قدمت في الجزء الأول نقولاً عن أبي زهرة وابن قيم الجوزية وسيد قطب ، والثلاثة مشاربهم مختلفة ، بل أحيانا متضاربة.
والذي أقصده من هذا كله يقوم على بدهية معروفة لا تقبل النقاش وهي أن الناس لا يستطيعون العيش بدون الدين الذي يشبع الجانب الوجداني عندهم ، وإذا جحد أحد قولي هذا فليذهب إلى اليابان التي حققت معجزات اقتصادية وعلمية باهرة وسيرى بنفسه أن في أعقد المصانع والمؤسسات والمعامل هناك دائما ركن للعبادة. تخيلوا عبادة الأوثان ، بل لعلك لا تعجب لأنك تعلم أن أكبر علماء البرمجيات
في العالم يعبدون البقر ، وهم هنود كنا في مصر نسخر منهم ونطلق عليهم النكات بينما تستعين بهم الولايات المتحدة لديها في وادي السيليوكون المعروف بأعقد تقنيات الكمبيوتر.
إذن الأمر لا دخل له بالتقدم أو التخلف... الأمر في تصوري هو دافع إنساني يلح علينا ويحدونا نحو البحث وراء المحسوس والمعروف، ثم إني ممن يستسخفون فكرة البحث في ذات الله وإيراد الأدلة على وجوده برغم أني مؤمن بالله أشد ما يكون الإيمان ، وذلك لأن الله تعالى ليس مادة تخضع للبحث العلمي فالسؤال هو: إما أنك تؤمن أو لا تؤمن؟
وفي مقالي عن المازني والجاحظ ومارك تواين ، وعند وصفي ونقلي عن عدد من الساخرين رأيتهم جميعا قد أبدعوا في وصف رذائل الطبقة البرجوازية بعد تصدع الرأسمالية مما كشف عن رياء هذه الطبقة التي كانت تستغل الأطفال في المصانع ثم تلزمهم بغناء التراتيل الدينية في أوقات فراغهم!! والمقصود هنا هو أن الدين كان موجودا حتى في ظل التوحش الرأسمالي.
ولعلك تعجب عزيزي القاريء إذا قلت لك إن أحد أساتذتي ممن عاشوا في الولايات المتحدة أكثر من 28 عاما يؤكد أن الشعب الأمريكي شعب متدين!!!
على كل حال لا عجب خاصة بعد قراءة كتاب:"الدين والسياسة في الوايات المتحدة" والذي قام بترجمته أستاذي الدكتور عصام فايز الذي كان يعطينا محاضرات الترجمة الفورية في الجامعة.
فالكتاب يوضح لك دور الدين واستغلاله من قبل السياسيين في الولايات المتحدة ، ولا أحسب أبدا أن كلمات مثل محور الشر، الحرب الصليبية، العدالة المطلقة، صراع الحضارات، العدو الأخضر (يقصدون الإسلام) كلها مجرد زلات لسان فقط.
الجميل أن الكتاب يناقش الاستخدام المتضاد للدين في ذات الوقت بما يمثل مفارقة مضحكة مثل استخدامه في تشجيع العبودية وإلغائها ، والتمييز العنصري وقبول اندماج السود والملونين مرة أخرى في الولايات المتحدة فيما يسمى بإعادة التأهيل Rehabilitation.
وحتى في العملية الانتخابية على سبيل المثال يتجه اليهود والكاثوليك لانتخاب المرشحين الديمقراطيين أكثر من الناخبين البروتستانت على حد تعبير المؤلف مع الوضع بالاعتبار أن أمريكا لم تعرف رئيسا من غير البروتستانت سوى كينيدي الذي اغتيل بالفعل!!
على كل حال دعوني أختلف مع المؤلف لأني أرى أن الولايات المتحدة مع هذا دولة مؤسسات كبيرة يتحكم في سياساتها أكثر من مفردة واحدة وبصورة معقدة لن تجعل الدين الأول ولا الأقوى في التأثير لكن الدين أصيل هناك ويستغل كما يستغل في كل مكان من أرجاء المعمورة.
لكن لنأت الآن إلى بلادنا لنرى هذا المد البروتستانتي الذي تأثر به الدعاة الجدد لدينا فيخرج الواحد منهم مجيدا للغة الجسد والعين (Eye Contact & Body Language) من تسبيل وتحريك مؤثر للذراعين ونظرات خبيرة للكاميرا وابتسامات مدربة وووو ليخرج بصورة درامية مكثفة تجعل من كلامه شكلا من أشكال الدعوة الفنية والتمثيلية لا الفقهية أو العلمية.
الكارثة الحقيقية تكمن في أن الدين تحول على أيديهم إلى ثقافة كرسوها أداة للاستبداد والطغيان فارتاح قلب الحكومات العربية لهذا الشكل الديني الذي يعتمد على معالجة أمور بعيدة عن العالم المرئي مثل الجنة والنار والجن والسحر وعلامات الساعة بينما يئن المواطنون تحت نير الظلم والجوع والاستعباد ويغتصب بعض ضباط الشرطة المواطنين في الأقسام ويغرق أكثر من ألف ومائتي مواطن من شعب مصر المطحون وتنقلب صخرة تزن آلاف الأطنان على فقراء تطحنهم طحنا فلا يتحرك جفن لهؤلاء الدعاة ومع الأسف من كل الأطياف حتى من التيار السلفي الذي أحترم فيه تعمقه في العلوم الشرعية وتفقهه في علوم اللغة والدين.
لك أن تتخيل معي وأنا أصعد أحد الكباري الضخمة في القاهرة فأجد صورة لداعية شاب ربما من عمري بينما تراه لا يختلف قيد أنملة عن نجم سينمائي حيث رابطة العنق وكريم الشعر ويداه في وسطه وابتسامة عريضة وكل هذا لا غبار عليه فالله جميل يحب الجمال لكن المشكلة في عنوان اليافطة لمحاضرته القادمة وهو:" قصة حب"!!!!!!
الأخطر من هذا أن أجد واحدا من كبار علماء السلفية يتكلم في محاضرة طويلة عريضة عن أم الولد (وهي الأمة التي تزوجها سيدها فأنجبت منه) وهناك شيخ سلفي آخر يشهد الله أني أشهد له بالتمكن من علوم الدين واللغة سمعته ورأيته يصرخ في قناة دينية قائلا: يا أوباما أسلم تسلم!!!!!
الناس تتكلم خارج التاريخ بغير وعي بالواقع بينما أن فقه الواقع لا مناص من أخذه بالاعتبار لكل من يتصدى لأمر الدعوة سيما في عصرنا المعقد الذي تعقد فيه الصفقات بين الدول الإسلامية وإسرائيل من تحت المنضدة بينما يتبجع قادة هذه الدول بقولهم: لا تطبيع ، بينما أن كلمة تطبيع أصلا قد فقدت معناها ببساطة لأنه لا مفر منها ولأنها واقع ، ولأن الدول العربية ضعيفة لا تملك القرار أصلا فأي خيبة وهراء نعيش فيه؟!
أعود على بدئي فأقول إني قصدت أن أستشهد بما قاله ابن القيم لأن هذا الرجل العظيم قد ركز على منظومة القيم: العدل والرحمة والحكمة والمصلحة بينما أن من يتمسحون به من بعض شيوخ السلفيين قد قال أحدهم – ومرة أخرى أنا لا أذكر أسماء كما أني أحمل كل الود والتقدير والاحترام لمن يختلف معي ، وهذه أخلاقي ولن أتدنى لدرجة أن أذكر أسماء وأهاجم شخصا بعينه - : "لقد أعطينا من جهدنا ودعوتنا للحية والنقاب أكثر من عشرين عاما؟" طيب لا بأس فكم أعطيت لمنظومة القيم التي ذكرها شيخك ابن القيم من السنوات والجهد؟ أين العدل في مجتمعك الذي يئن تحت نير الاستعباد والظلم بل أين الرحمة والحكمة والمصلحة؟ لماذا كل الحديث يتركز على أحكام الطهارة واللحية والنقاب ، وبأسلوب خطابي لم يتغير منذ أكثر من ألف عام؟
سبحان الله كيف كان سيصير حالنا لو لم يكن في تاريخنا بالفعل أمثلة عظيمة لعلماء الدين المجاهدين الذين كانوا ينزلون إلى الناس ولا يخطبون فيهم من وراء الكاميرات بابتسامات عريضة وبدمع هتون يتعجب المرء من استمرار وهطول هذا الدمع مع ضبط الشيخ عينيه على اتجاهات الكاميرا كلما أراد المخرج أن يضبط كادر الكاميرا!!!!!
ولأني أعمل بالإعلام فإني أعرف جيدا كيف تبرز عقلية رجال الأعمال في هذا المجال ولو على حساب الدين. فقد جمعت إحدى القنوات الدينية أكثر من خمسة ملايين جنيها في أقل من أسبوع واحد من اتصالات ورسائل أتتها عبر الهواتف المحمولة تسأل عن صحة أحد الشيوخ الذين يظهرون على شاشتها خاصة بعدما استثمرت القناة مرض الشيخ لصالحها ، وكل شيء جائز ومباح في عالم المال والأعمال وغير هذا كثير وأكثر عجبا!!!!!!
نفس الكلام ينطبق على الصوفية التي وصلت إلى قدر عظيم من الخرافات والضلالات فابتعدت عن الواقع بآلاف السنوات.
ظهور القنوات الدينية والدعاة الجدد أمر لا يمكن أبدا رفضه ولا هدمه لأنه في حد ذاته تداع طبيعي ومنطقي لعصرنا ذي الإيقاع السريع والشهرة السهلة ، ويحضرني هنا قول بديع لوزير الأوقاف لدينا:" مثل المسلمين والعرب الآن في واقع الحضارة كمثل قطار قد خرج من محطته بينما أنهم ما يزالون واقفين يتساءلون مدهوشين: أحرام أم حلال خروج هذا القطار من محطته بينما أنه قد خرج بالفعل منذ أكثر من ساعتين!!!! لكني ألح على هؤلاء الدعاة وهذه القنوات وكلي نفس مخلصة وقلب محب أن يتغير الخطاب من الأسلوب الخطابي الرنان المفأم بحركات عيون وأذرع تستدر الدمع من المشاهد إلى خطاب عقلي منطقي واقعي يكشف الزيف والباطل ، ويقف في صف المظلومين ، ويطالب الشعب بأداء دوره سيما وأن الشعب بالفعل قد تعلم كل السيئات من الحكومة فأصبح كسولا لا يبالي ، كما وأنه قد استراح لرمي كل التهم الجاهزة على الحكومة حتى يظل دائما هو المظلوم بينما هو الظالم لنفسه في حقيقة الأمر.