اللغة والحدث والأمل في مسرحية "الرأس والنهر"
للشاعر "أدونيس "
الدكتور: فريد العمري
لأن الحديث عن الحرب يعكس نوعا من التأثر بالواقع العربي سواء أكان الحديث من شاعر أم مفكر أم اجتماعي إلى آخر من يمكنهم الحديث عن هموم الأمة - آمالها، وآلامها- فإنه ما من شك في أن أدونيس تأثر بهذا الواقع، وعكسه في شعره بصورة تتجلى أكثر في هذه المسرحية التي تختلف إلى حد كبير عن المسرحيات المعروفة، والتي يمكن تمثيلها بنوع من التجرد الفكري أو المعنوي، ولكن هذه المسرحية الأدونيسية معبأة بالأفكار والقيم الموروثة في حدود الأمة التي يمثلها الشاعر أو في خارج حدودها.
ولعل الحروب العربية في هذا العصر عموما ، وحرب حزيران 1967 تحديدا هي المقصودة بالدرجة الأولى، ذلك أن العرب قد طالت رقدتهم بعد الازدهار الذي عاشته حضارتهم، فكان لابد لهذا الرقود من نهاية، لتجديد انبعاث روحها النائمة، فما كان من القادة العرب آنذاك- سامحهم الله- إلا أن غيبوا الشعب عن حقيقة مجريات أحداث المعركة الدائرة، فأوهموا أفراد الشعب -شيوخا وشبابا- بنيل كل عزيز على قلوبهم، فجهز أحدهم حقيبة ليملأها بما خف حمله، وغلا ثمنه:
لو أن الحرب حقيبة لملأناها
خرزا وجلسنا فيها
وصبرنا
بينما حلم الآخر بفراش وثير، ووسادة يرفع عليها قوائم عرش من المرمر في بستان على ضوء قمر حبيبة العمر القادمة من المجهول على حد تعبير الشاعر:
الحرب وسادة
وأنا الوسن …
لي شهوتي أن أشعل النهدين في أيامي الغريبة
أن أعرف الحياة لا السلطان
أسهر في بستان
يسهر فيه قمر الحبيبة
إلى غير ذلك من أحلام الحالة الوجدانية التي عمت، وطغت استعدادا لهذه النهضة الحربية المؤملة، وهذه هي الحرب في نظر الأفراد العاديين الذين تلقنوا المعنى من ألسنة مسؤليهم ، فإذا جاء صوت الحكيم يخبرهم بحقيقة الحرب، سواء بسبب الخوف والهلع الذي ينتابه، يرشح هذا المعنى تحول همزة الوصل في بداية الجملة عند الحديث عن الحرب، وغيرها من المواضع التي لا يجوز فيها قطع الوصل:
ألحرب زريبه
غنم …
بحيث يبدو المتكلم وكأنه يكاد يتقيأ روحه عند ذكر الحرب، وتلك النقاط التي تدل على حذف ما يتعلق بالغنم عندما تساق إلى السلخ، أو إلى الزريبة، وكأنه يريد أن يقول: غنم نحن نساق إليها -الحرب-. أو بسبب الغايات المطلوبة من الحرب التي تفوق القدرة؛ نظرا لعدم الاستعداد لخوضها، وأنها ليست إلا وسادة للموت، وأيامها جراد يأكل خير الأمة -أخضرها ويابسها-، وأن هؤلاء القادمين بقوافل سوداء مجهولة لن يكونوا أقل من الجراد في نهب الخيرات، وقتل الحياة فيها، وهذا- في الحقيقة- ما كان وما يكون إلى الآن:
هذا الوطن
زرع
والأيام جرادة
ويستمد صوت الحكيم حكمته من الماضي البعيد المتصل بخيوط دقيقة في ثقافة الأمة وتراثها ليؤكد حقيقة معاناة الأمة ، وأنك عند هذا الحد لا تستطيع أن تقرر فيما إذا كان الشاعر يوضح الحقيقة أو المعاناة بالأسطورة، أو يرسخ الأسطورة بالمعاناة المعاشة ليعطيها أبعادا أخرى، وعندما يتأكد هذا الربط فإن الرمز المستمد من الموروث القديم بما فيه من صدق وشمولية يتجذر ويصبح أكثر تجسيدا وتعبيرا وانعكاسا في نفسية المتلقي.
إن الحضارة عندما تصل إلى درجة عالية من الرقي والشموخ لا تستطيع بعدهما التقدم أكثر، تبدأ بالانحدار التدريجي، والتدهور إلى أن تصل إلى حالة الاندثار، لتبدأ في أثناء ذلك وبعده عوامل جديدة تأخذ في حياكة حضارة جديدة تحل محلها، ربما تقوم على أشلاء الحضارة المندثرة، أو ربما تبدأ بأسس جديدة غيرها، وهذا ما ينطبق على كل الأشياء والمواد والأحداث:
قوافل سوداء مجهولة
تكمن تحت الماء
فالماء وهو رمز الحياة والازدهار يخفي تحته أسباب التردي الكثيرة غير المدركة من صاحب العلاقة، وكذا العكس تماما إذ ترى الشاعر يصرخ في أثناء ذلك:
هل أنت يا سلالة الآباء
هل أنت يا سلالة الأمواج
فإذا كانت حضارة العرب وأمجاد العرب قد طمست، ومثلهما تقدم العرب قد انحسر فإنه ما من شك في أن عودة منتظرة لها ستأتي إن عاجلا أو آجلا، و أن الانبعاث المتجدد بعد الموت المتعدد سيشملها مثلما يشمل كل الأشياء غيرها، ليصبح الانبعاث إذا وجب وتحتم مفهوما من كل شيء، فيقول على لسان الرأس الخالد المرتبط بالنهر أبدا ليبعثه مرة بعد مرة دونما انقطاع:
سار أمامي جسدي،
أزمنة، مدائنا/ تواكب النهر/ مسرحها بضفتين -الحب والبشر
اليوم أكملت اكتملت: صوتي/ يفهمه الزلزال والأطفال والربيع
يفهمه الجميع-/ صوتي لا يرد مثل موتي/ سكنت كل عشبة
آلفت بين الصخر والنبات
فمثلما أن الصوت -وهو بالتأكيد صوت الانبعاث- مثل الموت لا يرد، فإن الانبعاث أيضا ساكن في كل عشبة، إذا أتاها الموت من جانب كان النبت من الجانب الآخر، فقد اقتحم "أورفيوس"عوالم الموت جميعها واستطاع أن يقنع بحجته- التي تتمثل برغبته في أن يعيش مع من أحب- آلهة الموت ويستعيد زوجته "يوريدايس"التي ماتت بلدغة أفعى عندما هربت من محاولة اغتصابها، وعلى الرغم من فقده لها مجددا في آخر لحظة بسبب التوق الزائد، غير أنه بقي يناضل في سبيل استعادتها، حتى قتل على أيدي النساء المتشبثات بالحياة، الراغبات فيه، و قطعن جسده ونثرنه في السهول والجبال وأرسلن رأسه في نهر "الهبرس" وقد عد هذا الفعل عامل إخصاب للطبيعة إذ هو قد آلف بين الصخر - رمز الجمود والموات - والنبات، رمز البعث والحياة.
فالانبعاث ساكن في كل الأشياء المتصلة بالحيوات التي تصبح فيما بعد وطنه اللامحدود إلا من الشمس والإنسان، الانبعاث كامن في ظلمة الليل تحت كل حجر وصخرة على شكل غدير وسحابة، وعلى هذا كان ذكر الماء والهواء والليل في نهاية القصيدة نوعا من تأكيد المعنى المضمن الذي بنى الشاعر عليه مضمون قصيدته بل فكره، وهي فكرة الموت والانبعاث المتجدد من الموت المتعدد الذي يبقى يلاحقه، ففي الهواء والماء -كما تناقلت الأساطير- انبعاث لحياة كل المخلوقات، و قد ذكرهما الشاعر في النهاية ليعطي زخما نفسيا جديدا واستصفاء معنويا مناسبا للانبعاث يطغى -فضلا عن غيره من الأفكار- بشكل سافر على جو القصيدة ومضامينها.
وبعد: فهل من عودة عربية حقيقية إلى الحياة بعد أن وصل العرب إلى قمة الذل والتردي؟ وهل من مسعف يمكن له أن يداوي الجراح النازفة من أشلاء الجسد المتهتك من جميع أنحائة؟ فلن يعدم العرب منقذيهم عبر تاريخهم المديد، وزرقاء اليمامة تملك على كل الشرفاء قلوبهم وبصائرهم. "وإن غدا لناظره لقريب".
Posted from my iPhone using Joomla Admin Mobile!