في أواخر ديسمبر 2008 شنّ الجيش الإسرائيلي عدوانا لم يسبق له مثيل على قطاع غزة، واستخدم فيه كافة أنواع الأسلحة جوّا وبرّا وبحرا، فدمّر المدن والقرى والمخيمات، وأحرق الشجر والبشر بأسلحة دمار مُحرمّة دوليا، ذهب ضحيتها ما يزيد على الألف وثلاثمئة شهيد، وما يقرب من الستة آلاف جريح، واهتزت لتلك الجرائم ضمائر الجماهير الحرة في الوطن العربي و العالم الإسلامي و العالم الحر، فتدفقت تلك الجماهير على شوارع العواصم و المدن هاتفة بحياة رجال المقاومة الفلسطينية المدافعين عن شرف الأمة في غزة، و مطالبة قادة العرب و المسلمين أنْ يهبوا لنجدة القطاع و أهله.
و لما تقاعس أولئك القادة و أحجموا عن القيام بواجبهم أشارت جماهير التظاهر و الاعتصام إليهم بأصابع الاتهام على أنهم شركاء في العدوان، عندها أدرك أولئك القادة مدى خطورة غضبة الجماهير، فلجؤوا إلى سلاحهم الوحيد المعهود والذي لا يملكون غيره، ألا و هو التنادي لعَقدِ مؤتمر قمّة، و تزاحمت القِمَمُ العربية، فعُقدتْ ثلاث منها خلال أسبوع واحد، و هي: قمّة الرياض و قمّة الدوحة و قمّة الكويت، و جميعُها كثرة في غير بَرَكة، استقبال و مُصافحات، و تبويس لِحًى و مُصالحات، و إنشاء صناديق التبرعات لإعمار غزة. و كأنهم بذلك يذرّون الرَّماد في عيون الجماهير العربية، فكيف يتمّ إعمار غزة في ظل عدوان إسرائيلي مستمر؟! و ما نبنيه اليوم يهدمه ورثة النازية غدا، ألم يسبق أنْ تمّ إنشاء مطارٍ دوليٍّ في غزة؟ ألم يتمّ تأهيل ميناء غزة وتشغيله؟ ألم يتمّ بناء مؤسسات حكومية و مقرّات و مدارس و جامعات و مستشفيات؟ و كلها جعلتها قذائف العدو أثرا بَعْدَ عَين.
إن هذه الصناديق ليست سوى رشوة مُصالحة بين الحكومات العربية و الجماهير العربية، لعلَّ تلك الجماهير الغفورة تواصل غفرانها و صَفحَها، و تكف عن إحراج الأنظمة. ثم ما شأن الجماهير العربية بما يجري في أروقة القمّة مِن مُصالحات بين الأخوة الأعداء؟! هم يتخاصمون فيقطعون علاقاتهم و يسحبون السفراء مِن عواصم بعضهم لأتفه الأسباب، ثم يتصافحون و يتصالحون، و يُعلنون صُلحَهم على الملأ، و كأنهم يزفون لشعوبهم البشائر بأنّ جيوشهم قد أعادت لنا القدسَ و النَقبا، تلك المصالحات تأتي في ظلِّ غضَب الشارع العربي، و لأسباب منها: سخونة الجوّ في غزة، و دماء الأبرياء التي لم تجفّ بعد، و انشغال السيدة رايس بعملية انتقال السلطة في أمريكا، و عندما يحين الوقت لوصول السيدة كلينتون إلى المنطقة فلن تلبث تلك المصالحات أن تتبخر، وربّما تتبخّر قبل ذلك الوقت.
إنّ الجماهير قد عبّرتْ بما لا يَدَعُ مجالا للشك عن براءتها مِن القمم العربية و أخبارها و طقوسها و نتائجها، و باتتْ لا تعقد أية آمال عليها، لقد أثبتت هذه الجماهير بعد أحداث غزة أنّ الخيرَ ما يزال في الأمة، عندما عبّرتْ عن وحدة المصير العربي ، و المطلوب منها الآن ألا تنخدع بمعسول الكلام الذي يُقال في مؤتمرات القمّة، و أنْ لا تسمح لعَرّابي القِمَم بالمتاجرة بمصير الأمّة وبقضاياها مهما بلغت العطايا و الهبات التي يُقدّمونها، و ألا يتسرّعَ أحَدُ بتنميق قصائد المديح لأولئك العرّابين، فقد قال الشاعر: و حَمْدُكَ المَرءَ ما لم تبْلهُ خَطأ و ذمُّكَ المَرءَ بعْدَ الحَمْدِ تكذيبُ
إنّ القِمَمَ العربية المتزاحمة في يناير 2009 ليست سوى عمليات استعراضية ارتجالية لا هدف لها و لا منفعة تُرجى منها، ومِنْ مُنطلقٍ فلسفي براجماتيّ فإنّ قيمة أيّ فكرة تكمُنُ في المنفعة التي تقدّمها، ومعلومٌ أنّ القمَمَ العربية لم تعُد قادرة على تقديم المنافع لأبناء الأمّة، ولم تعُدْ قادرة على خدمة قضاياها المصيرية، حتى أنّ بعضَ هذه القِمَم باتَ ينقضُ بعضها الآخر، ألم تدْعُ قمّة غزة الطارئة في الدَّوحة إلى تعليق مُبادرة السلام العربية؟ مع التحفُظِ على كلمة (تعليق)، ألم تدْعُ قمّة الكويت إلى إبقاء تلكَ المبادرة مطروحة على الطاولة، وإعطاء إسرائيل مزيدا مِن الوقت قبل إقدام العرب على سَحْبِها.
إنّ تلك المبادرة باتت ملهاة سيئة السمعة؛ فمنذ إعلانها في قمّة بيروت 2002 حتى قمة الكويت 2009 مضَتْ سبْعُ سنوات عِجاف، تعرّضَ فيها الشعب العربي و الأرض العربية في فلسطين و لبنان إلى أفظع جرائم العدوان الصهيوني، و تنكرتْ فيها إسرائيلُ لكلِّ مبادئ السلام والأمن الدوليين، مقابل مَزيدٍ مِن الاستكانة و الهوان من الجانب العربي؛ لأنّها تعلمُ جيدا أنّ مُبادرة السلام المُسمّاة بمبادرة السلام العربية ليستْ سوى سلعة أمريكية أبدَعَها الصحافي (توماس فريدمان)، و قدّمتها المملكة العربية السعودية لقمّة بيروت؛ فتبنّاها القادة العرب، و إذا كان السيد (فريدمان) لا يبادر لسَحْبِ مبادرته، فالمأمولُ مِمَّن تبنّوها أنْ يبادروا لسَحْبها و وَأدِها.
إنّ الجماهير العربية تعلمُ جيّدا أنّ الحكوماتِ العربية قد أسقطتْ الخيارَ العسكري مع إسرائيل مِن كلِّ حساباتها، وأنّها لا تبحثُ عن بَدائلَ أخرى لمبادرة السلام، لذلك لم تعُدْ تعَوِّل تلك الجماهير على أدوار الحكومات، وصارتْ تتطلعُ إلى المقاومة الشعبية لتحرير الأرض العربية، فالصمود البطولي لرجال المقاومة الفلسطينية في غزة و انتصارات المقاومة اللبنانية قد أذهلَ الأعداء، و نفخَ روح الأمل في نفوس العرب و المسلمين، و أسقط الرهان على جميع الاتفاقيات و المعاهدات المعقودة مع إسرائيل، و وضَعَ القضية الفلسطينية في مسارها الصحيح، تمهيدا لحلها حلا عادلا و مُشرِّفا.