لم يكن r بالطويل ولا بالقصير، لكنه إلى الطول أقرب، وكان بعيد ما بين المنكبين، أزهر اللون([1])، عظيم الهامة، واسع الجبين، أزج الحاجبين([2])، أبلج ما بينهما، كأن بينهما الفضة النقية، أدعج([3]) العينين، مُفلج الأسنان([4])، شعره غير جعد قطط([5])، ولا سَبْط([6])، بل وسط، أحسَنَ الناس عنقا، عريض الصدر واسع الظهر، بين كتفيه خاتم النبوة مما يلي منكبه الأيسر، فيه شامة سوداء، وحولها شعرات متوالية، طويل الزندين([7])، شَثْن([8]) الكفين، يضع يده على رأس الصبي
فيُعرف من بين الصبيان بطيب ريحها على رأسه، معتدل الخَلق، يمشي هونًا([9])، بغير تبختُر، عَرَقُه كاللؤلؤة في البياض، والمسك في الريح.
وكان r أحلمَ الناس وأشجعهم وأعدَلَهم وأجودَهم، لا يبيت عنده درهم ولا دينار، ولا يُسأل قط فقال لا، وأصدقهم لهجةً، وأشدَّهم تواضعا، وأليَنَهم عريكة([10])، وأكرمَهم عشرةً([11])، وأعظمهم حياءً، لا يثبت بصره في وجه أحد، يقبل الهدية ولو جرعة لبن، ويكافئ عليها أكثر، ولا يأكل الصدقة، ويغضب لربه لا لنفسه، يُنفذُ الحق وإن عاد بالضرر عليه، لطيفَ الظاهر والباطن، يُعرف في وجهه غضبُه ورضاه، وإذَا أهمَّه أمر أكثر من مسِّ لحيته، يتكلم بكلام بيِّن يحفظه من سمعه، ويعيد الكلمة ثلاثا أحيانا لتُعقل عنه، متواصل الأحزان، دائم الفكر، لا يتكلم في غير حاجة، كثير البكاء والضراعة، يمشي مع المساكين والأرملة لقضاء حوائجها، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم أهله، ويعود المرضى، ويشهد الجنَائز، ويزور قبور المؤمنين، ويُسلِّم عليهم ويستغفر لهم، ويركب الفرس والبعير والحمار، ويركب منفردا، ويُردف([12]) أحيانا خلفه عبده أو زوجته وغيرهما، ويُجالسُ الفقير، ويُؤاكِلُ المسكين، ويُكرم أهل الفضل، ويتألَّف أهل الشرف، ويجلس للأكل مع العبيد، ويأتي إلى بساتين إخوانه إكرامًا لهم، ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، لا يهُولُه شيء من أمر الدنيا، لا يَحقرُ مسكينا لفَقره، ولا يهابُ مَلِكا لمُلكه، ولا يواجه أحدًا بما يكرهه، ويمزح ولا يقول إلا حقًا، ولا يضحك إلا تبسُّمًا، يعجَبُ ممَّا يَعْجَبُ منه جلساؤه، ولا يجلس إلا على ذكر الله، وكان أكثر جلوسه محتبيا مستقبلا بيديه.
كان r يأكل ما وجد، ولا يتكلف ما فقَد، وإذا حضر طعام لا يردُّه، وما عاب طعاما قط، بل إن أعجبه أكله وإلا تركه، وأكل لحمَ الإبل والغنم والدجاج والسمك والرطب والتمرَ، وشرب اللبن صِرفًا وممزوُجا، وأكل الخبز بتمرـ وتارة بخَل، وتارة بشحم، وكبدَ الغنم مشويا، والقديد والدُّبَّاء وكان يحبُّها، والجبن والثريد، والخبزَ بزبيب وزبْد، وإذا لم يجد شيئا صبر حتى شدَّ الحجرَ على بطنه الشريف، وكان يأكل لحم الطير الذي يصادفه ولا يتبعه ولا يصيده، ويأكل اللقمة السَّاقطة ويقول: pلا ندعها للشيطانi ، يتبع ما سقط من المائدة ويقول: pمن فعله غُفر له i، ويُسمِّي الله أوَّل طعامه وإذا فرغ حمِده، ولا يأكل متّكئا، ويُعجبه الذراع والعجوة والعسل والحلوى، وأحَبُّ الفاكهة إليه العنب والبطيخ.
وكان r يلبس ما وجد، كتانا أو صوفا أو قطنا، والغالب القطن، قميصا أو رداء أو إزارا أو غيرهما، ويحب الثياب الخُضر، ولبسَ البُرْدَة والجُبَّة والحُلَّة الحمراء أو القِبَاء.
وكان له r ثوبان للجمعة وبُردٌ([13]) أخضر للعيد ويلبس العمامة البيضاء والسوداء، والأكثر البيضاء بغير قلنسوة وبها، وقلنسوة بغير عمامة، ويجعل لها غالبا عذبة بين كتفيه، ولم تكن عمامته كبيرة تؤذي الرأس ولا صغيرة تقصر عن وقاية الحر والبرد، وكان له عمامة تسمى السَّحاب فوهبها لعلي كرم الله وجهه، فكان إذا قدم فيها يقول: p أتاكم علي في السحابi.
وكانت ثيابه r كلها فوق الكعبين، ويلبس ثوبه من ميامنه، وينزعه بالعكس، ويقول عند لبسه: pالحمد لله الذي كساني ما أستر به عورتي، وأتجمل به i.
وإذا لبس جديدا أعطى الخَلِق مسكينا، وكان له ملحفة مصبوغة بوَرْس([14])، وكان له خاتم من فضة يتختم في خِنْصر([15]) يمينه ويساره، لكن اليمين أكثر، ويلبس النعال والتاسومة([16]) والخُف.
وكان فراشه r من أدم، حشوه ليف، طوله ذراعان وشيء، وعرضه ذراع ونحو شبر وربما نام على حصير وعلى الأرض.
وكان r يحب الطيب، ويكره الريح الكريه، ويتطيَّبُ بغالية ومسك، ويتبخر بكافور وعود، ويتكحل بالإثمد([17])، وكان أكثر دعائه: pيا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينكi.
ومن دعائه r: pاللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يُرفع، وقلب لا يخشع ودعاء لا يُسمعi .ومنه: p اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاi .
وله r معجزات كثيرة منها: انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، فشرب العسكر كلهم وتوضئوا من قدح صغير ضاق عن بسط يده فيه، وحنَّ إليه الجذع الذي كان يخطب إليه لما فارقه للمنبر حتى سمع منه الناس صوتا كصوت الإبل، فضمَّه إليه فسكن. وكلَّمه الذراع، وشكا إليه البعير، وسلمت عليه الغزالة، وشهد له الذئب بالنبوة، وسعت إليه الشجرة من مغارسها، وتفل في عين عليt وهو أرمد فبرئت ولم يرمد بعد، ومسح رِجْل ابن أبي عتيكة t لما انكسرت فصحَّت، وقال في عثمان t:p تصيبه بلوى عظيمة i. فكان ما كان، ودعا لعلي بذهاب الحر والبرد فلم يحس بهما بعد، ولابن عباس –رضي الله عنهما- بالفقه في الدين وعلم التأويل فصار بحرا، ولأنس t بكثرة المال والولد وطول العمر، فرُزق مائة ولد، وعاش مائة سنة، وصارت نخله تحمل في العام مرتين، ودعا على عتبة بن أبي لهب p اللهم سلط عليه كلبا من كلابكi ، فأكله الأسد، وأطعم ألفا في غزوة الخندَق من أقلَّ من صاع، ورمى الكفار يوم حنين بقبضة من تراب فامتلأت أعينهم وانهزموا، وأخبر بأن عمارا t تقتله الفئة الباغية فقتله جيش معاوية، وخرج على مائة من قريش ينتظرونه، ووضع على رؤوسهم ترابا فلم يروه e.
والحمد لله رب العالمين.
[1]- الأزهر اللون: النير.
[2]- أزجّ الحواجب: أي طويل امتدادهما لوقور الشعر فيهما وحسنه إلى الصدغين. فأما جمع الحواجب فله وجهان: أحدهما على مذهب من يوقع الجمع على التثنية، والثاني: على أن كل قطعة من الحاجب تسمى حاجباً.
[3]- الأدعج: الشديد سواد العين.
[5]- القَطَط: فشديد الجعودة.
[6]- السَّبط: السبوطة: استرسال الشعر، مثل شعر الإفرنج، والشعر الجعد مثل شعر الزنج والسودان. فالنبي eكان وسطا بين الجعودة والسبوطة.
[7]- طويل الزندين: الزندان عظما الساعدين.
[8]- الشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين.
[9]- يمشي هونا: أي في رفق ولين.
[10]- ألينهم عريكة: العريكة الطبيعة، ويقال: فلان لين العريكة إذا كان سلسا مطاوعا منقادا، قليل الخلاف والنفور.
[11]-العِشْرة: الصحبة، والعشير الصاحب.
[12]- يردفه: يُركبه خلْفه.
[13]- برد: ثوب مخطط.
[14]- ورس: نبات أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه ويصنع به الثوب.
[15]- الخِنْصِرُ: الإِصْبَعُ الصغرى.
[16]- التاسومة: نوع من النعال.
[17]- الإثمد: حجر يُكتحل به.