أدهشني أستاذنا الجليل الذي سبقنا إلى العالم باثني عشر قرناُ أبو عثمان الجاحظ، صاحب الفضل على كل من خط كلمة في اللغة العربية، مؤسس الكتابة العربية والعبقري الألمعي متعدد المواهب، خفيف الظل وصاحب النكتة، عدو التجهم وصديق الابتسام، بخصلة فيه حرت في تفسيرها، وهي خصلة يمكن لي أن أسميها "قلة الجدية".
ولا أعني بهذه الخصلة ميله للمزاح والنكتة، وتفضيله لأسلوب السخرية على غيره من الأساليب، إذ أن التاريخ شهد كتاباً كثيرين ساخرين اشتهروا بحب النكتة وإنتاجها ولكنهم كانوا في حقيقة أمرهم على أعلى درجة من الجدية، ملتزمين بقضايا لا يتزحزحون عنها ولو انطبقت الأرض على السماء.
أذكر من هؤلاء من الأجانب فولتير وبرنارد شو ومارك توين، وأذكر من العرب
مارون عبود وحسيب كيالي وفارس زرزور، ولا أعد فيهم توفيق الحكيم الذي هو بالفعل من أخف الكتاب العرب ظلاً لكنه بعيد عن الالتزام في كتاباته غير الأدبية، بل إن التزامه في الأدب موضع نظر (وتشذ في رأيي كتاباته حول الريف المصري عن هذا الحكم المتشكك، وأعني كتابات من نوع "يوميات نائب في الأرياف" و "عدالة وفن").
قلة جدية أبي عثمان تتجلى بوضوح في كتاباته ذات الطابع الذي قد تسميه إن قرأتها " طابع السوفسطائية"، فهو يجادل حباً بالجدل ذاته في عدد كبير من كتبه ورسائله، فيكتب في مدح الشيء وذمه، وفي الاحتجاج للمتناقضات، فيذكرك بشعراء المباريات الزجلية عندنا الذين يستلم كل منهم في المحاورة موضوعاً ويدافع عنه في وجه خصمه الذي يدافع عن نقيضه، فواحد يدافع عن السجن وآخر عن الحرية، واحد عن البنت وآخر عن الشاب، إلى آخره، ولا يكون الهدف فعلاً الوصول إلى قناعة مفيدة، بل الهدف استعراض المقدرة الكلامية وحسب. أبو عثمان ينقل لنا محاججة صاحب الديك وصاحب الكلب، ومن يدافع عن الجواري وخصمه المدافع عن الغلمان، وقد يفضل البطن على الظهر، والنطق على الصمت، ويحاجج للسود ضد البيض، لا لقناعة ما كما قلت، بل لنزعة إظهار المهارة في المحاججة، وجل هذه "الحجج" التي يستخدمها هي فعلاً تذكر "بحجج" شعراء الزجل الآن، فهي حجج زائفة من النوع البلاغي.
وأضرب للقارئ أمثلة على "حجج" صاحبنا الجليل الجاحظ: يريد أن يحتج للسود على البيض فيذكر أن منهم لقمان الحكيم وسعيد بن جبير وبلال الحبشي ومهجع والمقداد ووحشي قاتل مسيلمة (وقاتل حمزة رضي الله عنه!) وغير هؤلاء، ثم يذكر سخاء الزنج "الناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمة السخاء فيها أعم، وعليها أغلب من الزنج. وهاتان الخلتان لم توجدا قط إلا في كريم"، وبعده مباشرة يذكر من فضائلهم أنهم "أطبع الخلق على الرقص الموقع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديب ولا تعليم"! ثم أنهم أحسن الناس حلوقاً! وأنهم أقل الناس عيوباً في النطق، ثم إنهم شجعاء أشداء الأبدان أسخياء وهذه هي خصال الشرف. وهم مع حسن الخلق وقلة الأذى لا تراهم إلا ضاحكين،..وإلى آخره..ولو قرأت "مفاخرة الجواري والغلمان" لرأيت أعجب من هذه المحاججات.
ولا بد أن يخطر على بال قارئ أبي عثمان المدقق السؤال: هل كان أبو عثمان يتقصد بهذا ضمناً الدعوة إلى نوع من "اللاأدرية" أي فلسفة الشك، عبر إظهاره أن في المستطاع جلب حجج على أي واقعة نريدها؟ ولو قرأت كتابه عن "البخلاء" مثلاً لوجدته في الحقيقة مهتماً بإيراد حجج البخلاء في تبرير بخلهم أكثر من اهتمامه بوصف بخلهم بحد ذاته. وهذا الاشتباه بالمناسبة خطر على بال خصوم المعتزلة واتهموه بشيء من ذلك.
وقد يبدو أن الجوانب الأخرى من اهتمامات الجاحظ لا تؤكد هذه الفكرة فقد كان الرجل منحازاً إلى فرقة دينية معروفة هي المعتزلة، وكان زعيماً من زعمائها، فعلام إذن تذهب كتاباته الأدبية في اتجاه مختلف عن حياته (وعن كتاباته الكلامية التي اندثر معظمها)؟.
إنني لأترك السؤال مفتوحاً، ولا أستبعد صحة الإجابة البسيطة عليه بأن أبا عثمان ببساطة كان مدفوعاً برغبته في إثبات المهارة الكلامية، لا أكثر ولا أقل، ولنا في مساجلات الزجل المعاصر التي أشرت إليها مثلاً واضحاً على أن مثل هذا الدافع وارد!.
وقد يكون انتماء الجاحظ المعتزلي علامة على انتمائه إلى النخبة آنذاك، فقد كان المعتزلة "حزب الدولة" خلال طيلة الفترة التي حكم فيها ثلاثة خلفاء عباسيين هم المأمون والمعتصم والواثق، ولربما رأيت في رسائله محاججات فرق أخرى (كالزيدية) يسوقها بلا تعليق، مما يدل على أن هذه الخلافات لم تكن موضع نزاع حقيقي عند الجاحظ، وما كانت "تشغل باله"، فحين يكتب فيها يكتب من وجهة نظر المراقب الخارجي الذي لا يعدها قضية مهمة من قضاياه يتوقف عليها مصيره، أو مصير مجتمعه أو الشريحة الاجتماعية التي تهمه.
فلو أردت الانتقال الآن من الحديث عن جدية الجاحظ إلى الحديث عن جدية أهل مجتمعنا الآن لبدأت بملاحظة أن الكتابة العربية المعاصرة هي بمعنى معين "جدية جداً"، ذلك أن الكتاب العرب المقروئين فعلاً هم كتاب منحازون إلى وجهة نظر سياسية-اجتماعية-فكرية معينة، والكاتب المحايد لا يثير الاهتمام لأن مجتمعنا يقف أمام أسئلة وجودية حاسمة لا ينفك يبحث عنها.
لا تنقص الكتابة العربية في اعتقادي الجدية إذن، وإن كنت تستطيع أن تجد لها كثيراً من النواقص الأخرى، والذي أراه ينقصه فعلاً الجدية المطلوبة المتناسبة مع خطورة وضع المجتمع العربي والتحديات المصيرية التي تواجهه هو الفرد العربي.
كيف نصف وضع الفرد عندنا الذي هو بصورة عامة لا يسلك في حياته اليومية السلوك الحضاري الذي يقود إلى الرفع من قوة المجتمع ومناعته أمام التحديات؟ ألا نجد الشيء الدارج عندنا أن نصف الجديين في الحياة اليومية بأنهم "مزاودون"، بحيث أن الذي يريد أن يكون جدياً يمتنع عن ذلك خوفاً من السخرية؟
وكنت طرحت على القارئ في مقال سابق السؤال: أيهما يسبق الآخر: النهضة أم السلوك النهضوي؟ واقترحت على الفاعل الاجتماعي، أي على المواطن الواعي أن يكسر هذه الحلقة المفرغة بسلوك واع يتحول إلى نموذج مستبطن يتبعه الأفراد تلقائياً ويصبح عادة. والذي يؤمل أن يقوم بذلك هو طليعة تبدأ بنفسها ولا تبالي بتخذيل من يريد تخذيلها.
إننا لا يمكن أن نتصور مريضاً أخبره الطبيب بأن حياته مهددة إن لم يغير سلوكه الحياتي المتعلق بالصحة (الغذاء..إلى آخره..) ثم أهمل هذا التحذير، فالشعور بالخطر من الدوافع القوية لتغيير السلوك.
ومن أول الكتاب الذين أعرفهم الذين أشاروا إلى أن من أسباب نكبة فلسطين "ضعف الإحساس بالخطر" كان قسطنطين زريق في كتابه "معنى النكبة"، والإحساس بالخطر من شأنه أن يساعد في التحول إلى التعامل بجدية مع القضايا الكبرى، لكن نوع السلوك المطلوب يختلف باختلاف الوعي والبرنامج السلوكي الذي يقرره هذا الوعي.
المواطن العربي يجب أن يستبطن الإحساس بأن مجتمعه في خطر، ورد فعله على هذا الإحساس يجب أن يكون تغييرا في السلوك الحضاري الذي هو الآن يمكن وصفه بالانحطاطي، وهو ذلك السلوك الذي يقود إلى مزيد من التفكك والضعف.