نفهم مما تقدم ما هو الأمر المطلوب أحياءه من أمر أل بيت النبوة وهذا ثابت لنا وإن كنا قد أستغرقنا كثيرا في بحث ماهيته ولكن لزيادة البيان وتنبيه من غفل أو تغافل,ولكن المطلوب هو ترجمة هذا البيان إلى منهج ومفردات يوميه تتجسد بها دعوات الإحياء,فليس ما يوجد في الساحة الإسلامية اليوم من جهود مباركة في الإحياء إلا قليل من كثير بل قليل جدا إلى عظيم جلل,إن أول ما يمكن تثبيته هنا هو مفهوم الإحياء كواجب وليس كشعار وممارسة وليس تنظيرا أجوف خال من معنى,نريد منهجية مبنية على
معرفة بحقائق هذا الإحياء حتى لو كانت على حساب ممارسات ألفناها وأعتقدنا أنها هي الإحياء بعينه ولكن المعصوم يبين لنا طريقا مهيعا واضحا مستقيم علينا أن ندرسه ونتدارس ما فيه من خطوط للوصول للغاية الشريفه,يقول الهروي سمعت الإمام أبا الحسن علي بن موسى الرضا يقول«أحيوا أمرنا،رحم الله من أحيا أمرنا,قلت:يا بن رسول الله وكيف يحيا أمركم؟قال:أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا»[بحار الأنوار، ج2، ص30، الحديث رقم13.],الملفت في النظر من قول الإمام الرضا عليه السلام تقديم التعلم والتعليم على سائر الوسائل والخطوات لأن في العلم علية تظهرها كلمات الإمام ذاتها الا وهي إظهار علوم أل محمد التي هي علوم القرآن وعلم رسول الله التي إريد له أن يموت بل وقد أمات الناس منه الكثير الكثير وتعلقوا بأوهام وزخرف القول ممن لا يهدي إلا أن يهدى محتسبين أنهم يصنعون خيرا,ولكن في غاية ما يقولون إنما يخبطون خبط عشواء أو كحاطب ليل لايدري ما يحطب .
فالتعليم ونشر علوم الله هو أول مفهوم من مفاهيم الإحياء والقاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كل المقدمات وترتب عليها كل النتائج ولا يمكن أن يحدث هذا في حياة الأمة الإسلامية انتعاش معتبر إلا بإصلاحٍ عقدي يرشّـدها لتحمل مسئوليتها لعقيدتـها لتقع في النفوس من جديد موقع الدفع إلى العمل الصالح المعـمّـر في الأرض والمـنـمي للـحياة. وتحمل العقيدة يكون على درجات,أولـها الفهم وذلك بتـصور العقيدة الحقة على حقيقتـها كما ورد بـها الـوحي وكما صاغ اللسان القرآني بحدودها ومؤدياتها وقصدياتها.وثانـيها التصديق بحقيقتـها سواء في نسبتها إلى مصدرها الله والرسول والمعصوم أو قيمتها الذاتية في تأسيس الخير و الصلاح.و ثالـثها صيرورتها موجها للفكر في كل ما يتوجه إليه بالبحث والبيان والبناء السلوكي اللاحق للفهم والتصديق .ورابعـها صيرورتها دافعـة للإرادة كي تنطـلق في العمل والإنجاز الإحيائي كما ورد في النداء والتكليف ولذلك ينبغي للخطاب الديني الدعوي الإحيائي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ان يأخذ بالاعتبار هذا الجانب،حتى يقوم بدوره تجاه أهله بإيصال رسالته إلى كل المسلمين،فمن المؤسف أن الكثير من المسلمين لم يصلهم شيء من مدرسة أهل البيت.أين روايات أهل البيت؟!أين كتب أهل البيت؟!فنهج البلاغة لابد أن يصل لكل مسلم،وكذا الصحيفة السجادية.وينبغي أن تكون سيرة أهل البيت وحياتهم واضحةً لكل مسلم..وفي كل واحدة من هذه الدرجات في تحمل الأمة لعقيدتها اليوم خلل يستوجب الإصلاح لتعود العقيدة عامل نهصة حضارية كما كان عند إنشاء التحضر الإسلامي في دورته الأولى في عهد رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم وفي عهد الأئمة من بعده.
هذا العلم والتعليم يجب أن يراعى فيه خصائص ومميزات تتناغم مع قدرة الناس على الإسيعاب والتحصيل والفهم دون أن يكون منهج التعليم ومفرداته منفرة ولا متنافره مع النفس البشرية وخصائصها التكوينية لأن في الإنسان ميل نحو التحرر من ما هو غريب أو ما لا يتوافق مع مقدماته الفكرية والمعرفية والناس ليسوا سواء في هذا,إحياء أمرهم بتوضيح تعاليمهم والدفع والتشجيع للاقتداء والأخذ بتعاليمهم؛حتى لا يكون الاتباع مجرد اسم وانتماء اجتماعي.بل ليكون المشايع لأهل البيت والموالي لهم ملتزماً بما التزم به أهل البيت عليهم السلام سائراً في طريقهم.وهذا هو الأنتماء الحقيقي.فإنه لا يكفي من يعتقد بإمامة أهل البيت مجرد الاعتقاد القلبي فقط،وإنما لابد أن يتبعه التزام سلوكي.يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب«ألا وإن لكل مأموم إمام يقتدي به ويستضيء بنور علمه», فلابد من أن يكون العلم ضوء يستنار به في واقع الظلام والتظليم والعتمة التي فيها الناس من خلال تغيب نور أل محمد وعلمهم ومعارفهم,وليس من خلال فرض تصورات ورؤى ظلت تراوح مكانها وإن كانت في يوم من الأيام وسيله ناجحة وناجعة في المحافظة على أمرهم.
لقد قدم المعصوم العلم والتعليم وفق منهجية هدفها وغايتها حث الناس على إتباع النور المحمدي من خلال الحسنى وأبتغاء الأصلاح ديدنا لا شعار أجوف تختفي وراءه مطامع ومصالح ووفق الظروف التي تتيح لهذا النور أن يسطع من جديد ونقدم بذلك ونوطيء لمحي الشريعة عجل الله فرجه الشريف{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}الأعراف157.
إن العلم والتعلم مسئولية تنتهي إلى الأصلاح على مستوى الإعتقاد وعلى مستوى الفعل السلوكي فمن لا يصلحه علمه ولا ينتفع به كمن كان(مصداقا)لقول الله تعالى{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}الجمعة5,فالعلم والتعليم طريقا للورع والتقوى والطاعة والتسليم واليقين يقول الإمام الصادق عليه السلام,«ليس من شيعتنا من يكون في مصر وفيه آلاف ويكون في المصر أورع منه»وهذا يعني,كما أن أهل البيت كانوا هم النموذج الأسمى والأعلى كذلك شيعتهم بالنسبة إلى سائر الناس ينبغي أن يكونوا هم الأتقى والأورع الأفضل التزاماً وسلوكاً.بعض الناس يعتقد باعتباره أنه من شيعة أهل البيت سيتساهل معه ربه يوم القيامة،بعض الروايات تدل على عكس ذلك.يقول الإمام الصادق عليه السلام,«يا مفضل,القبيح من كل أحد قبيح،ومنك أقبح لمكانتك منا،والحسن من كل أحد حسن،ومنك أحسن لمكانك منا».الإنسان الموالي والمشايع لأهل البيت عليهم السلام عليه أن يعرف أن انتسابه إلى أهل البيت يحمله مسؤولية مضاعفة سلوكياً تتجاوز مكانته كمسلم أو كمؤمن فقط ولكن فوق ذلك أنه متبع للنور الإلهي ومتبع للنداء بمؤدياته ومن هنا كان التأكيد على السلوك في موضوع الإحياء في مرتبة لاحقة للعلم والتعلم.
فحقيقة مركز الإنسان في الكون والمهمة التي أناطها الله بالإنسان ومهمة الأمة الإسلامية بين الأمم هي قضايا اعتقادية لا نجد لها أثرأً في ممارسات الإحياء العملية إلا نادرا والتركيز على قضايا يمكن تقديمها بوجه أفضل ومتجدد فيه المنفعه الكلية اعلى والنتيجة أكثر تأثيرا وفعلا في الوسط الإسلامي الذي هو مدار الدعوة الإحيائية.وكذلك حقيقة العدالة الإجتماعية والتكافل بين أفراد الأمة وحقيقة الحرية الشخصية والعامة وضوابطها وحقيقة تكريم الإنسان هي قضايا تتصل بمدلول الإحياء ومتصل فيها بالمدار الكلي ولكنها على كثرة النصوص والروايات عن أهل البيت عليهم السلام والتي تدل على هذه المعاني وتبرزها لا نجد لها أثراً في سلوكيات وتعاملات المسلمين إلا نادرا على الصعيد العام وعلى صعيد الأتباع خصوصا.وكذلك قضية تسخير الكون للإنسان واستثمار الكون والإنتفاع بمرافقه وتسخير مقدراته لبناء الحياة في اتجاه تحقيق مفهوم الولاية الرشيدة والإمامة الحقة ابتداءً بالتدبر والتفكر لتحصيل العلم وانتهاءً بالإستثمار التطبيقي النفعي لذلك العلم والرفق بالكون للحفاظ عليه من الفساد والتدمير,هي قضايا اعتقادية ليس لها كذلك في كتب العقيدة اهتمام أو ذكر معتبر يقود للكشف عن علم ونور أل محمد صل الله عليهم وسلم.والقضايا ذات البعد التشريعي تشمل كل أحكام الشريعة من حيث الإيمان بحقيقتها يندرج ضمن مفردات الإحياء ومنهجيته التي يرعاها الإمام المعصوم إذ أن جحود الأحكام الشرعية و التكذيب بها يفضي إلى الإنحلال من الإيمان و انتقاضه .
وهذه القضايا جميعاً وكثير مما يتصل بها ليس غائبة عن دائرة الوعي الإعتقادي بأمرهم عليهم السلام فحسب،بل إنها تتعرض في نفس الوقت لتحديات كبيرة من قِـَبل الثقافة الغربية بمذاهبها الفكرية وامتداداتها في الفنون والآداب والقانون والسياسة,فضلاً عما تتعرض له عقيدة الحاكمية من هجوم مباشر من المذهب الظلامي التكفيري الذي يدور في قاعدته على إماتة أمر الله ورسوله وأل البيت الأطهار عليهم السلام والتستر على حقيقته الحقة ومديات هذا الأمر ولكينونته التكوينيه وتجسيداته في الإعتقاد والسلوك لحساب منهج إضلالي منحرف عن الله ورسوله وكتابه الكريم .
وحينما يضاف هذا التحدي لما حصل من انسحاب كثير من مفردات العقيدة من الوعي العقدي الجمعي في أذهان المسلمين وخاصه ممن لم يسمعوا ويعوا كلام المعصومين ولم يصل إليهم ذلك قسرا أو تقصيرا،فإن الأمر يـُخشى أن يؤول إلى انحراف عقدي أفدح على صعيد التصديق الإيماني بالرسالة وعلى صعيد الأثر العملي معاً وهذا غاية ما يعمل عليه الأعداء والله تعالى يقول{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }التوبة32 ,هذا الوعد الرباني بأستحالة أطفاء امر الله لايتم من خلال الفعل الرباني وحده فحسب ولكن من خلال تغيير الواقع وأستبدال مفاهيم بمفاهيم وتأسيس منهج دعوي بديل يقوم على أمر أحياء ما أميت من أمر الشريعة,والله تعالى يقول{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }الرعد1.
وبعد ترشيد الفهم للعقيدة ولأمرهم ومفرداتها لا بد من ترتيب هذه المفردات ترتيبا يراعي الأهمية في التقديم والتأخير لتحديد حجم الإهتمام بها وأقدار حضورها في الوعي و مدى استخدامها في الإيقاظ والتوجيه والدفع،وذلك ضمن رؤية كلية وفهمٍ للإعتبارات العملية في وافع الأمة وحاجاتها في مواجهة التحديات المعاصرة.فالتحديات القديمة والإعتبارات التاريخية وما مثله ذلك من لي وأستضعاف والغدر والتنبذ والتخلي عن العهود ونقضها وما نتج منها من مأساوية ومظلومية لأهل البيت عليهم السلام لا تصلح معياراً كافيا لتحديد حجم الإهتمام والحضور لقضية الإحياء بمفردها ولا بد من تنوع وتجديد وتحديث لمفردات الإحياء ومراميه،إذ أن أكثرها لم يبق منه اليوم شيء ذو قيمة عملية واقعية بعد أن نجحت المسيرة السابقة من تثبيته وأثباته فلا يجوز بعد هذا المشوار الطويل التمسك بما هو غير قادر على تقديم المثل المناسبه للظرف وهذا لايعني التخلي التام عن تلك القضايا بالقدر الذي يعني أعادة صياغتها وأنتاجها من جديد,فلابد من أن يخالط القناعات العقلية معاني الخوف والرجاء والحب والشوق,ولا يخفى أن العواطف وأشواق الروح لها من التأثير على الإندفاع في العمل ما يوازي أو يفوق التصديق العقلي المجرد ,فلابد من إحياء روحي للإعتقاد بحيث تعرض العقيدة في أبعادها العقلية والروحية والعاطفية في آن واحد فتنتشر في جميع حناياها فتجيش إذن بالعزم الذي يدفع الجوارح إلى السعي العملي،استجابة لقناعة العقل وتلبية لنداء العاطفة وأشواق الروح لتتعامل النفس مع مقتضيات وآداب الإيمان بأمر الله وأرادته على نحو يتصف بالتوازن و الاعتدال الوسطي ليكون زينا في مصلحة الدعوة والإحياء لا عبئا يستنزف الطاقات للدفاع عنه وخسران المزيد من التضحيات في سبيله.
وختاما وليس ختما علينا أن ندرك قيمة النداء أولا ونقدر لمن أطلقه رحمتة وشفقتة على الأمة ونفهم منها مقدار الحد الذي يمكن أن ننطلق فيه لتحقيق هذه الدعوة للوصول لنتائج ندرك جميعا أنها في النتيجة تسجل لنا سعيا مشكورا ورحمة ندخرها ليوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين سيدنا محمد وعلى أله الطيبين الطاهرين وعلى الخيرة من أصحابه الغر الميامين.
العبد الفقير لله
الدكتور عباس علي جاسم
السويداء في ليلة العاشر من رجب الأصب عام 1431 هجريه