عرفت ابن حزم وتوحدت معه في بعض الأحايين (أحايين جمع أحيان التي هي جمع حين، يعني أحايين جمع الجمع). أحببته لأنه يشبهني أو لأني أشبهه..لا فرق. المهم أني رأيت فيه مثالاً واقعياً لإنسان صادق في تمرده وثورته وعبقريته وعفويته وإخلاصه بل وحدة لسانه.
هو مثل موج البحر الهادر... مثلي أنا عندما أتمرد وأحاول الظهور لا لحب الظهور ولكن لدفع الظلم واسترداد الكرامة التي ديست في وطن ما عاد يعبأ بالكرامة.
لم أكن لأقوى على متابعة "المحلَّى" لابن حزم، فتفاصيل الفروع - (الفروع تقال للفقه الذي هو استنباط الأدلة التفصيلية من أدلتها الكلية، يعني أصول الفقه) - تدفعني للضجر والملل بل والسخط على بعض الفقهاء الذين تحذلقوا حتى حولوا الدين إلى فقه افتراضي تقديري سخيف أشهد أني أستحي أن أنقل لكم ما تندر به ابن حزم على أصحاب هذا النوع من الفقه وإلا دخلنا في باب المجون والفحش.
المهم، ما علينا، ابن حزم في حياته كان مدللاً ومرفهاً ومنعماً ومخدوماً من جاريات حسناوات تربي في حجورهن حتى صار عليما بالنساء خبيرا بأحوالهن كما قال.
ليس جديداً أن أقول إن ابن حزم قد ولد في قرطبة، وكان أبوه وزيرا في خلافة المنصور بن أبي عامر وقد عاش في بلاد الأندلس...آهٍ سقى الله أيامك يا أندلس.
تعرض ابن حزم لنكبات بعد اضطراب الحكم في زمنه فسجن وصودرت أملاكه وأحرقت كتبه فتحول الشاب المنعم إلى سجين يرسف في الأغلال يعاني الحزن والألم لا لفراق أيام الرخاء وحسب ولكن أيضاً لوشايات الحاقدين من بعض فقهاء عصره من المالكية الذين ألبوا عليه السلطان. يعني قصة معروفة تكررت في تاريخنا كثيراً.
كنت أصبر نفسي كثيرا عندما أجد الغيرة من أصحابي ومحاولات الكثيرين للوقيعة بيني وبين صاحب العمل فأذكر الجاحظ حينما قال: كلما عملت في مكان زاد فيه نجمي كثر فيه حسادي، فما حيلتي هل أترك الدنيا أم أتعمد الخمول.
بل إن تاريخنا يحفظ لنا أن أبا حيان التوحيدي قد أحرق كتبه عندما شعر أن الناس لا تقدرها حق قدرها، ولا يحفظون له من الكرامة ما يظن أنه يستحقه، وبرغم أن هذا الواقعة قد أثرت فيّ كثيرا لكني عندما عرفت التوحيدي عرفت عنه أيضا أنه كان واسع الحيلة ولم يكن بهذه الرقة ولا بهذا السمو في المشاعر عكس ما كان عليه حال شبيهي الحبيب ابن حزم.
قد يحسب الناس هذا زهواً، لكن الحقيقة أني أرى أن العلم لا يؤخذ من كتب جوفاء اعتدنا أن نصير لها عبيداً، وأؤمن جازما أنه لا بد من علاقة روحية تنشأ بين العالم والكاتب وبين من يتعلم منه ويقرأ له، وقد وجدت هذا في كل القدامى من علمائنا وتراثهم إلا فيما ندر. وأستطيع الآن أن أقول لكم انطباعي ليس فقط عن كتاباتهم بل وعن سيماهم وسمتهم. وحتى يزول ما بك من شك وحتى تطمئن أني لست بهذا الغرور والعياذ بالله، سأحكي لك أني في ذهابي لمدرستي صغيرا كنت أمر في طريقي بأشجار كثيرة وكنت أعرف كل شجرة، سيما وأن كل واحدة منها كنت أكتب عليها اسمي واسم الجو بتاعي (ده وأنا صغير، فلا حرج بقة وكده يعني) وفي المرات التي كنت أفقد فيها واحدة منهن كنت أقف أمام جذورها وأحشائها التي خرجت من تربة الأرض أبكي وأنتحب بينما يضحك علي أصحابي. فقد كنت رقيق المشاعر رغم شقاوتي في صغري.
هذه الأحوال وغيرها تذكرني بابن حزم الذي يخدع الناس ظاهره وحدة لسانه لكن باطنه كان جميلاً وديعاً هادئاً مطمئناً رقيقاً يصاحب الشجر ويسامر القمر ويرهف سمعه لدقات القلب وخلجاته.
في طوق الحمامة أبدع ابن حزم صورة لم يسبق لها وهي وصفه للحب - الحب العفيف لا حب الفيديو كليب الداعر- والمشاعر وإني ما أظن بحد علمي أن أحدا قد سبق ابن حزم إلى هذا لا في أدبنا وحده وإنما في كل آداب العالم إذا ما قيدنا وصف ابن حزم بالفقيه.
وقد سعدت أيما سعادة عندما رأيت جهد المخلصين ممن أفردوا لما كتبه ابن http://www.ibnhazm.net/ حزم وما كتب عنه موقعا كاملاً هذا رابطه:
فبارك الله فيهم ونفع بهم. يبلغ ابن حزم قمة الرقة في شكواه الحزينة التي تعبر عن كل مظلومٍ من العلماء والعباقرة في كل زمان ومكان فيقول هذه الأبيات سلوانا لنفسه ولهم:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
ولكـن عيبـي أن مطلعـي الغـرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع
لجـد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحـو أكناف العراق صبابة
ولا غـرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن يـنزل الرحمن رحلي بينهم
فحـينئـذ يبـدو التأسـف والكـرب
هنـالك يدري أن للبعـد قصـة
وأن كســاد العلـم آفتـه القـرب
وبحكم دراستي الأزهرية فإني قد تعرضت كثيرا لدراسة ما أبدعه قلم ابن حزم السيَّال في كل المجالات، وأبرزها في رأيي مقارنة الأديان في كتابه الماتع الذي درسته: الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، والذي علمني إياه أستاذي فضيلة العالم الجليل الدكتور محمد أبو ليلة بل إن زوجة أستاذي وهي الفاضلة الدكتورة نورشيف عبد الرحيم كانت رسالتها للدكتوراه عن ابن حزم فأكرم بهما من قمرين في سماء العلم والدعوة وبارك فيهما وفي آثارهما.
ومن غريب ما لفت نظري فيما يتصل بمقارنة الأديان التي كان ان حزم مبدعاً فيها ما رأيته على موقع أمازون لشراء الكتب حيث وجدت هذا الكتاب الذي نشرته الأكاديمية الأمريكية للكتب الدينية في 220 صفحة:
"Exegesis of Polemical Discourse - Ibn Hazm on Jewish and
Christian Scriptures"
والمعنى"تفسير الخطاب الجدلي – ابن حزم وكتاباته حول الكتب السماوية اليهودية والمسيحية" لمؤلفه تيودور بولسيني الذي عد ابن حزم من أعظم علماء مقارنة الأديان في العصر الوسيط. ولا شك أن تمكن ابن حزم من المنطق والفلسفة وأدواتها بل وإجادته لطرق الخطاب اللساني والأدب كل هذه الأمور قد جعلت منه عالما ومحاورا وناقدا فذاً اعتمد عليه اللاحقون في كتاباتهم الدينية والنقدية والفلسفية والأدبية وما يتصل بمقارنة الأديان.
في كتاب طوق الحمامة في الإلفة والأُلاف - (معرفة عنوان الكتب كاملا أمر بالغ الأهمية، فكثير ممن يتصدون للدعوة مع الأسف لا يعرفون حتى اسم صحيح البخاري كاملاً ويكتفون بقولهم صحيح البخاري بينما أن اسمه هو:" الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه") – يبدو لنا ابن حزم الفيلسوف والمفكر والأديب – كتبت مقالا عن ابن حزم الفقيه وكان نموذج الحديث عن نفيه للقياس – الذي يسرد سيرته الذاتية في جانب الشعور والحب لكن الجديد أنه كان شديد العفوية والصدق بعيدا عن التجمل والتصنع وهو ما جذبني إليه وجعلني له محباً وقارئاً نهماً.
أما عن الحب، فإني أرى أنه لا يمكن تعريفه لأنه إنما يستخدم في تعريف الأشياء فهو حقيقة وبديهة غير أن ابن حزم قد حاول تعريفه لكني شعرت أنه تحدث عن بدهيات ودلالات وأعراض الحب لا الحب ذاته. وقد جعل ابن حزم كتابه في ثلاثين باباً: عشرة منها في أصول الحب، واثنا عشر في أعراضه وصفاته الحميدة والذميمة، وستة في الآفات الداخلة عليه، وباب واحد في قبح وذم المعصية، والباب الأخير في فضل التعفف والتصبر. يورد ابن حزم هنا الكثير من الأحوال والصفات والطبائع التي رآها وخبرها اعتمادا على أنه عاش في كنف الجواري. والحقيقة أن في نسخة الكتاب الأصلية بعضاً من الحكايات السخيفة التي لم أرض بها لكني على كل حال ألتمس العذر له لأن الحديث في هذا الباب شائك وقد تحدث عنه ابن القيم أيضاً في كتابه الماتع الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي أو ما نسميه : الداء والدواء.
المهم الآن عندي أن ابن حزم يعترف أن الاسترسال في الحب والعشق والهيام والوجد يعني كامل الخضوع للمحبوب والانقياد له وهو ما يجر إلى المعصية والذنوب سيما وأن الإنسان مفطور على حب الجمال كما أن الحب أمر قهري لا سبيل إلى دفعه من القلب إلا بالاستعانة بالله.
وما أردته من مقالي هو أن ألقي الضوء هنا على بديهة معروفة وهي أن الإنسان هو ابن بيئته، فبلاد الأندلس الجميلة بأنهارها ونسائها وأشجارها ورخائها جعلت هذا الفقيه الظاهري المتشدد يحدثنا بكل هذه الرقة عن لوعة الحب ودرجاته بطريقة يخيل لك فيها أنه خبير لا يبارى في علم النفس. كما أني أؤكد هنا ألا مشكلة أبدا بين الدين والأدب، ولولا ضيق المقام لنقلت هنا سطورا كثيرة لأكبر علماء الحديث والتفسير في تاريخنا حقها بلا أدنى شك أن نعتبرها من الروائع في كتب الأدب.
أذكر أني في مرحلة العقد كنت أقرأ لزوجتي قصيدة نزار البديعة: "كل يوم أحس أنك أقرب". وبرغم ما يظهر في أشعاره من إلحاد وجنس فاقع يؤكد أن نزار كان يعتبر المرأة جسداً مجرداً للمتعة إلا أن شخصية الرجل الحقيقية قد بانت لي في أشعاره السياسية، وانظر إن شئت : "هوامش على دفتر النكسة " و"يوميات شقة مفروشة" و"قتلناك يا آخر الأنبياء" وغيرها، بل وأشعار نجيب سرور البذيئة، فإني لما قرأتها بعين مجردة أدركت أن البذاءة لم تكن إلا ما يغلف شكواهم من مرارة الهزيمة والظلم بل والحب الواصل إلى حد العشق لهويتهم وبلادهم.
الخلاصة هي ما ناديت وأنادي به: كل متدين إنسان، وكل إنسان خطاء، وأكبر خطأ نرتكبه هو أن نخلع القداسة على علماء الدين أو أن نصر على أن لديهم الحلول لكل المشكلات والإجابه عن كل الأسئلة. فالأمر أهون من هذا بكثير بل إني لو حكمت على ما ورد من فحش في البخلاء للجاحظ أو البصائر والذخائر للتوحيدي لقلت إن هذه مرآة عصورهم وتاريخ أيامهم ولا يعني ذكرهم للفحش أنهم كانوا فجرة، كما أن الرحمة واستصحاب الأصل الإنساني الضعيف في الحكم على الرموز أمر شديد الأهمية...وإلى لقاء إن شاء الله.