تعتبر قضية علاقة الفن بالسياسة إحدى الإشكاليات الكبرى التي أثيرت ولا تزال تثار في مجال البحت الفني و هي إشكالية تتمحور أساسا حول اوجه التقاطع أو التوازي القائمة بين الممارستين.
وهي علاقة تثار غالبا على مستويين .
-
مستوى عام أي علاقة الفن بالسياسة كممارستين أساسيتين
- مستوى خاص يهم علاقة المبدع /الفرد بالسياسة
1- هكذا فعلى المستوى الأول فقد تباينت الآراء حول هذه العلاقة منذ القدم بين من يدعو إلى استقلالية و حياد الفن / الإبداع عن السياسة و الواقع عموما او بين من يرى إمكانية بل ضرورة تسخير الفن لخدمة أهداف السياسة و صولا إلى تصور و سطي يقر فعلا باستحالة تصور فن بدون "حضور" السياسة غير انه حضور يجب أن يكون بشكل ضمني و غير مباشر يضمن للفن تميزه و استقلاليته .
1-أ وبدون جرد تاريخي كرونولوجي أو تفصيل لمجمل النظريات الفنية و النقدية و كذا السياقات الحضارية و التاريخية التي واكبت ظهورها نشير إلى أن دعوات عزل الفن عن السياسة ظهرت حقا في إطار شروط تاريخية و سياسة محددة ( ظهور توجهات تشيئ و تسليع الفن "كغيره من جوانب الحياة " و تسخيره لأهداف خارجية مما أدى إلى بروز دعوات "الفن للفن" كرد فعل دفاعي لصيانة قدسية وتميز الممارسة الإبداعية (نظريات : الفن للفن، التجريدية –السريالية- العبثية ... " و صولا إلى التوجهات الشكلية و البنيوية ..) ورغم كافة فتوحاتها على المستوى الشكلي و الفني فان " كعب أخيل " هذه التوجهات ظل بارزا حقا و ظل إحدى نقط ضعفها القاتل ! أقصد بذلك عزلها للفن عن نبض الحياة و حرارة الشعور و الإحساس الإنسانيين، و هو الحبل السري الذي يمد أي إبداع بدماء الحياة ! و غير خاف أن كثيرا من رواد ومنظري هذه التوجهات قد انتهوا إلى الإقرار باستحالة عزل الإبداع في أبراجه العاجية بعيدا عن شرطه الحضاري و التاريخي مما حدا بهم إلى العمل على إعادة النظر في كثير من مبادئ و مسلمات بناءاتهم النظرية ( كتاب نقد النقد لتودوروف إحدى كبار منظري البنيوية).
1-ب أما التصور الثاني فقد أمن منذ الأول انه " في البدء كانت السياسة" و أن الإبداع الحق شانه شان كثير من الممارسات الإنسانية يجب أن يكون خادما و تابعا للسياسة !و أن الإبداع الذي لايوظف لخدمة أهداف واقعية و مادية لا طائل من ورائه، و لعله تصور يرجع إلى زمن أفلاطون (رغم تناقض نظريته المثالية مع التوجهات المادية التي تبنت هذا الطرح ) الذي طرد الشعراء- رمز و نموذج الفن – من جمهوريته بدعوى اتهم غير نافعين " و يكذبون ! و هو توجه نما واكتسب تماسكه النظري بين ظهراني النظريات المادية والواقعية و التي استندت بدورها إلى نظريات فلسفية مادية وهو ما يتجلى كما يعرف الجميع بوضوح مع الفلسفة الماركسية كما وجد تطبيقه الارتودوكسي مع الفترة الستالينية و منظرها الفني الشهير" بوجدانوف " حيث كان المطلوب من الفنانين و الأدباء مراقبة و متابعة انجازات الثورة "وتسجيلها بأمانة " ! في إبداعاتهم ضمن الهدف الاسمي : خدمة الثورة و مصلح البروليتاريا!. و مرة أخرى فقد بين هذا التوجه أن اقصر سبيل لوأد الإبداع هو تسخيره –قسرا –لخدمة أهداف سياسية و هكذا فان التاريخ يشهد حقا أن هذه الفترة كانت من أحلك الفترات التي مر منها الفن الواقعي , فإضافة إلى التشوهات و التجبيرات التي ألحقت بالنظرية الواقعية في الفن و الآداب فقد شهدت الفترة كذلك مآسي على المستوى الفردي للمبدعين الحقيقين الممزقين بين نداء و أفاق الإبداع الحق و بين اكراهات الدغمائية السياسية ( انتحار الشاعر الفذ مايا كوفسكي – هروب ثلة من خيرة المبدعين للخارج ... ") ولا يعدم التاريخ البشري حالات و نماذج مماثلة (ما جرى إبان الثورة الثقافية في الصين – ما شهدته مصر نهاية الخمسينات حتى أواسط الستينات ....الخ )حيث تحول حق الالتزام إلى باطل الإلزام المدمر للفن و للفنانين على حد سواء !
1-ج هكذا سيعمد ذلك التوجه الوسطي إلى العمل على مسك العصا من الوسط !إن التصور استقلالية كلية للفن عن السياسة ضرب من الخيال و المستحيل !فالإبداع ممارسة إنسانية تتم بالضرورة ضمن واقع تاريخي محدد و تصدر بالضرورة عن مبدع (كائن اجتماعي و تاريخي ) مشبع بوعي أو بدونه بخصوصيات مرحلته التاريخية و بالتالي فانه يستحيل تصور ابداع خارج التاريخ أو الواقع مهما حصل و مهما قيل !غير أن حضور التاريخي و الواقعي يجب إن يتم بطريقة ضمنية و غير تابعة فالمبدع يتفاعل و يتشبع بما يعتمل في الواقع لا لكي ينقله – هل هذا ممكن حقا ؟ لكن لكي يعبر عنه إبداعيا و فنيا , لهذا ظهر التعريف الشهير بأن "الإبداع" تعبير فني عن الواقع , إن الفن هنا يرتبط و ينغمس في الواقع لا ليذوب و ينصهر فيه لكن لكي يتميز عنه , إن فهم الإبداع انطلاقا من هذا التصور يضمن استقلالية و تميزه وفي نفس الآن يجعله "محملا" بكثير من المضامين الاجتماعية و السياسية ...الخ و الفن بهذا الفهم المتقدم يكتسب مكانته الحقة غير التابعة لأية ممارسة أخرى بل انه بالضرورة رؤية طليعية "رؤيوية" تسعى دوما لتجاوز ما هو كائن – السياسة مثلا – إلى التطلع نحو ما يمكن أن يكون ( تعريف ارسطو للفن) –و استشراف الأتي و المستقبلي , لهذا كان مصطلح الرؤيا اثبرا لدى اغلب المذاهب و النظريات المتبنية لهذا التوجه إلى جانب مصطلحات : استشراف – تنبؤ ..الخ و يضيق المجال لتفصيل القول حول أهم هذه المذاهب الفنية و الأدبية غير انه يمكن القول انه تصور اكتسب تماسكه النظري و وضوحه المنهجي مع بعض النظريات التي عملت على تجاوز الفهم المادي الميكانيكي لعلاقة الفن بالواقع و الذي ألحق إساءات بليغة بالمذهب الاشتراكي و الواقعي عبر محاولة صياغة نظرية تقر بالعلاقة الحتمية بين الفن و محيطه لكن مع ضمان استقلاليته و تميزه ( لوكاش –غولدمان – باختين وصولا إلى بعض النظريات الحداثية ..)
2- أما على المستوى الثاني فيتعلق الأمر بمواقف و أراء المبدع السياسة و مدى توافقها أو تعارضها مع مضا مين أو حمولات أعماله الإبداعية أي الرؤى المتضمنة فيه إضافة الى طبيعة التصنيف الذى قد تخضع له هذه المواقف : "رجعية متخلفة" أم" إنسانية تقدمية" , و يزداد إلحاح وحدة اثارة هذا الأمر عند و جود تناقض كبير بين مواقف المبدع السياسية و طبيعة و جهة و مسار رؤى إبداعاته و بتعبير أوضح و أوجز عند تبني مبدعين كبار لمواقف سياسية متخلفة و غير إنسانية ( مناصرة قوى الظلم و الطغيان مثلا أو الوقوف ضد قوى التقدم و التحرر ...الخ
و الحقيقة إن التاريخ حافل بكثير من النماذج الممثلة لمختلف أوجه هذه العلاقة ! وهي علاقة قد تبلغ القها الإنساني و الإبداعي حيث تصير حياة و سيرة الفنان /المبدع استمرارا و تكملة لفصول إبداعاته و حيت ينمحي الحد الفاصل بين الإبداع و الحياة فيما يشبه توحدا و وجدانيا بل صوفيا بين المبدع و الإنسان بل إن تضحية و استشهاد المبدع قد تكون أخر فصل من فصول حياته و إبداعه كذلك ( حالات بابلونيرودا ، لوركا . غسان كنفاني – مهدي عامل – حين مروة ...الخ تمثيلا لا حصرا ) كما أنها علاقة قد تتجلى في تبني خيارات المقاومة سياسيا
و إبداعيا , و هو ما قد يتخذ أشكالا عديدة و يتمظهر على درجات و مستويات متفاوتة ( اندري مالرو (المقاوم و الأديب ووزير الثقافة ! – سارتر –فرانز فانون – جان جونيه – زولا و صرخته الكبرى " إني أتهم " ناعوم شو مسكي العالم و اللساني الأمريكي –خوان غويتيسولو.رجاء غارودي –اميل حبيي –حنا مينا ...الخ ...الخ.وصولا إلى الكثير من الفنانين المدافعين عن قضايا المستضعفين و المضطهدين في مختلف بقاع العالم ..كما إن هذه العلاقة قد تتخذ شكلها السلبي و" غير السوي" عند تبني مبدعين كبار لمواقف سياسية لاتناسب قامات وعمق إبداعا تهم و لا تتماشى مع طبيعة الرؤى التي تبشر بها و الأمثلة أكثر من أن تحصى كذلك في هذا الإطار ( اندرى بازان و تجسسه لحساب مكارثي ! الفيلسوف برنار هنري ليفي و مواقفه المتصهينة "غونتر غراس" صاحب جائزة نوبل و سوابقه النازية ...الخ و لا تعدم الساحة العربية كذلك للأسف نماذج كثيرة جدا في هذا الباب !
و الحقيقة أن هذه الحالة هي من أكثر الحالات إثارة للجدل و التساؤل و الحيرة! حيت يجد الدارس او المتتبع نفسه حائرا بين سمو و عمق و إنسانية الإبداع .. و قزمية المواقف السياسية ! و لقد سبق " لفردريك انجلز " إن صادف حاله نموذجية ابان دراسة له حول أدب الأديب الفرنسي "بلزك" فبقدر ما أشاد و نوه بعمق إبداعه و كذا "تقدمية" مسار رؤاه الإبداعية بقدر ما رفض و ندد بآرائه و مواقفه السياسية "الرجعية " المناهضة إذاك لأفق "التغير الثوري" كما كان يبشر به انكلز و ماركس و لم يتمالك في خضم حديثه أن وصف " بلزاك " "بهذا البورجوازي العظيم" و الذي تلمس في إبداعاته "تهييئا و تبشيرا" برياح الثورة الآتية ! و هذا التناقض بين الجانبين قد يفسر بأحد سببين :
- قلة أو ضآلة الوعي السياسي بخصوصية المرحلة التاريخية لدى المبدع .
طبيعة الموقع الاجتماعي /الطبقي للمبدع و الذي يرهن مواقفه و آراءه تبعا لمصالحه/مصالح طبقته
و ختاما فلابد من تأكيد أن رفض و إدانة بعض المواقف والآراء السياسية للمبدع امر يجب أن لا ينسحب إلى محاولة رفض و التشكيك بل ربما "إلغاء " إبداعه، فما سبق يؤكد و يبرر إمكانية وجود هذا التناقض بين الإبداع و المواقف السياسية و في هذه الحالة – كما سبق للناقد المصري الراحل غالى شكري آن أكده - فان أول واكبر مدين لهذه المواقف هوا بداع المبدع نفسه .
ابراهيم ايت حــــو كاتب و ناقد سينمائي من المغرب
الهاتف 0021263410653