- قراءة في كتاب: "العلاج الرباني للمعصية"
- تأليف: مجموعة من الباحثين.
- نشر إلكتروني: سوف ينشر قريبا من طرف مكتبة الضامري للنشر والتوزيع.
- عدد الصفحات: 105
يُعدّ الكتاب بحقّ من بين الكتب المميّزة، خاصة لمن أكرمه الله بمطالعته في شهر رمضان، ويستحق أن يُقرأ مرّات ومرّات عديدة؛ وذلك لتناوله موضوعات ذات صلة وثيقة برحلة الإنسان الروحية في هذا العالم وتأثير مجموع معتقداته وتصوّراته على مصيره الأبدي. كان مصدر الباحثين الأساس في هذا الكتاب هو القرآن الكريم، ذلك النّبع الصافي وذلك المعين الذي لا ينضب، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال بالروايات الآحادية التي
لا تفيد اليقين قطعا، فضلا عن أنّها وراء الكثير من الشطط الحاصل في الفهم، ومتجرّدين أيضا عن نزعة المذهبية والتعصّب لها. همّهم وديدنهم الوحيد في ذلك هو إيصال رسالة صافية تهزّ الضمائر الميّتة وتحرّك العقول الجامدة وتُذكّر المسلمين بالكثير ممّا غفلوا عنه - لسبب أو لآخر- من آيات الذكر الحكيم التي جاءت لترقى بهم وبعقولهم إلى أعلى عليّين إن هم حقّا أخلصوا النظر فيها.
والكتاب عبارة عن بحث واستقصاء للوصول إلى معرفة السبب الرئيسي وراء تخلّف المسلمين وسيادة غيرهم؛ حيث يرى الباحثون أنّ تقديم الصورة الواضحة عن المصير الإنساني سوف يساهم مساهمة جذرية في الوصول إلى الجواب السديد والحلّ الناجع.
وجدير بالذكر أنّ النتائج التي توصّلوا إليها في هذه الدراسة ليست بدعا من القول، بل قد وصل إليها باحثون آخرون من مختلف المدارس الإسلامية؛ باحثون متجرّدون للحقيقة يتّبعونها ويحيَـوْن لأجلها ولا يخافون في الله لومة لائم، يحتسبون صبرهم عند بارئهم. فاللهم اجعلنا من طلاّب الحقّ.
أقدّم في هذه الأسطر قراءة مقتضبة جدّا لما ورد في الكتاب، أخشى -في الكثير من الأحيان- أن تُخلّ بمضامينه ومفاهيمه، لكنّ حسبي أننّي قُمت بتقديم فكرة عامة حول ما يحويه وأثرت فُضول القارئ الكريم لأن يدخل عوالم هذا الكتاب بنفسه.
إلى الكتاب:
الإنسان في الوجود:
اهتمّ القرآن الكريم بتبيين موقع الإنسان من هذا الكون الرّحب فهو ذلك الكائن الضعيف الذي سُخّر له ما في السماوات وما في الأرض وفُضّل عى كثير من خلق الله تفضيلا وجُعل هدفه من الوجود واضحا منحصرا في العبادة ثمّ الاستخلاف، فهو كائن مكلّف عاقل مميِّز بين الحق والباطل، حرّ في اختيار أيّ السبيلين شاء. وقد كرّم الله هذا المخلوق العجيب بإنزال الكتب وإرسال الرسل الذين تتلخّص مهمّتهم في توجيه الناس نحو الطريق المستقيم، وفي مقابل ذلك فإن للإنسان أهواء تصرفه عن تلك الوجهة الصحيحة وشيطانا يعمل على تزيين ذلك كلّه؛ ومن خلال هذه الأمواج المتضاربة يخرج مفهوم "ابتلاء الإنسان".
هذا الابتلاء الذي تكون نتيجته إمّا نعيم أبدي أو جحيم أبدي، يشتمل فيما يشتمل على "جملة توجيهات قرآنية عُلّق الإتيان بها أو الانتهاء عنها بالإيمان بالله واليوم الآخر". فعدم الانضباط وفق هذه التوجيهات يدلّ على أنّ هناك خللا في الإيمان بالله أو اليوم الآخر.
ترى المجموعة[1] أنّ الإيمان باليوم الآخر وهو يوم الجزاء الأكبر لا يستولي على النفس ولا يكون له تأثير في العمل إلاّ بالكشف عمّا غيّر ويُغيّر من حقيقته التي وصفها القرآن الكريم.
فمن بين المعطيات التي أولاها القرآن الكريم أهمية كبيرة: موضوع الشيطان، فالشياطين يُعتبرون أولياء للذين لا يؤمنون وأعداء للذين آمنوا. أمّا عن وظائف الشيطان فهي منحصرة في: التزيين، الإغواء، الإغراء، إثارة الفتنة، زرع الأماني.. لكنّ تأثيره لا يتعدّى هذه الأفعال ولا سلطان له على إرادة الإنسان واختياره وإلاّ فما معنى الهداية والابتلاء والجزاء والحساب والعقاب.
المعصية تحت المجهر:
يُعتبـر الأمر والنهي الرباني مدعاة للإمتثال المباشر، وبمخالفتهما تصدر المعصية. ومن الملاحظ أنّ المعصية التي ارتكبها أبونا آدم وزوجه كانت في "التذوّق من الشجرة" ومع ذلك اعتبرا أنّ فِعلهما ظلم للنفس وعلّقا النجاة منه والبعد عن الخسران بتدخّل مغفرة الله تعالى ورحمته. هذا النموذج من المخالفة في قصة أوّل إنسان يجعلنا حقّا نعيد النظر في قانون المعصية من حيث:
- الأمن من المؤاخذة من المعصية بسبب ما قد يطرأ على الذهن ممّا يُهوّن من شأنها.
- حجم المعصية كما نتصوّرها صغرا أو كبرا.
فتنة الأماني:
من بين وُعود الشيطان المغرية: إشعار الناس بإمكانية المغفرة مع ارتكاب المعصية ولو من غير توبة. ومن بينها أيضا: الإغترار والشعور بأنّ مجرّد الإنتساب إلى أمّة الإسلام –وأمّة محمد- سوف يُنجي صاحبه من عذاب الله تعالى ويُعفيه من العمل الذي هو دليل على الإيمان الحقّ. وجدير بالتذكير أنّ هذا الشعور كان في الحقيقة عند بني اسرائيل كذلك.
والنتيجة أن العمل بشقّيه الصالح والفاسد يُفرّق بين أصحاب الجنة وأصحاب النار: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }السجدة19
والقرآن الكريم لم يحصر الجزاء بالنار للمشركين فقط بل وأوجب التوبة من المعاصي شرطا للدخول في جنة الخلد.
الموازنة:
تعني الشعور بالأمن لدى ارتكاب المعصية نظرا لوجود أعمال صالحة قد سبقت. فهذا الإعتقاد يجعل الشخص مكثّرا من الطاعات لكن دون محاولة جدّية للتخلّص ممّا قد سلف من المعاصي. في الوقت نفسه نجد أنّ الأنبياء، الذين من المفترض أن يكونوا أعظم أسوة لنا، نجدهم أسرع خلق الله إلى طلب المغفرة من الله تعالى عند وقوع أيّ خطأ من طرفهم بغض النظر عن مراتبهم الكبيرة عند الله عزّ وجلّ. فلو كان مفهوم الموازنة حقيقيا لكان الأنبياء، عليهم أزكى الصلوات وأطيب السلام، أولى الناس بتبنّيه، لكنّ شيئا من هذا لم يكن.
الشفاعة:
ويُقصد بها شفاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام يوم القيامة للعصاة من أمّته، فيحول دون دخولهم النار أو ينقذهم منها إن هم وقعوا فيها، والحاصل من هذا أن تكون الجنة "للموحّدين" والنار "للمشركين". ترى المجموعة، في هذا الصدد، أنّ الخلل واقع في فهم وظيفة الرسول عليه السلام. فمهمته كما بيّن القرآن الكريم؛ تنحصر في التبليغ والإنذار والنصح والاستغفار للمؤمنين، والآية واضحة في هذا الصدد: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً }الجن21 وغيرها من الآيات الصريحة أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة254
المشيئة:
ومن بين الأماني أيضا المشيئة، وهي توهّم الرجاء والأمان عند ارتكاب المعصية، فهي دعوى أنّ أهل المعصية الذين ماتوا مُصرّين عليها دون توبة منها: قد يُغفر لهم بمشيئة الله ويكون مصيرهم الجنة. وفي المقابل نجد أنّ آيات القرآن الحكيم تجزم في مصير هؤلاء. بل والقرآن الكريم يلفت النظر إلى أنّ هذا الادّعاء باطل ولا يقول به إلاّ المشركون حين تتقطّع بهم السّبل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ }الأنعام148
تعتبر المجموعة أنّ هذه الأماني الأربع، لا على سبيل الحصر، هي من بين الأماني الأكثر انتشارا وحضورا وتأثيرا سلبيّا في عقل المسلم ووجدانه، فضلا عن كونها سببا رئيسيا وراء الإنحطاط الذي وصل إليه واقع المسلمين، الذي هو بعيد جدا عن تعاليم دينهم الحنيف. فشعور العاصي بالأمن من مكر الله وعذابه، والرّضى بما قدّمت يداه هو ما تُوفّره فعلا تلك الأماني.
وكخلاصة لما سبق، فإنّه يقينا لا نجاة للمسلم يوم القيامة إلاّ بالتوبة النصوح من معاصيه كلّها قبل أن توافيه المنيّـة، ولا تناله رحمة ربّـه إلاّ بعد ذلك لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنعام54 وهو بذلك مُبشَّرٌ بالجنة والخير الوفير لأنّه أصبح في سلك المؤمنين المتقين الذين اختاروا طريق الاستقامة ووَقُوا أنفسهم شرّ المعصية: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً }الأحزاب47
الحديث عن التوبة وما يترتّب عنها:
قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }طه82
فالمغفرة الحقّة يستحقّها من استجمع أمورا أربعة:
1- التوبة: وهي الإقلاع الفوري عن المعصية واستشعار قُبْــح الجرم الذي اقترفناه، ولنا في أنبياء الله قدوة حسنة، وذلك دونما استكثار لعمل صالح سالف ودونما إصرار وعناد وتمادي: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }النساء18
2- الإيمان: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }السجدة15 فهو إيمان يورّث العاصي الندم على معصيته وذلك لعظمة من قد عصاه.
3- العمل الصالح: وهو قرين الإيمان لا ينفكّ عنه.
4- الإهتداء: على نهج الله وعقد العزم على الثبات والإستمرار على ذلك السبيل ما عاش الإنسان، وهذا بكل تأكيد يحتاج إلى جهد وصبر ومصابرة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }العنكبوت69
في الأخير نخلص إلى أنّه يترتّب من ضبط هذه التصورات وتصحيحها في العقل المسلم، أن يستشعر الإنسان عظمة خالقه الذي عصاه فيُسارع إلى الندم الشديد ثم التوبة النصوح خوفًا على مصيره وتوقًا إلى مرضاة ربّه لا أن يختلق أعذارا تحول بينه وبين رضوان الله.
وجعلُ الناس يفكّرون بجديّة في أمر مصيرهم والخوف عليه: علاج مجدي للنفوس؛ يعود بالكثير من الخير عليهم وعلى واقعهم الحياتي وإنتاجهم الحضاري. فوُضوح الرؤية في شأن المصير والبُعْـد عمّا تُمليه الأهواء أمران كفيلان بأن يجعلا المسلم مسؤولا عن كلّ ما يأتي وما يذر. فأوامر الله -العليم بنفوس عباده وطبائعهم- وقوانينه الصارمة والعادلة، تضمن لمن تمثَّلها الحياة الطيّبة والعيش الرغيد ولمن خالفها إلى هواه العيش النكد.
فقد نجحت الجماعة في تبسيط العديد من المفاهيم وجعلها أقرب إلى الذّهن بطرح أمثلة عليها من آي الذّكر الحكيم وخاصة من سير المرسلين الذين يُعتبرون أشدّ الناس تطبيقا للهدي الرباني. فتحكيم العقائد المنتشرة بين الناس إلى القرآن الحكيم وفرز صحيحها من عليلها مهمة واجبة في كلّ عصر ومصر إن أرادنا لهذا الدين دوامه.
والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل.
[1] - أشير إلى مجموعة الباحثين الذين ألّفوا هذا الكتاب بلفظ "مجموعة".