الخير والشر على ما هما من وصف لا يحتاج الى تعريف, كان الصراع الأولي الذي عاشته البشرية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا بالرغم من التغير المستمر تغير الفهم النسبي لهما بتغير الأسس والأزمان والمكان ولكن يبقى الخير هو ما وافق الوعي الفردي والجماعي استنادا الى فهمنا الذاتي له دون النظر الى كونه صحيح بذاته أو خطأ بذاته ولكنه يكتسب صفته من فهمنا لذاتيته ودور هذا الفهم في ضبط السلوك ,ونرجع في بحثنا الى قصة فرعون فهو يرى الخير في ما يرى لا الى حقيقة كون هذا الخيار صائبا بذاته أو مخطئ بذاته فهو يقول وبحسب النص {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ }غافر26,فهو وبموجب مباعث السلوك الحسية لديه
يرى في فرعون شرا لأنه يظهر الفساد أو انه يخاف من حركة موسى إن تظهر الفساد في المجتمع الفرعوني,في حين إن موسى عليه السلام كان معياره أخر ومبعث سلوكه مختلف {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ }هود97,فيكون المحدد هنا مختلف فتختلف تبعا لذلك مقياسيه الخير والشر تبعا لذلك,على أساس الوعي وكيفية تكوينه,أي تبعا لمعايير الصراع وأسلحته ((الصراعات بل على العكس فالبشرية شهدت المراحل الأكثر تفاعلا منذ زمن طويل وساحق ,لكن النقطة الارتكازية المعللة لهذه الأزمة هو المادية الإعلامية والمادية الحودثية وبرمجة السياسة ومن ثم قولبتها بقوالب كثيفة لتوجه خلال ثواني بسيطة لعقل مشغول بالواجهة المادية الأخرى سواء كانت طبيعية كالغرائز والشهوات أو كانت مادية بحتة مثل البنايات والسيارات والترفيه المطلق . إن العنصر البشري أشبه ما يكون بسائل ما ,شديد التأثر بالحرارة وبالعوامل المادية ؛وهذا أمر طبيعي لان الإنسان جزء من المادة ,لكن البطولة تكمن في التحكم بهذا السائل وخلقه بصورة تغييريه تؤدي للتطور والمحافظة على خصائصه الأصيلة والثابتة))( أزمة الوعي في ظل أزمة السياسة,موقع أخبار مكتوب الاليكتروني)فيفهم الكاتب إن الصراع موضوعه الإنسان كمادة متغيرة متطورة هذا التغير والتطور هو الباعث للصراع نتيجة التفاوت والتغير في مقدماته المادية ومنها الإنسان الذي هو محكوم أصلا كم يقول بالمتغيرات الحدوثية ,مادية خارجية أو طبيعية ذاتية,وهو بذلك يقول بنظرية التفاعل السابقة الذكر.
إن ملاحظة التغير ألتأثيري والتأثري مهم في رصد الصراع بين الخير والشر تماما كما في قصة فرعون التي انتهت بتغير فرعون وانتقاله من القياس الحسي الى القياس العقلي بعد انهزام الحسية المجردة لصالح وعي العقل الحقيقي,لكن هل هذا يكفي لنميز بين الخير والشر تبعا لما أسلفنا من محددات مادية وطبيعية؟ الجواب أكيد لا والسبب إن المحددات نفسها غير مفهومة من جهة ومن جهة أخرى لا يمكن البناء على المتغير والمتحول لصياغة نظرية ثابتة لان البناء ينتج نفس مواصفات الأساس الذي بنيت عليه ,فلابد إذن من بيان أس أخر أكثر ثباتا ومنطقية من الحدين المادي والطبيعي.
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ }ص62,هذا النص منضم الى نص أخر هو {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }التوبة102,نكون صورة عما هو خير وما هو شرير استنادا الى النصوص الشرعية والنقل المقدس,فالخير هو حسب النصوص {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269,فالخير في أحد وجوهه الحكمة التي تعني القياس بمقياس مطلق رباني المنشأ والتقدير والوضع أي موافقة السلوك لمقتضيات الوجودية الشاملة التي في جانبها الوجودي النفعية للإنسان متوافقة مع المصلحة الوجودية {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ }البقرة272,أول هذه المقدمات هي الإصلاح بمعنى السير وفق المصلحة الكلية التي تنمي حس المسؤولية الإنسانية تجاه الأخر و {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }آل عمران15,والتقى أو طلب التقوى وهي ضبط السلوك وإرشاده الى الطاعة من باب الخوف من الله وإتقاء العقاب الرباني بالميل والضلال, وهي أيضا {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26,الاعتقاد بمصدرية الخير من الله جل وعلا دون أدنى شك بذلك فيجب القياس بهذه المصدرية وموافقة السلوك لمقتضياتها,كذلك نجد الخير بمعنى الإيمان وأركانه العملية وكل ما يتوافق معها فهو خير {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110,فالخير إذن مرتبط بالإيمان ومقياسه التقويمي بموجب الرحمة الإلهية كغائية أبدية أزلية {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }آل عمران157,فالرحمة التي هي خير سبب من أسباب الخلق والاستخلاف البشري في الأرض واليه ترجع كل المقدمات التي جئنا بها من قبل, فالحسابات المادية الظاهرية وإن دلت على أنها خير فهذه الحسابات المادية تكشف زيفها من خلال النصين التاليين {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }آل عمران178, {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }القصص79,فالقياسات المادية وان كانت بدلالاتها توحي الى الخير فهي في حقيقتها ابتلاء وامتحان لبيان الإيمان كمحدد للخير وبه تنكشف حقيقته الكلية كما جاء في النصوص السابقة.
إن هذه الجدلية بين المقياس المادي وبين المقياس المعنوي هو العنوان الأبرز في اكتشاف الخيرية من عدمها وبه يقاس ويعلم نمط السلوك النفسي للبشر مستند في الأحقية كون الكثير من القياسات لها لحظات ومعطيات أنية توحي بما توحي,ولكن العبرة في ثبات هذه القياسات والمعطيات وقدرتها على الثبات والانضباط القياسي لذلك فالخير واحد في فهم القرآن منذ الخليقة الى يوم يرث الله الأرض ومن عليها يرتكز في غائيته على الرحمة وفي تطبيقه على المنفعة وفي شكله توافقه مع الأوامر والنواهي الحكمية الإلهية {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }آل عمران198,فتأشير إن ما عند الله خير ثابت أكيد ودائم لا يتغير بينما الخير الحسي المادي يتغير ويزول في مقابل الخير الإلهي {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ }القصص60.
بهذا نكون قد توصلنا الى معيارية الخير الثابتة الضابطة للسلوك البشري التي يمكن معها صياغة نظرية الخير بأنها(( كل ما يتوافق مع الغائية من الوجودية الشمولية ويتسق مع حركاتها ويؤدي إليها )),فهو وعي بالذات المتصالحة والمؤمنة بالوجود الشامل الكلي غيبه ووجوده مادي كان أم معنوي ,مكشوف الدلالات أم غابت فيه العلة لسبب ما {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنفال70,فالعلم الإلهي قد يكون مطروحا للإنسان كحقيقة يجب الأخذ بها أو يحتفظ الله بالعلة لغاية لا تدركها العقول {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216,فالخير بما أنه من الله ومن قياساته فهو منوط بإظهاره للمصلحة أو إخفائه لنفس السب والمصلحة {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }النحل74.
فمعرفة قياس الخيرية ومعيارها واستنادا الى قانون الشيئية الزوجية يكون كل ما عداه من سلوك وتصرف وتقرير إنما في الضد من الخيرية وهو الشر لذلك بدأنا بالنص القدسي الذي يتسأل أصحابه عن رجال كانوا يعدون من الأشرار وبالنتيجة وجدوهم أنهم لم يكونوا إلا ممثلي للخير ومتصفين به,وعلة ذلك الخطأ في القياس والتيه عن المعيار الحقيقي لديهم الذي أوصلهم لعدم إصابة قياساتهم مع القياسات والمعايير الحقيقية للخير والشر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35,هذا البلاء والفتنة ينصب على المعرفة والوعي بأسبابها ولذلك قال موسى عليه السلام واصفاً الامتحان الرباني لأصحابه بأنه فتنتك أي امتحانك المؤدي الى تلمس الحقيقة واكتشاف الخير وتمحيص النفوس {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }الأعراف155.
أخيرا نستنتج من كل ذلك النقاط التالية:
1. الخير والشر من عند الله ليس بمعنى الفعل ولكن بمعنى الابتلاء بهما وأثرهما على السلوك وبه تتم الكشف عن مواطن الخير وتنميتها وإظهار مكامن الشر والابتعاد عنها {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40,فالبلاء هو طريق امتحاني كاشف للفعل الخير وفعل الشر فهو إذن من بواعث السلوك.
2. لا نسبية في الخير والشر عند الله ولا تبديل فيهما حسب الظروف والأحوال وإنما هي من الثوابت لارتباطهما بالثوابت الإيمانية الشاملة, أما في المعيار المادي والطبيعي الذي يتحدث عنه علماء النفس السلوكيين فهو من المتحولات والمتغيرات {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }فاطر43,فالمكر السيئ الذي هو من صفات السلوك ألشرير إنما أكتسب هذه الصفة من عدم موافقته للإيمان الشمولي الذي هو سنة وقانون الله في الأرض هذه السنة ثابتة لا تتبدل ولا تتحول بتبدل الأزمان والمكان ولا بالمعايير إلا معيارية الوجود الشمولي الكلي.
3. الخير والشر عمل إرادي حر اختياري يصدر بوعي من الفاعل حسب قوة النفس المتحكمة فيه وكيفية اتجاهها المسئول عنه وبما يتحكم في النفوس من نشاطات لقواها الجزئية فهي الملامة أو المثابة أولا وأخيرا وهذا ما يثبت عدالة الله وعدله فلا يحاسب الله نفساً إن لم تكن أهلا للتكليف بفعل الله ولا يثيب إلا بالفعل الطوعي الموافق للتكليف ومنسجم مع توجهاته{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }آل عمران30,فالتحذير يتم عبر الإنذار المسبق والتنبيه به وبمحدداته {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15,وهذه القاعدة كلية تتوافق مع القانون الوضعي الذي ينص (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص سابق).
4. الخير والشر مدركان سلوكيان يمكن للعقل إدراكهما ذاتيا من خلال الوعي الناتج من تفاعله مع النقل فهو يحسن الحسن بذاتيته كما يستقبح القبيح لذاته,وهذه الحقيقة ترجعنا الى أهمية إعمال وتنشيط النفس الناطقة وجعلها تتحكم بما دونها من الأنفس النباتية والحيوانية لترتقي يهما الى أحكام واشتراطات النفس الكلية وخصائصها من الرضا والتسليم, فبالعقل إذن يدرك الشر والخير وبه تنضبط السلوكيات الإنسانية إلا بالاستثناءات الخاصة{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }يوسف53,هذا الاستثناء مرتبط بعلم الله وتقديره وليس افتراض يطبق تلقائيا ولكنه قابل للتطبيق بالشروط والاشتراطات التقديرية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }التوبة16.
5. تفاضل الخير على الشر مرتبط بالمصلحة الوجودية الشاملة وفرعها الأدنى النفعية فكل حلال هو خير وكل حرام هو الشر بعينه , ومن هذا الفهم يسوق الإسلام ويسوق معيار يته الخاصة دون التقيد إلا بالنتيجة والغائية بعيدا عن العامل الزمني والمكاني فقد تجد كثيرا من الصغار يستهدي الى مقومات الخير في حين إن الكثير من الكبار لم يدركها بالرغم من المساحة الزمنية الواسعة التي تؤهله لذلك,وتفسير ذلك في الفكر الإسلامي والرؤية الإسلامية تعتمد على السبق في التقرب من مصادر الخير نفسها كالوحي والتأدب بمحدداته والإمضاء السلوكي بما يوافقه لذلك كان الاهتمام منصب عند الإسلام في تقوية التقرب من الله والحث عليه ((اتَّقُوا اللَّهَ تُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَ جَدَّ تَشْمِيراً وَ أَكْمَشَ فِي مَهَل وَ بَادَرَ عَنْ وَجَل وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ الْمَوْئِلِ وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ الْمَرْجِعِ))فالمبادرة هنا السبق قبل فوات الأوان وكلما عجل الإنسان وبادر الى الاستجابة لربه كانت نفسه الكلية أطوع لله وأقرب من الخير وتنضبط بقية الأنفس بهذه المبادرة لذلك قيل في المثل (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر) ليعبر المثل عن حقيقة إن النفس اللينة المطمئنة هي ذاتها المبادرة الى الخير وليس لعامل الزمن إلا الدور الثانوي التشجيعي بذلك عكس ما يعتقد الكثير من الباحثين الذين يجعلون من العامل الزمني محدد نحو الخير والشر كما في الاقتباس التالي((تنبثق أنواع مختلفة من السلوك البشري في مراحل زمنية مختلفة نتيجة للنضوج, وبهذا فإن الاستفادة من البيئة والتعلم يتوقفان على مدى استعداد الكائن الحي ونضوجه ومرحلة التطور التي هو فيها))(الإنسان وعلم النفس ,مصدر سابق ص134).
6. ترابط الخير مع الإيمان ترابط جدلي غير منفك وهذا الترابط ليس بالمطلق النهائي إلا في النفس المطمئنة الراضية المسلمة التي أعلنت إسلاما تسليميا بعيدا عن مغريات المادية وهوى النفس فبهذا الوصف يكون الخير إذن يتبع الاطمئنان واليقين ويولد الاستقرار النفس والاستواء الكيفي ,أما النفوس التي فيها بعض من الحسية المادية فأنه تكون أقرب للشر منها للخير لتزعزع أسس الإيمان وصراع الماديات الحسية مع الكليات الإيمانية ما لم تتداركه الرحمة الإلهية من خلال التقرب والتسابق الى الخيرات وإلا إنزلقت الى مهاوي الردى وعند ذلك لا ينفع الإيمان للنفس ولم تنضبط بقوانينه {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }الأنعام158,فالانتظار هنا غير مجد إن لم يكن الدافع ذاتي والباعث إيماني فيكون للانتظار معنى وهدف خيري.
7. الخير أقرب للنفس البشرية من الشر وأطوع فالأصل الخيري لتعدد مصادرها في التكوين والتصوير الإلهي,فالنفوس الأربعة منها واحدة لا اثر لها في السلوك إلا من حيث البقاء من عدمه وهي النفس النباتية النامية والثانية الحسية الحيوانية وهي تنفلت وتنضبط تبعا لما تلقى من محددات والثالثة القدسية أقرب للخير فهي والعقل باقتران دائم والنفس الكلية نفس خيرية بالكامل إضافة الى ذاتية العقل ووظيفته الأساسية التي تحسن الحسن وتستقبح القبيح ,فتكون شواهد الخير ومستشعراته عند الإنسان تتجه نحو الخير أكثر مما تميل نحو الشر{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ{8} أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ{9} وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ{10}سورة العاديات, فالخير بموجب المعايير الربانية قد جبلت النفس عليها طالما هناك وعي مرتبط بحقيقة وجود الآخرة وحصول ما في الصدور من انكشاف وافتضاح أمام من لا تخفى عليه خافية,لذلك نرى في كل مسيرة الإنسان في التاريخ تنتهي القصة بتغلب الخير والانتهاء به{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }القصص5,فالوراثة للذين يريدون الخير ويعملون له وبه ولا مصير للشر وإن استفحل وبسط سلطانه في الأرض من وهمه فالعاقبة دائما وأبدا للخير وأهله{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ }القصص58.
8. وأخيرا فالخير بهذه الأوصاف ملائم للطبيعة وللوجود لان فيه الصلاح وقاعدة البقاء للأصلح تعني بقاء الخير طالما بقيت موازين الإيمان موجود فإذا رفعت موازين الإيمان رفع الخير وهذا مما لا يتوافق مع المسلمات الإيمانية لارتباطها أساسا بالباقي الذي لا يزول ولا يهلك بينما تهلك الموجودات بما فيها الأرض ومن عليها {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } القصص88, وهذا الأبدية تستوجب الركون إليها أبدا دون من تبدل أو تغيير في طلب الخير والعمل سلوكيا به ولأجله لان ذلك يعني النجاح الذي هو غاية السلوك عن علماء النفس وهو الفلاح والفوز عند الله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الحج11.
إذن معيارية الخير من خلال الشرح المتقدم وما سجلنا من ملاحظات عليها قادرة أن تكون معيارا صالحا لتمييز الأنماط السلوكية والتفريق بينها على أساس مقنن منضبط قادر على التفريق بين ما هو موافق ومخالف دون أن تستغرقه كلا أو جزءا الفردية أو الشخصية التي تخرجه من الانضباط المجرد وبه تصلح قانونيته كمقياس تفريق.