أصداء الكتابة وأدواتها في الشعر
الأندلسي
إعداد: د حياة
شتواني
( أستاذة باحثة من المغرب)
الكتابة مظهر من مظاهر الحضارة، وشرط من شروطها.
فهي من أعظم وسائل تدوين المعارف والعلوم، ونقلها من مجتمع لآخر، كما تعد أهم
وسيلة للتواصل والتفاهم بين المجتمعات الإنسانية.
ولم يكن
للشعراء محيص عن أن يسجلوا هذه الظاهرة الحضارية بين ثنايا أشعارهم، خصوصا وأنها
كانت جزءا من ثقافتهم وحياتهم. فهذا الوزير أبو محمد بن عبدون يلوم الإخوة أبا بكر
البطليوسي وأبا محمد طلحة وأبا الحسن محمد، على عدم الكتابة إليه، رغم أنهم من
الكتاب:
ولم تكتبوا حرفا إلي وأنـتـــم ثلاثة كتاب وما أنا كاتــــب([1])
وقد
استجدى الوزير الكاتب أبو جعفر اللمائيلفظ الكتابة في الشكوى من حدثان الدهر:
وهمت سحائبه عـلي فـغــادرت أرضي قرارة كل خطب معجب
فأظـل أبصر فيـه ما لم أحتســب جورا وأقرأ فيه ما لم أكتــب([2])
أما وسائل الكتابة التي عرفها الأندلسيون وكان
لها أهمية بالغة في حياتهم العلمية والثقافية والحضارية، فيشي الشعر الأندلسي
بوجود أنواع عديدة منها بالأندلس. ومن هذه الأدوات ما يكتب فيها كالمهرق والرق
والقرطاس والورق، ومنها ما يكتب بهــا كالقلم والمداد. هـذا بالإضافة إلى الدواة
أو المحبرة. وهي كلها أدوات عرفها العرب في الجاهلية، وذكروها في أشعارهم ما عدا
الورق، فلم يستعمله العرب سوى في عهد العباسيين.
وقد أتى ابن الزقاق على ذكر المهرق([3]) في
قوله يصف خط رسالة توصل بها من صديق:
ترد العيون عيونها في مهــرق رقمت بها ورد القطا* الأســراب
فكأنما ألفن من حدق المهــــا* أو من ثنـيات لهن عــــذاب([4])
فقد شبه الشاعر انتظام الخط في المهرق بسير
أسراب القطا على الماء، وبانتظام الأضراس عند المها.
أما
الرق([5])، فهو
من أقدم ما كتب فيه العرب من أول الإسلام.
وفي الشعر الأندلسي ما يفيد باستخدام الأندلسيين له رغم معرفتهم بالقرطاس والورق.
كقول أبي بكر يحيى بن بقي مجيبا أحد إخوانه وقد بعث إليه بثلاثة أقلام من القصب
مرفقه بأبيات شعرية:
أرسلت نحوي ثلاثا من قنا صلب ميادة تطعن القرطاس فـي درقـه
فالخط ينكرها والخط يعرفهـــا والـرق يخدمها بالرق في عنقـه([6])
ومعنى هذا أن الأقلام شكلت مادة للتهادي لجلالها
ومنزلتها في النفوس.
إلى
جانب المهرق والرق، استخدم الأندلسيون القرطاس([7])،
فابن حزم حين أحرقت كتبه قال مشيرا إلى القرطاس:
فإن
تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه
القرطاس بل هو في صدري([8])
فإحراق كتبه لا يعني ضياعها، لأنه حافظ لما
تتضمنه من معارف.
ومعنى
هذا أن ابن حزم لم يكن يتميز بتبحره في مختلف ألوان العلوم والمعارف فحسب، بل كان
يتميز أيضا بقوة الحفظ.
والرصافي البلنسي حين رثى أبا محمد عبد الله بن أبي العباس الجذامي
المالقي، تصور دموعه وقد انصبت على خده بالمداد في القرطاس:
أما الدموع فهن أضعـف ناصـــر لكـنهـن كثـيرة التعـــــداد
تسقيـك مـا سفحت عليك يراعـة في خــد قرطـاس دموع مـداد([9])
أما أهم إبداع إنساني ظهر في مجال الكتابة فهو
الورق. وغني عن البيان أن الفضل في هذا الاختراع يعود إلى الصينيين. فهم أول من
أخرجوا هذه الصناعة إلى الوجود. وعنهم أخذها العرب([10]).
وقد كانت صناعة الورق مزدهرة بالأندلس. ومن أهم المدن الأندلسية التي عرفت بها
مدينة شاطبة. حيث كان يعمل بها من الكاغد ما لا يوجد له نظير في العالم. ويعم
المشارق والمغارب([11]).
وقد أتى ابن حزم على ذكر الكاغد في قوله:
دعـوني
مـن إحـراق رمد وكاغد وقولوا بعلم كي
يرى الناس من يدري([12])
والأديب أبو العباس أحمد بن قاسم المحدث لما
بلغه تأليف ابن بسام لكتابه الذخيرة، خاطبه برقعة استفتحها بأبيات أتى فيها على
ذكر الورق:
يا
من تكلف جمع المجد فــي ورق أنـا أناديـك جهـرا غيـر تعريض
ذهبت
عصرك يا من شعره ذهــب بالمذهبـات فـأتبعنـا بتفضيــض
فشبه
تـبرك متلوا بغـضـتـنــا جمـان خـود عـلى لباتهـا البيض([13])
يشيد الشاعر في هذه الأبيات بما بذله ابن بسام
من جهود في سبيل تأليف كتابه.
وإذا
نظرنا إلى المعجم الشعري الذي شكل صورة هذا النموذج، ألفيناه يتكون من ألفاظ
ومفردات ذات صلة بالمعادن والأحجار النفيسة (ذهبت- ذهب- مذهبات- تفضيض- تبرك-
جمان). وقد وظف الشاعر هذا المعجم ليبرز للمتلقي مدى نفاسة كتاب الذخيرة وجلاله.
وهكذا، فإن انتشار صناعة الورق بالأندلس لم يمنع
أهلها من استخدام وسائل الكتابة الأخرى من مهرق ورق وقرطاس. وإن كنا نميل إلى
الاعتقاد بأن هذا الاستخدام ظل في نطاق ضيق ومحدود.
أما
القلم فقد أخذ مكانة بارزة عند شعراء الأندلس. فقد شحذ قرائحهم، وأثار شاعريتهم،
فأفاضوا في وصفه، وأكثروا من ذكره. ولا غرو، فهو أداة الأندلسيين في حفظ معارفهم
وعلومهم، وتدوين أشعارهم ومكاتباتهم، وتسجيل ما يتعلمونه على أيدي أساتذتهم
ومعلميهم. فهذا ابن حمدون بن عمر القيسي (توفي بعد 430هـ) قال في وصفه:
قــلـم حــد شـــبــــاه لــكـتـاب الـعـلم خــاص
طــائــع لله جـــل اللـــ ه للـشـيـطـان عـــــاص
كــلـــما خــط سطـــورا بمـعـانـي العلـم غـــاص([14])
وإذا كان ابن حمدون قد أسبغ على القلم
صفات دينية وعلمية، فإن ابن شرف القيرواني يضفي عليه مسحة حربية:
قلم قلـم أظفاره العـــــدا فهو كالأصبع مقصوص الظفـر([15])
فقد استغل الشاعر اسم "القلم" ليعقد
جناسا يصفه به (قلم- قلم)، فهو يحارب الأعداء ويقلم أظفارهم كما يقلم ظفر الأصبع.
ويرسم أبو الوليد الباجي للقلم هذه الصور:
وأسمر ينطـق فـي مشيـــه ويسـكـت مهـمـا أمر الـقــدم
عـلى ساحـة ليلها مشـــرق منيـر وأبيـضهـا مدلهـــــم
وشبهتهـا ببيـاض المشـيــب يـخـالـط نـور سـواد اللمــم([16])
فقد صوره وهو يؤدي وظيفته المتمثلة في الكتابة
برجل أسمر يمشي وهو يتكلم. وشبه سواده بسواد اللمم، وبياض المكتوب عليه ببياض الشيب. وبذلك يكون الشاعر قد ركب أثباج التشخيص
في وصفه للقلم، وذلك حتى يكسب صوره جاذبية وحيوية.
أما
الأديب أبو تمام غالب الملقب بالحجام، فله في وصف القلم:
يزداد حسنا في الكتـاب إذا بــدا نقص بـه فيريـك كل بيـــان
إن السراج إذا قطـعت ذبـالــه صـح الكمال له من النقـصـان([17])
ويبدو أن أبا تمام كان كلفا بالقلم شديد التعلق
به، إذ حفظ له ابن بسام أكثر من قطعة في وصفه([18]).
ومن الواضح أنه كان متأثرا في ذلك بكونه أديبا.
ولم يكتف الشعراء بوصف القلم، بل توسلوا به في
تجسيد أفكارهم وإجلاء معانيهم. ومن النماذج الشعرية في ذلك قول ابن حزم:
إن كـانــت الأبـدان بـائـنـة فـنـفـوس أهـل الظـرف تأتلف
يـا رب مفـترقـين قـد جمعـت قلبـيهـمـا الأقلام والصحـــف([19])
فقد استعان الشاعر هنا بالأقلام والصحف للتعبير
عن ائتلاف نفوس الظرفاء.
ومن الشعراء من اتخذوا القلم مادة لألغازهم كابن
خفاجة:
وإلـيكـهـا أحـجيـــــة رمز القـريـض بـها فجمجم
ما سـافـح العـبـرات لــم يحزن و نضــو لـم يتـمـم
يفـري ولا يــدري ويـعـلم بالأمـــور ولـيـس يعلـم
تلـقـى سـنـان ربـيـعــة من صـدره ولـسان أكـتــم
إن طــار بــارقـه دجـــا وجـه الصـباح بـه وغـيـم
يمـشـي ولا قـــدم تـقــل ومــا مـشـى إلا تـكـلـم
وتــراه ســادس خمـســة يفصـحــن قـولا
وهـو أبكم
فـي حـيــث لا أذن تـعــي قـولا ولا هـو فـاغـر فــم([20])
لقد جسد الشاعر القلم في شكل شخص اجتمعت فيه
صفات البكاء والعلم والفصاحة والمشي والكلام. كما جعله حينا آخر أبكم أصم. وقد
توسل في تشكيل صوره الشعرية بالمعطى التراثي من خلال توظيف أسماء تراثية من مثل:
ربيعة وأكتم وذلك حتى يثري ويغني مضمون القول الشعري.
أما الفقيه القاضي أبو الفضل جعفر بن محمد بن
يوسف الأعلم (ت 547هـ)، فأرفدته قريحته الشعرية بهذه الأبيات في وصف قلم يراعة:
ومهفهف ذلق صليب المكــســر سبب لنيـل المطلب المتعـــذر
متألق تنبيـك صفـرة لونــــه بقديـم صفرته لآل الأصفـــر
ما ضـره إن كـان كعـب يراعـة وبحكمه اطردت كعوب السمهري([21])
لقد رزق الشاعر التوفيق الشامل في تصوير شكل
موصوفه ولونه وصلابته. لذلك قال الفتح بن خاقان إن الشاعر برع أعظم براعة في وصفه
هذا ([22]).
إلى جانب القلم، أسهب الشعراء في ذكر المداد،
وقد سمي كذلك لأنه يمد القلم أي يعينه. وكل شيء مددت به شيئا فهو مداد([23]).
وقد توسل أبو جعفر الملاحي (ت 581هـ) بهذا المعنى اللغوي ليعبر به عن طول عمره:
يمـد الدهر مـن أجلي وعـمــري كـمـا أني أمـد من المــداد([24])
أما ابن خفاجة فقد استوحى المداد في وصفه لليل:
وليل كما مد الغراب جناحـــه وسال على وجه السجل مــداد
به من وميض البرق والليل فحمة شــرار ترامى والغمام زنــاد([25])
فقد شبه الليل وقد أسدل ستاره بغراب مد جناحيه،
وبمداد سال على صفحة سجل.
وحين أبصر أبو القاسم محمد بن علي (ت 596هـ)على
شفتي غلام مدادا شبهه هو أيضا بالليل، كما شبهه بالقار:
يا عجبا للـمـداد أضحـــى عـلى فـم ضمن الــــزلالا
كالقار أضحى على الحميــــا والليل قــد لابـس الهـــلالا([26])
وهناك أسماء أخرى للمداد كالنقس والحبر. وكلا
اللفظين تداولهما شعراء الأندلس، على نحو الرصافي البلنسي الذي قال في وصف قلم
مشيرا إلى النقس:
إذا عب النقس فـي دامـــس ودب من
الطرس فوق الصبــاح
تجلت له مشكلات الأمـــــور ولان له الصعب بعد الجمـــاح([27])
فبالقلم تلين الصعاب، وتحل الأمور المستعصية.
وتوسل
ابن زيدون بالحبر في مدح أبي الحزم بن جهور من قصيدة أنشأها حين كان بالسجن:
من كل مختالة بالحبـر رافلـــة فيه اختيال الكعاب الرؤد بالحبـر([28])
فالشاعر يسطر في مدح الأمير كل قصيدة تختال في مدادها وحسنها، كما
تختال الناهد الحسناء في غلائلها الموشاة.
ويشبه ابن خفاجة الظلام بالحبر يلحسه لسان
البرق:
في ليلة ليلاء يلحـس حبرهـــا وهنا لســان البـارق المتوقــد([29])
وغني عن البيان أن المداد يوضع في الدواة أو
المحبرة، وهي آنية من خزف كان أو من قوارير([30]).
والدواة هي أم آلات الكتابة. قال ابن سابور :" مثل الكاتب بغير دواة كمثل من
يسير إلى الهيجاء بغير سلاح"([31]).
لذلك تردد ذكرها في الشعر الأندلسي، فهذا ابن عبادة أشار إليها في قوله:
أقلامه تنثني السيـــوف لهــا إذا عليهـا دم الدوي جـــرى([32])
فأقلام الممدوح كلما غمست في مداد الدواة تنثني
لها السيوف رغم صلابتها.
وهذا
المعنى ينسجم وقول بعض حكماء اليونان :" أمور الدنيا تحت شيئين: السيف
والقلم. والسيف تحت القلم"([33]).
ويجعل
الوزير أبو القاسم بن عبد الغفور الخمرة مداده، والكؤوس محابره:
مدامي مدادي والكؤوس محابـري ونـدماي أقلامي ومنقلتي سفري([34])
أما الأديب علي بن أحمد بن لبال الشريشي فتثير
محبرة آبنوس شاعريته فيمنحها هذا التصوير:
وخديمـة للعلم في أحشـائهـــا كلف بجـمع حلاله وحرامــه
لبست رداء الليـل ثـم توشحـت بنجومـه وتتوجت بهلالـــه([35])
لقد توسل الشاعر في وصفه للمحبرة بالاستعارة
والطباق اللذين أضفيا على النص الشعري بعدا دلاليا وجماليا. كما استجدى إحدى صيغ
المبالغة (خديمة) للتعبير عن كثرة خدمة المحبرة للعلم والعلماء. ونحس في الشطر
الثاني من البيت الأول بنغمة فقهية ناتجة عن كونه فقيها.
وله في
محبرة عناب محلاة بفضة:
منعـلـة بالـهـلال مـلـجمـة بالنسر مجدولة مـن الشفــق
كأنمــا حبرهـا تمـيع فـــي فرضتها سائلا مـن الغســق
فأنـت مهـمـا ترد تشبههـــا فــي كل حال فانظر إلى الأفق([36])
ونلاحظ أن ابن لبال استمد في كلا النموذجين من
معجم البيئة الطبيعية ما ساعده على تشكيل عمله الإبداعي.
ويبدو أن تعلقه بوصف المحابر مرده إلى أنه كان
أديبا وفقيها وقاضيا. أما وصفه لمحابر الآبنوس والفضة، فيدل على أنه كان يعيش حياة
مترفة.
وخلاصة
القول، إن ورود لفظ الكتابة ومشتقاتها في أشعار الأندلسيين وتصويرهم لأدواتها دليل
على أنها كانت منتشرة بينهم، وأن أدواتها احتلت مساحـة واسعة في دائرة اهتماماتهم
وانشغالاتهم اليومية. ولاغـرو، فلم يكن لشاعر أو كاتب أو فقيه أو قاض أو طالب علم
عنها مندوحة، في بلد عرف أهله بالعلم والمعرفة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نلاحظ انطلاقا مما
تقدم من نماذج شعرية أن القلم حظي بالنصيب الأوفر من اهتمام الشعراء مقارنة مع
باقي وسائل الكتابة. ولعل مرد ذلك إلى كونه- على حد تعبير القلقشندي- من أشرف آلات
الكتابة، وأعلاها رتبة، إذ هو المباشر للكتابة دون غيره. وغيره من آلات الكتابة
كالأعوان([37]).
* القطا: طائر معروف، سمي بذلك لثقل مشيه، واحدته قطاة، والجمع قطوات وقطيات.
ومشيها" الإقطيطاء. (لسان العرب، مادة: قطا).
* المها: ج مهاة، وهي بقرة الوحش. (لسان العرب،
مادة: مها).
Posted from my iPhone using Joomla Admin Mobile!