عَنْ ثَوْبَانَ t قَال: َقَالَ سيدنا رَسُولُ اللَّهِ r: pيُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَال:َ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِير،ٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِi"([1]).
من خلال هذا الحديث النبوي الشريف وعلى نوره يمكننا تلخيص عوامل الغثائية الذاتية -
التي لهبت ظهر الأمة وما زالت- في أربعة أشياء لها فروع:
1- انهيار التربية على الإسلام.
2- قوة الولاء للقومية، والنُّعرة القبلية (أم الفتن).
3- استفحال الطبقية؛ (ما نعيشه اليوم خير دليل، أناس لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وأناس يدخرون الأموال الطائلة في بنوك اليهود، وأمريكا الشيطان الأكبر...).
4- فساد الحكم؛ (غياب الشورى والعدل، والظلم والطيش والتهور، والترف، والاعتزاز بغير الله، والولاء لغير الإسلام،...).
وكل الأمراض التي نراها اليوم، هي أعراض لهذه العوامل الأربعة. لكن في مقابل ذلك بين لنا سيدنا وحبيبنا رسول الله r أسباب الشفاء والبرء والصحة والتخلص من هذا المرض الخطير، وترك لنا صورا مشرقة ونموذجا ساطعا للوحدة الجامعة، نقرأها في سيرته العطرة، وفي التعايش الأخوي بين المهاجرين والأنصار، بعدما ولجوا باب الجهاد بالنفس والمال وغير ذلك، أي بعدما طهرتهم الصحبة النبوية والتربية النبوية من رجس القوميات والنُّعرات، أصبحوا إخوانا وعلى دين الله أعوانا.
ولن تعود لنا عزتنا وكرامتنا ووحدتنا إلا إذا سلكنا نفس المهْيَع الذي سلكوه، فندنو من نموذجهم الأخوي الحي بالمدينة، ومن تلك الوحدة العضوية كالجسد الواحد التي حققوها بينهم ببركة صحبة نبيهم وتربيته r.
فلن نكون لاحقين بمن سبقنا بإيمان إلا إذا اقتفينا أثرهم، وتلقينا الخطاب القرآني بنية التنفيذ كما تلقوا، وكنا في مستوى الجهاد كما كانوا، وصبرنا وتحملنا الأذى كما صبروا وتحملوا.
من كان يظن أن انتصار الإسلام، وإعلاء كلمة الله، والتمكين لدين الله، يتحقق بدون مساعي متواصلة وجهود مبذولة، بدون تحمل للأذى والصبر على مشقات الطريق، بدون نفقة في سبيل الله، بدون موت في سبيل الله فإنما ضل الطريق الصحيح، وتمنى على الله الأماني.
وخلاصة القول: يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}([2])، ويقول جل ثناؤه: ويقول عز من قائل:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}([3]). يخبر تعالى جل وعلا "أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.
{ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.
وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء"([4]).
فإرادة الله U الكونيةُ غيرُ أمره الشرعي التكليفي. أمر الله الشرعي أن يكون الناس أمة واحدة يوحدهم دين الإسلام الذي جاء به رسل الله –عليهم السلام-، لكن قدره I الكوني أن لا يكونوا أمة واحدة، وأن ينفردم عقد وحدتهم، ويتفرق أمرهم، وأن يختلفوا ويتقطعوا زُبراً جزاءً وفاقًا بما كسبت أيديهم وبما زاغوا عن هدي الكتاب وسمت النبوة، وعصوا ربهم، وتخلوا عن سنة نبهم.
وبهذا؛ فالوحدة أساس القوة، والجماعة من التفرق رحمة من الله تبارك وتعالى وقدر مقدر منه سبحانه وتعالى. وهي في حقنا واجب شرعي، ومطلب إسلامي.
ولذا فلا يهولننا ما نراه من استفحال قوى الباطل وصولة دولة الملأ المستكبر، فإن نصر الله قريب من المحسنين. وإن الله وعد في كتابه الحكيم أن يستخلف المستضعفين ويورثهم أرضه إن هم آمنوا وعملوا الصالحات.
فليكن لنا يقين في أن الله U هو محرك الكون، المهيمن عليه، رب كل شيء ومليكه.وليكن لنا يقين فيما زفه إلينا نبيه الكريم r من بشائر كثيرة في انتصار الإسلام وظهوره في العالمين، وبعودة الخلافة على منهاجه المبين.ووعد الله U ووعد رسوله المصطفى r حق: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً}([5]).
وخلاصة القول: الطريق إلى الوحدة والتوحد هو البرء من مرض الغثائية المتمثل في حب الدنيا وكراهية الموت، وتربية الأمة تربية إيمانية صحيحة على نور المنهاج النبوي، أما من يرى بأن طريق التوحيد هو القتال فقط أخطأ الطريق وزاد الطين بلة والجرح عمقا والنزيف استمرارا، قال الدكتور محمد خير هيكل:"فالمسلم الذي يقاتل من أجل القيام بواجب الوحدة بين البلاد الإسلامية إنما يقاتل من أجل الإسلام؛ لأن وجوب إقامة الوحدة هذه هو حكم من أحكام الإسلام، وبالتالي: فالقتال من أجل إقامته هو قتال من أجل كلمة الله عز وجل"([6]).
لا نختلف مع الدكتور في وجوب إقامة الوحدة الإسلامية، لكن نختلف معه في الطريق إلى الوحدة، فهو يرى القتال هو السبيل، ونحن نرى عكس ذلك، فالقتال لا يجدي في شيء وإلا كانت الفتنة بين المسلمين، ولو كان هو المهيع الصحيح لسلكه سيد الوجودr بمكة، لكنه اختار طريقا أقصر وأيسر وهو التربية، فعندما يتربى أبناء الأمة تربية صحيحة يسحب البساط من تحت أقدام حكام الجبر بقومة إسلامية تنقض عروش الباطل، أو بالعصيان المدني بلسان العصر... مما يؤدي بالطغاة الجبابرة إلى الاستسلام وترك الأمر لأهل الحل والعقد ليختاروا من يكون أهلا لذلك.
([1]) سنن أبو داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام، ح4297. قال الشيخ محمد ناصر الألباني في السلسلة الصحيح: حديث صحيح.ح958، 2/647.