(تكوينات السلوك الأولية)
إن السلوك الإنساني حتى يكون مفهوماً و ملزماً لصاحبه و مسئولا عن نتائجه لا بد أن يكون له أساسيات تتعلق بالتكوين الموضوعي وعلاقته بالتكليف ,و ليس معنى التكليف هنا التكليف ألعبادي بالواجبات و الفرائض من صوم وصلاة و غيرها و إن كانت إحداها فلكي يكون الإنسان مسئولا عن عمل ما فلا بد من إن تكون له مقدمات باعثة, أما الإنسان، فبالإضافة الى ما يملكه من الخصائص النباتية والحيوانية فإنه يختص بميزتين روحيتين فهو من جهة لا تتحدد رغباته الفطرية بحدود الحاجات الطبيعية، ومن جهة اخرى، يملك قوة العقل، حيث يمكنه من خلالها أن يوسع في معلوماته إلى مالا نهاية،
ولأجل هذه الميزات تتجاوز إرادته حدود الطبيعة الضيقة، وتتجه باتجاه اللانهاية, هذه المقدمات يجب إن يكون الفرد فيها مكلفاً بالعمل بموجبها و أن يكون الفرد واعياً لهذا التكليف,أي يجب على الإنسان يعرف السلوك المراد بوعي ومن ثم يتكلفه,{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً }النساء84 ,فلو أخذنا صورتين لتصرف واحد من شخصين مختلفين الأول مكلف و عالمٌ بما يعلم و الآخر خارج هذا التكليف و هذا العلم فتصرف الأول يوجب جزاء النتيجة سلباً كانت أم إيجاباً أما الثاني فغير مسئول إلا بالقدر الذي يعيه برغم إن الاثنين متحدين بمعطيات التكوين ومحددات الزمن و المكان و تنطبق عليهم نفس القوانين إلا إن الفارق بينهما أساسيات التكوين الموضوعي بمعنى الوعي بالتكليف والتي هي كما قلنا في البداية التربية و التنشئة و التعليم و التأديب كلٌ حسب الوجهة التي سيقصدها كمناط تكليفي {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }البقرة286و اتساقاً مع النظرية الرباعية التي جاء بها الإمام علي عليه السلام و شرحناها في الجزء الأول من الكتاب وكما يلي :
1) التربية = النفس النباتية النامية
2) التنشئة = النفس الحسية الحيوانية
3) التعليم = النفس الناطقة القدسية
4) التأديب = النفس الكلية الإلهية
و على هذا المنهج سوف نرى ترابط كل من أساسيات التكليف مع أحد أنماط النفس الأربع و دورها في صناعة و بيانية التكليف أي بالمعنى المعرفي ((الوعي)) فالوعي وفق مفهوم التكليف هو المحك في تقدير السلوك من جهة ومن جهة أخرى بالوعي يمكن أن ننظم السلوك وفق المنهج الذي نريد سواء أكان المنهج إيماني أو دنيوي أو وفق محدد معين له تصور مسبق وله رؤية واضحة يراد لها أن تكون القائدة والسائقة للسلوك فحتى التربية وإن جزمنا إن الهدف الأساسي من تعاطيها وشكل هذا التعاطي في القرآن وانصرافه نحو النفس النامية النباتية ,قد يكون وفق منهجية سابقة ورؤية أولية يراد منها مثلا تحقيق غاية وإن لم تتعلق بالسلوك ومحدداته وضوابطه ولكنها يمكن أن تساهم بشكل غير مباشر في بلورة السلوك والوعي السلوكي,فنقول حتى التربية يمكن أدلجتها وتكوينها والتحكم بهذا التكوين كما نرى مثلا في التربية الجسمانية لبعض أصحاب المعتقدات والديانات وذوي الأهواء الخاصة ونرى كيف تكوين التربية الجسمانية ومساهمة هذه التربية في تشكيل وتصور السلوك عند هذه الجماعات باعتبار إن للجسد مثلا كشكل أو كمحتوى دور في تكوين التصورات الاعتقادية عندهم وهذا ما نجده في الديانة البوذية أو في الاعتقادات الزرادشتيه في الهند مثلا أو حتى في المجتمعات الطوطمية في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية من خلال تطويع الجسد البشري لإشكال محددة فأن الوصول الى الشكل المطلوب وهو نادر الحصول إنما يرتب للفرد وعليه سلوكيات محددة لا علاقة لها بما نتعلم أو نعقل أو ما هو المفروض من عدمه ولكن علاقة الجسد بالشكل ألاعتقادي هي التي تنشأ السلوك وتفرض المحددات والضوابط.
فتكون التربية ومثلها التنشئة باعتبارهما مما لا يتقيدان بالمعطيات السلوكية ابتداء لانصرافهما نحو النفس النباتية النامية والى النفس الحيوانية الحسية ,بالصورة التي أعتمدناه سابقا في تقسيم النفس البشرية في الجزء الأول من الكتاب,فنقول لا يتقيدان بالمعطيات السلوكية وإن كانا ضروريان ولا يمكن تجاوز دورهما في تكوين وصناعة الوعي بالمباشرة التلقائية أو بالتأثير الانفعالي لكن المهم في الأمر هو عدم تلمس التقيد الظاهري لهما بالسلوك الواعي لأنهما سابقان لحصوله ونضجه ,فالطفل وهو في دور الرضاعة مثلا لا يتقيد بأوقات الطعام أو التبول أو حتى البكاء وفق قواعد واعية محددة يمكن التنبوء بها على وجه القانون والانضباط وإنما يحصل ذلك من خلال استجابة لدواعي فطرية تكوينية تلقائية تتبلور بمجرد أن يكون الطفل في مقام الكينونة بعد خروجه من عالم التكوين الجنيني المعتمد على نظام خارجي من جهة عدم سيطرته عليه وداخلي باعتبار التبعية والاندماج بين الأم والجنين((أن النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الإنسانية أمكن للبرهان الذي قدمناه أن يرد عليها قائلاً أن النفس بسيطة بالذات فكيف ولدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية، بل لو كان العقليون يجنحون إلى الأيمان بذلك حقاً لكفى وجداننا البشري في الرد على نظريتهم، لأننا جميعاً نعلم أن الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أية فكرة مهما كانت واضحة وعامة في الذهنية البشرية.{وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفئدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}سورة النحل78.ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية، ويتلخص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوة وتكتسب صفة الفعلية بتطور النفس وتكاملها الذهني. فليس التصور الفطري نابعاً من الحس وإنما يحتويه وجود النفس لا شعورياً وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً كما هو شأن الادراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوة))( المصدر الأساسي للمعرفة
بحث للمرحوم آية الله العظمى ألسيد الشهيد محمد باقر الصدر).,هذا التقيد يتم من خلال التربية التي تعتمد على الزمن كمدى وعلى التنشئة كتحصيل تلقائي وكما سيتبين لاحقا.