الأخلاق و التكافل الإجتماعي٬ اللذان يضمنان لأفرادها توازنا نفسيا يكون له الأثر المباشر في نهضته الثقافية٬ و رقيه الإجتماعي٬ و كذا نموه الإقتصادي...
إن الإستيراد الثقافي الغير المدروس لثقافات غربية بحجة العصرنة و تحديث العقليات المُتخلفة٬ كان له نتائج كارثية و مفاسد إجتماعية أصبحت تشكل عائقا شالا لنمو إقتصاداتنا. فاكتظاظ السجون و دور العجزة و الآفات الإجتماعية كتعاطي المخدرات و ما ينتج عنه من سرقة و قتل و اعتداءات جسدية٬ و الفساد المالي و الإختلاسات لبعض المسؤولين٬ لهي النتائج المباشرة لاستهلاكنا لتلك الثقافات الدّخيلة و القائمة أساسا على المادية و حب الذات و الأنانية المطردة الناتجة عن السياسة الماكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة".
إن الأخلاق هي البنية التحتية التي على ثقافتنا أن تستثمر فيها للمستقبل لكي لا نقع في ما تعاني منه بعض الإقتصادات الصّاعدة كالبرازيل و جنوب أفريقيا. إنّ ثقافتنا الأصيلة تقوم على القناعة و الشّرف و طاعة الوالدين إلى حد التقديس٬ و معاونة الفقراء و مساندة الجار و الحرص على الكسب الحلال٬ و ما إلى ذلك من قيم أصبحت من الماضي٬ و التي يجب على ثقافة اليوم أن تسعى لاستعادته بكل وسائلها الحديثة. فقد كان عُلماء السّلف حين يسمعون قصّة في مكارم الأخلاق يأمرون الناس بالتّحدّث بها حرصا منهم على نشر ثقافة الخير.
إذا نجحت ثقافتُنا العربية في استرجاع هذه القيم البائدة أو التي توشك أن تبيد، فإنها بذلك ستكون قد وضعت رجلها على المسار الصّحيح٬ و تكون بذلك أقوى عون للتخلص من الآفات الأخلاقية التي تلتهم أموالا طائلة من خزينة البلاد٬ و تسهم بفعالية في إسناد اقتصاداتنا في فترة كالتي تعيشها أوطاننا حاليا٬ و التي نتمنى أن تكون إنطلاقا حقيقيا للمشروع العربي المُستقبلي.
ع. جبور