روي عن رابعة العدوية قولها: إلهي! إني ما عبدتك خوف نارك ولا طمعا في جنتك ولكني رأيتك أهلا للعبادة فعبدتك" وقد يبالغون في النقل عنها أو عن غيرها فيروون:"اللهم إن كنت عبدتك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت عبدتك خوف نارك فأحرقني بها"
وهذا الكلام الأخير فيه من سوء الأدب مع الله ما فيه، وفيه من الاعتزاز بالنفس والغرور بها ما فيه...
لكن أيمَّا كان الأمر، فإن هناك من يعبد الله خوفا من العذاب وخوفا من النار، ولولا ذلك ما
صلى ولا صام، وما تصدق ولا قام.
وهناك من يعبد الله طمعا في الجنة وما أعد فيها من ألوان النعم والكرامات.
أو بأسلوب أوضح، هناك من يجعله أسلوب الترهيب أكثر استقامة؛ فإذا ذُكرت له النار وما فيها من صنوف العذاب، خاف وارتدع و إلى الصراط السوي رجع.
وهناك من يؤثر فيه أكثر أسلوب الترغيب، يتشوق للسماع عن الجنة ونعيمها، ومنازل أصحابها.
فالصنف الأول عبادته عبادة العبيد الذين لا يرتدعون إلا بالزواجر و التهديد والترهيب، والثاني عبادته عبادة التجار الذين لا يتحركون إلا بدافع الربح المادي والمنافع الحسية.
وفي هذا المعنى روي عن علي رضي الله عنه أنه قال:
"إن قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة
العبيد، وأن قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار"
ومن أهم العبادات وأكثرها خفاء وخصوصية، أو لعلها أكثرها، الصيام، فهو علاقة خاصة جدا بين المرء وربه، لأن الصوم إمساك وكف عن الفعل، وليس فعلا، فهو عبادة سلبية إن صح التعبير، لذلك يعسر كشفه وإظهاره، ولهذا جاء عن رب العالمين قوله:"كل عمل ابن آدم له – الحسنة بعشر أمثلها- إلا الصوم فهو لي و أنا أجزي به"
فكل أعمال الإنسان المفيدة تجازى بعشر أمثالها، إلا الصيام، فلا أحد يعرف أجره، ولا يمكنه أن يعرف، لأن الصوم علاقة خفية بين الإنسان ومعبوده؛ ولهذا قسم العلماء قديما الصيام إلى أقسام: صوم العامة، وصوم الخاصة، وصوم خاصة الخاصة؛
فالقسم الأول هو الصيام الذي يعرفه الجميع، وتقوم به الأغلبية العامة من المسلمين، وهو كما حفظونا في المدارس: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الثاني: صوم الخاصة: وهو صيام الجوارح والحواس عن النظر والسماع والكلام؛ فلا ينظر بشهوة إلى محرم، ولا يسمع لكلام فاحش، ولا يتكلم إلا بخير.
النوع الثالث: صوم خاصة الخاصة؛ وهو صوم القلب والعقل والنفس"إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك عنه مسؤولا"
بعدم التفكير في أمور الدنيا الفانية"لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا"
والانصراف إلى أعمال الآخرة الباقية"وللآخرة خير لك من الأولى"
وهذه المرتبة الأخيرة هي مرتبة الأحرار الذين عبدوا الله حق عبادته، هؤلاء الذين شاهدوا عظمة الله وجلاله وجماله، وذاقوا حلاوة الإيمان به والتقرب إليه، يتنقلون بين عبادة وعبادة؛ فمرة فكرا، ومرة ذكرا، وثالثة فعلا وأخرى كفا.
هؤلاء هم الذين كانوا يقولون: لو يعلم الناس ما نحن فيه من النعم لقاتلونا عليها
ويقولون:إن في الدنيا لجنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة
إنها جنة القرب من الله، والتلذذ بمناجاته، والتنعم بالوقوف بين يديه، والخلوة به...
فياليتك تحلو والحياة مريـرة وياليتك ترضى والانام غضاب
وياليت الذى بينى وبينك عامر و بينى وبين العالمين خراب
اذا صح منك الود فالكل هيـن وكل الذي فوق التراب تراب