لا ريب أن النفس التي تغيض عنها روح التدين إنما هي نفس مأزومة حائرة لم تستقر على شيء ، ولم تثبت على عقيدة أو رأي ، وإنما هي التي تؤمن بلا شيء ولا تؤمن بشيء ، وتظل هكذا كالريشة في مهب الريح.
تاريخ الإلحاد في حضارتنا الإسلامية هو واحد من أكبر الأدلة على أن الإسلام دين عظيم ، والدليل ما قاله الماركسي العتيد سليم خياطة:" نسجل افتخارنا وإعجابنا بهذه المدنية الإسلامية السمحة ، التي كانت تأذن لأمثال صاحبنا ابن الرواندي بهذا الاجتراء على عقائدها ، وبهذا التهجم والتنقص من تفكيرها ودينها ،
وهي ساكنة هادئة تؤلف الكتب رداً عليه ، ودحضا لما انهال به عليها من حامي اللطمات."
الحضارة الإسلامية التي استوعبت حضارة الإغريق بكل ما فيها من فكر وأدب ومنطق وإلحاد فشرحتها وأضافت إليها وقدمتها على طبق من ذهب لأوروبا هي حضارة عظيمة أجمل ما فيها أنها قامت على خلفية دينية بعكس ما قامت عليها حضارة الغرب من تحيزات مختلفة كان الدين مفردة فيها ولم يكن هو الأساس الأول.
في كتاب: "من تاريخ الإلحاد في الإسلام" للفيلسوف د. عبد الرحمن بدوي يرى بدوي أن بداية الإلحاد في الإسلام إنما جاءت بحركة التنوير التي كانت تعبد العقل عبادة ، وتجعله الفيصل في الحكم على الأشياء ، من مثل ما حدث من قبل عند السوفسطائيين اليونان ، وفي نزعة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر ، وكان على رأسها فولتير وكنت. صحيح أن مئات منهم قد قتلوا مثل ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وغيرهم لكن يبدو أن الدولة قد آثرت ألا تمنحهم فخر الشهادة فتركتهم وإلحادهم في النصف الثاني من القرن الثالث ، و طوال القرن الرابع.
ويرى د. طه حسين في " حديث الأربعاء" أن نشأة الإلحاد قد بدأت بسبب حركة الشعوبية (التعصب للقوميات غير العربية مثل الفارسية مثلا) في العصر العباسي.
الملحد لا يحترم أي دين أو عرف ، فأبو نواس الذي ألحد في الإسلام كان يسخر من المسيح أيضاً ، وسبحان الله فمن يريد التعرف أكثر على أحوال الزندقة والإلحاد التي بدأت شرارتها في العصر العباسي فليذهب قبلها إلى خراسان وإيران ليعلم أن الأمر كان مبيتا له بهذه النظرة الشعوبية الفارسية البغيضة وسبحان الله فإيران في عصرنا هذا هي التي أدخلت أمريكا إلى العراق وهي التي اعترفت أنها من أسقط أفغانستان في أيديهم ، ولا أدري أي الأشياء تريدها إيران فوق كل هذا؟
وأما عن أفضل ما كتب عن زنادقة وملحدين فهو - في رأي بدوي – بحث فرنشيسكو جبرييلي:" مؤلفات ابن المقفع" والذي نشر في مجلة الدراسات الشرقية في الجزء 13 سنة 1932.
والحقيقة أن كتب ابن المقفع ليس فيها نفس الظهور الملح والحجاج العنيف ضد الإسلام الذي نلقاه في كتابات ابن الراوندي ، وباستثناء ما يظهر من الإيمان بالمانوية (خلود أجساد الإنسان والإيمان بالظلمة والنور)، وإنما نسب إليه المستشرقون ذلك من خلال كتاب رد فيه الإمام الزيدي القاسم بن إبراهيم (وهو من المعتزلة) على ابن المقفع ومن هنا ثبت اتهامه بالزندقة.
وعلى ذكر المستشرقين فإني قد قرأت في كتاب " دفاع عن القرآن ضد منتقديه" تلخيص بدوي لأسباب الجرأة الجهولة الحمقاء (هذا نص كلامه) عند هؤلاء المستشرقين حول القرآن بما يلي (أنقل بالنص من طبعة الدار العالمية للكتب والنشر):
1- معرفتهم باللغة العربية من الناحية الأدبية والفنية يشوبها الضعف وهذا ملحوظ عندهم جميعا. 2- جميع ما يستقونه من معلومات إنما هو من مصادر عربية جزئية ناقصة وضحلة وغير كافية ، وهم يرمون بأنفسهم في مغامرة طرح فرضيات خطيرة وخاطئة يعتقدون أنهم أول من توصل إليها ، دون تكليف أنفسهم عناء التقصي لدى تلك المصادر عن نفس المعضلات التي يثيرونها ، إذ تطرق الكتاب المسلمون في حقيقة الأمر لهذه الفرضيات واعترضوا عليها. 3- إن ما يحرك بعض المستشرقين هو دافع الضغينة والحقد على الإسلام ، مما يفقدهم الموضوعية ويعمي بصيرتهم بطريقة أو بأخرى ، وهذا ينطبق خاصة على هيرشفيلد و هوروفيتز و سبير. 4- لقد ذهب بعض السطحيين إلى الإعلان بأعلى صوته أن في القرآن انتحالا وتقليدا وسرقة ، معتمدين على تشابه لا أساس له ، وهذا ما قام به مستشرقون مثل: جولدتسيهر – شفالي- مرجليوث ، ونتحفظ نوعا ما فيما يتعلق بنولدكه الذي يتبرأ نوعا ما من مؤلفه "تاريخ القرآن" عندما رفض إعادة طبعه تاركا المستشرق شفالي يقوم بهذه المهمة ، فطبع الكتاب ثانية وأصبح يعرف بكتاب نولدكه – شفالي. 5- لقد كان بعض من هؤلاء المستشرقين مدفوعا بالتبشير والتعصب المتحفز ، مثلما هو الحال بالنسبة للمستشرق وليم موير وزويمر.
أعود بعد هذا الاستطراد عن المستشرقين لأقول إن المهم عندي ليس أن أسرد ما تقيأه الملحدون مما بلغ أوجه عند ابن الراوندي في كتابه:"الزمرذ" لكن أن أؤكد أن الإلحاد ليس خيارا ، وأن الملحد واهم لو ظن أني سأتعقبه وأفند كلامه ببساطة لأن العقيدة إما أن تؤمن وإما لا ، فالأمر مرجعه حريتك أنت لكني أحببت أن أثبت له أن الإسلام كان شديد التسامح مع هؤلاء حتى عندما يصل الأمر إلى جابر بن حيان الذي بلغ القمة في العلم والذكاء لكنه كان ملحداً!!!
فقد كان يتبنى واحدا من المذاهب الروحانية المستورة وهو الاسماعيلية الذي كان امتدادا لإخوان الصفا حسب بحث المأسوف عليه (كما يقول بدوي رغم أنه انتحر) باول كروس عن جابر.
العجيب مرة أخرى أن كروس أثبت أن هناك من الكتب المنحولة الكثير والكثير مما نسبها علماء الشيعة المشتغلين بالكيمياء حوالي سنة 300 هـ الموافق 912 م لجابر.
لقد كان جابر يؤمن بالتكوين الصناعي يعني أنه من خلال الصناعة الكيميائية يستطيع إنشاء إنسان أو حيوان أو جماد حيث كان يعتمد جابر على نظرية الميزان وهي العمود الفقري لعلمه كله ، والمقصود بها القوانين الكمية العددية التي تحكم كل شيء في الوجود ، وبالتالي فهو يرجع كل الظواهر الطبيعية إلى قوانين الكم والعدد.
على أن هذا يثبت عظمة جابر العلمية لأن النسب الكمية هي التي حلت محل الخواص الكيفية في العلوم الطبيعية فأنشأت لنا النظريات الحالية في العلوم. وأشد إلحادا من ابن حيان محمد بن زكريا الرازي الطبيب والكيميائي والفيلسوف كما ظهر في كتابيه "العلم الإلهي" و "مخاريق الأنبياء" وشدة تعصبه للعقل في مقدمة كتابه "الطب الروحاني" ونقده لليهودية والمسيحية على حد سواء، والمؤكد أنه لم يكن يؤمن بالنبوة حيث كانت النبوة ركيزة الرفض عند الملحدين (وخصوصاً ابن الرواندي أشهر ملحد في القرن الثالث الهجري) وهناك ما يشبه هذا كثيرا عند ابن سينا من مثل ما أورده الغزالي في المنقذ من الضلال.
والذي أحب أن أختم به هو إرجاع أسباب الإلحاد في تاريخ الإسلام إلى سببين أقنعني بهما أيما إقناع الفيلسوف الكبير د. عبد الرحمن بدوي وهما:
1- فريق ألحد عن الدين لأسباب من العصبية القومية حملته على أن يتعصب لدين آبائه من المجوس والمانوية والثنوية كما فعل ابن المقفع وبشار.
2- فريق تزندق فرارا من تكاليف الدين وطلبا لسلوك مسلك الحياة الماجنة الحرة السمحة ، دون أن يتأثر بشك فكري واضح والمثال على هذا كثير من الشعراء المنتبسين إلى "عصبة المجان" على حد تعبير أبي نواس.
وإني أظن بمعنى أوقن أن كثيرين من ملحدي هذه الأيام من الفريق الثاني ممن يتخذون موقفا رافضا وسلبيا من الحياة ، ويسيرون خبط عشواء فلا هم مسلمون ولا مسيحيون ولا يهود ، وإنما هم دائما على الهامش. ووالله إن من عجيب أمر الملاحدة في إحدى المجلات التي أكتب بها أن يتخفى في زي مسلم واحد منهم أتفه ما يكون لا تقع عينه إلا على جدليات لا يحسنها ولا يعرف نزرا يسيرا من المنهج في معالجتها كمثل من يكتب عن خالد بن الوليد دون أن يستوعب كل الأقوال والآراء عنه ، ويغفل عن حقيقة أظهرها ملحد آخر لكنه منصف أكد أن خالد تكمن عظمته أصلاً في كونه قائدا عسكريا عظيما لا فقيها أو عالماً. المشكلة أيها الكرام أن ملحدي الأمس كانوا أكثر فهما وإنصافا وشجاعة من ملحدي هذه الأيام وأتحدى هذا الدعي أن يكون قد قرأ عبقرية خالد لعبقري لا يبلغ هو معشار ما بلغه وهو العقاد.. رحم الله العقاد. وموعدنا إن شاء الله في حلقات قادمة مع كتابي الفيلسوف الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي:"دفاع عن القرآن ضد منتقديه" و "دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقدين". الكتابان يقطران موضوعية ومنهجية وجمالا وجلالا ومنطقا وشرفا وحبا للإسلام ولرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وسبحان الله من ملحد سابق لكنه فيلسوف أكاديمي عظيم العلم والمعرفة وليس لصا تافها يسرق المقالات من جوجل (وينطقها قوقل) ويتباهى بذلك!!!!
وكما يقول المتنبي:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه على قد القرائح والعلوم.