ترجم محب الدين الخطيب([1]) رحمه الله كتاب الغارة على العالم الإسلاميّ لمؤلفه أـ ل شاتليه ونشره في جريدة المؤيّد حيث كان يعمل في ذلك الوقت, وذلك في عام 1330هـ, وقد أعاد نشره في صحيفة الفتح عام 1349هـ, وأعاد طباعته في المطبعة السّلفيّة بعد ذلك أيضاً عام 1350هـ. وكتب في مقدّمة الكتاب: " في يوم من أيام سنة 1330 هـ, وكنت أشتغل في تحرير المؤيّد, أقبل عليّ زميلي السّيّد مساعد اليافي([2]), وقال:
شيء جديد لم أكن أتوقّعه.
ـ قلت: ما هو؟.
ـ قال : إنّ مجلّة العالم الإسلاميّ الّتي كانت إلى الآن مجلّة اجتماعيّة أدبيّة, تحولّت هذا الشّهر إلى مجلّة تبشيريّة. انظر, إنّها أصدرت عدداً ضخماً ليس فيه غير بحث واحد, وهو بحث تبشيريّ, يدور حول ما تقوم به إرساليات التّبشير البروتستانتيّة في العالم الإسلاميّ, وما قِيل في المؤتمرات الّتي عقدتها تلك الإرساليات في أوقات مختلفة, وقد جعلت المجلّة عنوان هذا البحث "الغارة على العالم الإسلاميّ أو فتح العالم الإسلاميّ".
ـ قلت إنّ المجلّة الفرنسيّة بنشرها هذا العدد الخاصّ بأعمال المبشّرين البروتستانت تقول للمبشّرين الكاثوليك انظروا كيف سبقكم الآخرون إلى الغارة والفتح, فيجب أن تضاعفوا جهودكم وتنظروا في أساليبهم فتستفيدوا منها. ونحن, أيها الأخ, بصفتنا مسلمين, يجب علينا أن نعلم ما يكيده لنا هؤلاء وأولئك, وأن نجعل أمّتنا على علم بما يُنصب لها من شراك, وما يُبيّت لها من شرّ, فأقترح عليك أن تُترجم فصول هذا البحث فصلاً بعد فصل, وتنشره في المؤيّد تباعاً, فيقف المسلمون على ما يُكاد لهم به من هذه النّاحية.
ـ فقال لي صديقي السّيّد مساعد: ولكنّ البحث طويل, والوقت الّذي نعمل فيه هنا مشغول بالواجبات الأخرى.
ـ قلت: نتعاون أنا وأنت على هذا الخير, ولا نعدّ هذا من واجباتنا في قلم التّحرير, بل من واجباتنا نحو الإسلام والشّرق, وأرى أننا عندما نفرغ كلّ يوم من عملنا اليوميّ, تملي عليّ ترجمة فصل من الفصول بأيّ الألفاظ شئت, وأنا أصوغ ما تمليه عليّ بعبارة عربيّة, فنتمكّن من أداء هذا العمل بنصف الوقت اللّازم له.
ـ قال: حسن!.
وفي نفس ذلك اليوم دفعنا للمطبعة مقدّمة المسيو (لُ شاتليه) رئيس تحرير مجلّة العالم الإسلاميّ, بعد أن وطّأنا لها توطئة باسم قلم تحرير المؤيّد. وما كادت هذه المقالات المتسلسلة تنتشر في مصر والعالم الإسلاميّ, حتّى كان لها وقع عظيم جدّاً وبعثت اليقظة في كثير من النّاس"([3]).
وصار هذا الكتاب مرجعاً هامّاً لكلّ مشتغل بقضايا التّبشير والاستشراق في العالم الإسلاميّ, فاتّخذه كثير منهم أساساً لأبحاثهم ودراساتهم. "إنّ كتاب الغارة هذا قد أدّى خدمة في زمنه, وإنّ مساعد اليافي ومحب الدّين الخطيب قد حاولا فتح عين المسلمين على شيء من أخطار التّبشير"([4]), ونبّه إلى قضايا على غاية من الأهميّة, وإلى أساليب المبشّرين الّذين يريدون استغلال حاجة الشّرق والبلاد الإسلاميّة إلى التّقدّم, في سبيل تبديل دينهم, وإبعادهم عن جذورهم وتاريخهم, حتّى يسهل السّيطرة عليهم, وعلى خيرات بلادهم. فالتّبشير والاستشراق كلاهما دعامة الاستعمار في مصر وفي الشّرق الإسلاميّ, فكلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلاميّة والغضّ من اللّغة العربيّة الفصحى, وتقطيع أواصر القربى بين الشّعوب العربيّة والإسلاميّة, والتّنديد بحال الشّعوب الإسلاميّة, والازدراء بها في المجالات الدّوليّة العالميّة([5]).
"ومن يتابع كتاب الغارة على العالم الإسلاميّ...., وكان اسمه الحقيقيّ واضح الدّلالة على الهدف, هو فتح العالم الإسلاميّ, يجد القضيّة أكيدة واضحة, وأنّ مخططاتها منسّقة وموزّعة على المؤسسات, مؤسسة المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات, ومؤسسة الصّحافة والثّقافة, عن طريق الصّحيفة والمجلّة والكتاب. ثمّ هناك مؤسسة أخرى أشدّ خطراً ظهرت من بعدهما, مؤسسة القصّة والمسرحيّة والشّاشة والإذاعة المسموعة والمرئيّة"([6]).
قام محب الدّين فيما بعد بنشر هذا الكتاب مرّة أخرى, وقامت مجلّات وجرائد مهمّة بنشره, حتّى يطلّع المسلمون على ما فيه من أعمال خطيرة يقوم بها المبشّرون في العالم الإسلاميّ. "وكان المسيو لُ شاتليه, والقائمون على مجلّة العالم الإسلاميّ يحسبون أنّ المسلمين في غفلة, وأنّهم لن يهتمّوا بهذا الموضوع, وإنّما الغرض من كتابته ونشره بالفرنسيّة اتّهام جمعيات التّبشير الكاثوليكيّة بأنّها مقصّرة, وأنّ البروتستانت سبقوها في الغارة على العالم الإسلاميّ وفتحه فجاء الأمر بالعكس وحصلت اليقظة لعدد كبير من المسلمين الّذين أدركوا بعض ما يُراد بهم. وقد جرت مناقشة على صفحات المؤيّد بين ناشري هذه الدّراسة....., فكان محب الدّين هو الّذي يتولّى المدافعة, والرّدّ عليهم"([7]). ويمكن أن نقول إنّ هذا الكتاب يُعدّ من أوائل الكتب الّتي نُشرت في هذا الموضوع الخطير والهامّ, لذلك فقد كان له أهميّة كبيرة. ونحن في يومنا الحاضر نرى كثيراً مما ورد في هذا الكتاب مطبّقاً على واقعنا, ولولا أنّ المسلمين أصبحوا متنبّهين لما يٌراد لهم لكان هناك واقع آخر أكثر خطورة مما نرى.
(1) محب الّدين الخطيب ، ( 1303 - 1389 / 1886 - 1969) ، وُلِد في دمشق ، وتعلم بها وبالآستانة ، وشارك في إنشاء جمعية النهضة العربية . عمل في تحرير المؤيد . وعندما أعلنت في مكة الثورة العربية عام 1916م قصدها ، وحرر جريدة القبلة وحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً. ولما جلا العثمانيون عن دمشق ، عاد إليها 1918م ، وتولى إدارة جريدة العاصمة . وفَرَّ بعد دخول الفرنسيين فاستقر في القاهرة ، وعمل محرراً في الأهرام . وأصدر مجلتيه الزهراء و الفتح ، وكان من أوائل مؤسسي جمعية الشبان المسلمين. وتولى تحرير مجلة الأزهر ست سنوات ، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها ، أشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث . ونشر من تأليفه « اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب » و « تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس » و « ذكرى موقعة حطين » و « الأزهر ، ماضيه وحاضره والحاجة إلى إصلاحه » و « الرعيل الأول في الإسلام » و « الحديقة » وغيرها ؛ انظر، محمَّد مطيع الحافظ ونزار أباظة, تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري, دمشق, دار الفكر، 1406/ 1986، 2، 847 وما بعدها .
(2) مساعد اليافي, وُلد في طرابلس الشّام عام 1303 ـ 1886. انتقل إلى مصر فعمل في دار المنار وفي جريدة المؤيّد. سُمي وكيلاً للخارجيّة بقصر الملك حسين, سافر إلى أمريكا الجنوبيّة, ونشر أبحاثاً عن الصّهيونيّة فضح بها بعض أسرارها, وكانت هذه الأبحاث السبب في قتله فقُتل على يد أحد الصّهاينة عام 1363/ 1943؛ انظر, الزّركلي, خير الدّين, الأعلام, 7, 213؛ وكحّالة, عمر رضا, معجم المؤلّفين, 12, 223.
(3) الخطيب, محب الدّين, مقدّمة كتاب الغارة على العالم الإسلاميّ, دمشق, دار الأحباب, 1425 / 2005, 9 ـ10.
(4) الخالدي, مصطفى, وفروخ, عمر, التّبشير والاستعمار في البلاد العربيّة, صيدا, المكتبة العصريّة, ط3, 1986, 10.
(5) البهي, محمّد, الفكر الإسلاميّ الحديث وصلته بالاستعمار الغربي, 417.
(6) الجندي, أنور, شبهات التّغريب في غزو الفكر الإسلاميّ, 12 ـ 13.
(7) الخطيب, محب الدّين, حياته بقلمه, 54.