بعد انقضاء الحرب الباردة بين قطبي
العالم في التسعينات من هذا القرن شهد العالم تطورات وتحولات اقتصادية وسياسية بارزة من أهمها هيمنة القطب المنتصر في ذاك الصراع على العالم بأكمله ومن ثم قيامه بالترويج وبصورة محمومة لنظامه الدولي الجديد الذي من بين إحدى إفرازاته ، الجات ، والعولمة ، والتحرر الاقتصادي ، وسيادة اقتصاديات السوق ، وقيام الكيانات الاقتصادية الكبرى المرتكزة على المصالح الاقتصادية لا على المصالح الأيدلوجية أو السياسية المشتركة .
وجميع هذه التطورات والتحولات الاقتصادية شكلت ضغوطا هائلة على سائر الكيانات والشركات الصغيرة في العالم بأكمله ومن بينها بالطبع الشركات العائلية ، والشركات العائلية في الأصل هو تعبير اصطلاحي غير قانوني يطلق على أية شركات مملوكة ومنسوبة لإحدى العائلات المشهورة والتي اكتسبت شهرتها من الشركة أو العكس أو هي شركات مملوكة ومنسوبة إلى شخص واحد هو مؤسسها وعميد العائلة في ذات الوقــت .
والمطلع على التاريخ الاقتصادي للعالم لا يستطيع أن ينكر الدور الحيوي الذي لعبته الشركات العائلية في اقتصاديات كثير من الدول وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قامت بالدور الهام والهام جدا في عملية التنمية الاقتصادية لدى الدول الصناعية الكبرى حتى انه لم تستطع الشركات الكبرى أن تهمش دور الشركات العائلية بل بالعكس وجدت أن لها فيها حلولا لكثير من احتياجاتها الصغيرة الحجم والمتكررة الطلب لدرجة أن هناك كثير من الشركات الكبرى باتت تعمل على رعاية الشركات العائلية وتنميتها حتى تواصل العمل والإنتاج لسد كثير من احتياجاتها.
وفي دراسة قام بها اختصاصي الشركات العائلية وجدو ان الثروات التي تسيطر عليها الشركات العائلية تمثل حوالي 95% من اقتصاد الإمارات والنسبة نفسها في إيطاليا ، وأسبانيا و90% في هونج كونج ، وجنوب شرق آسيا ، والهند وباكستان 80% في ألمانيا وفرنسا ، و70% في أمريكا ذات نفسها وبالطبع أن هذه النسبة تعلب دورا هاما في تحريك ونمو الاقتصاد العالمي .
وعلى الرغم من التاريخ الناصع البياض للشركات العائلية بدأت تتعالى أصوات في العصر الحاضر من هنا وهناك تنادي بضرورة تحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة عامة بحجة أن هذه الشركات لا صمود لها أمام الجات ، والتحرر الاقتصادي ، وسيادة اقتصاديات السوق وعلى الرغم من أن هذا النداء كثيرا ما قدم من أنصار العولمة الاقتصادية تحت ستار المحافظة على استمرارية الشركات العائلية والدفاع عن كيانها إلا أن الأمر لا يخلو من هوى خاص بالقوى المهيمنة أو التي ترغب في إحكام الهيمنة على الاقتصاد العالمي ، ويرى الاتجاه الوسطى الذي نناصره الرأي أن الضغوط الناتجة عن التحولات العالمية يجب أن لا تدفع الشركات العائلية في اتجاه التحول وانما في اتجاه المواكبة للمتطلبات والتحديات العالمية .
صحيح ان هناك بعض السلبيات التى باتت اوضح في هذا العصر والمتمثلة غياب التنظيم الكاف والبنية التحتية القانونية للشركات العائلية وقلة موارد التمويل وصعوبة الحصول على القروض المصرفية حيث ان البنوك بطبيعتها تميل الى ائتمان شركات المساهمة العامة ، ودرجة الافصاح والشفافية ، والتداخل بين الملكية والادارة ، الا ان الشركات العائلية تظل هي وليدة المبادرة الفردية التى هي البذرة التى تتمحور حولها النشاطات وتنطلق بفعلها الافعال والابداعات وتتكون باثرها الاعمال الجماعية فالمبادرة الفردية هي الأصل والنواة وستستمر الشركات العائلية تعلب دورها الفاعل ما شاء لها ان تكون مادام هناك افراد من خلفها قادرين على تحقيق النجاح التجاري .
إذا لماذا العولمة ولماذا تحويل الشركات العائلية إلى مساهمة عامة ؟ يقول اختصاصي العولمة وأنصارها والمستفيدين من وراها ان السبب من وراء ذلك هو الانسجام مع النظام العالمي الجديد من حيث تحقيق الدرجة الأعلى للشفافية والوضوح المالي وكذلك رفع مقدرة الشركات العائلية على النمو والتوسع الرأسمالي وبالتالي كسب ثقة البنوك وإيجاد التمويل الازم لمواجهه التحديات الكبيرة ولكن في نظري إن للأمر اجندة أخرى كما ذكرت من قبل وهو خدمة توجهات النظام العالمي الجديدة تحت سيادة الهيمنة الواحدة على سائر اقتصاديات العالم التي بدأت ظاهرة إنها لن تتحقق ما لم يتم تفتيت كافة مراكز القوى الاقتصادية ومن بينها بالطبع الشركات العائلية وتفتيت الثروات العائلية او بمنعي آخر تضخيمها وجعلها تتماهي في العامة بشكل يسهل السيطرة عليها بحجة الشفافية والوضوح وتحقيق الدرجة الأعلى للنمو .
لا ننكر وعلى الصعيد الاقل توترا ان قبول اقتصاديات العولمة قد اضاف للعالم جوانب ايجابية كثيرة غير انه ليس هناك مبرر للمنادة بتحويل الشركات العائلية الى مساهمة خاصة واجبارها على ادراج اسهما بالسوق المالى مع الزام المساهمين بالتخلى عن 25% من راس المال ليتم طرحة للاكتتاب العام كما فعل سوق البحرين للاوراق المالية فقد لاترغب الشركات العائلية في اعضاء اجانب بها لاى سبب من الاسباب كالدواعي الاجتماعية او التاريخية وهذا من حقها وقد اعتمد لها الشرع هذا الحق في مبدأ خصوصية الملك ولكنه في الوقت نفسه شجع لها المشاركات ان كانت على اساس عادل .
وفي مبدا المشاركات قد نجد بعضا من الحلول في إبقاء الشركات العائلية على حالها متمتعة بخصوصيتها وفي الوقت نفسه نؤهلها لتلافي السلبيات ونمكنها من أداء دورها التاريخي في ظل القبول العالمي لسياسات العولمة .
وإذا رجعنا للأصل التاريخي لنشوء الشركات العامة في العالم وجدنا انه وفي القرن السابع عشر والسادس عشر وعندما غزت اروبا بلاد الشرق ظهرت حاجتها لاستغلال تلك الموارد التي تتمتع بها بلاد الشرق فأنشأت شركات المساهمة العامة الكبرى ذات الطابع الحكومي وكان لهذه الشركات السلطات الواسعة من بينها تكوين الجيوش وسن التشريعات ومن أمثلة هذه الشركات شركة الهند الشرقية التي صرحتها ملكة بريطاني في 1/1/1599 والشركة الفرنسية للهند الشرقية 1464 وشركة خليج هدسون والملاحظ أن الحكومة هي التي كانت تضع نظام هذه الشركات ولما تقدمت البشرية وظهرت الكوشوفات الإنسانية احتاج للصناعة ولأنها مشروعات ضخمة احتاج الناس للتوسع في نظام شركات المساهمة العامة إذا من هنا جاءتنا الشركات العامة من الحكومة ومن المشروعات الصناعية الضخمة التي تحتاج لرأس مال ضخم للابتداء بها لا للاستمرار فيها، والشركات العائلية على الرغم من الثروات التي تسيطر عليها قد أثبتت مقدرتها على البدء سواء في النشاط التجاري أو حتى الصناعي دون حاجتها لطرح اسهم للاكتتاب لجمع راس المال وقد ائتمنها البنوك ربما لصدقها وسلامتها وسلامة من يمتلكونها دون حاجة لان تكون مساهمة عامة فلماذا لا نعينها على الاستمرار وبزر سبل التقوية في كيانها وتكذيب حدس من قال إن عمرها الافتراضي أربع وعشون سنة .
والاقتراح هوان يتم انشأ مكتب لدى السلطة المختصة للشركات العائلية يتابع أمور نشاطها وترخيصها والمساعدة على تسوية أمورها إن احتاج الأمر لذلك ومع ذلك لا مانع من تشجيع الشركات العائلية لتتحول إلى شركات مساهمة خاصة وفقا للمبادئ القانونية المتعارف عليها في دولة الإمارات العربية المتحدة وبعض الدول الأخرى ومن ثم إنشاء سوق مالي خاص بالشركات العائلية ليس لادارج اسهم هذه الشركات فيه حيث انه من المعروف عدم السماح لمثل هذا النوع من الشركات بإدراج الأسهم أو طرحها للاكتتاب العام ولكن لاجل تشجيع هذه الشركات لإصدار أدوات تمويلية جديده قائمة على مبدأ المشاركة كالصكوك والسندات وقد ذكرنا في مقال سابق أهمية هذه الأدوات التمويلية في تقوية وتنمية اقتصاديات الدول ، ومن جانب آخر ستكون هي أدوات مالية قابلة للتداول والطرح العام وبالتالي سيفرض آليا على الشركات الالتزام بالقواعد الصارمة حيال الترتيبات الداخلية ودرجة الإفصاح المالي والشفافية .
في قناعتي انه يجب أن لا نغير جدلنا كلما صاح بنا صائح ولكن علينا أن نطور حقيقتنا وان نجعل العالم يقبلنا ونقبله ، يتعاون معنا ونتعاون معه فالعولمة ليست كلها شر .
الكاتب / أسامة رقيعة