اللهم لا شماتة .. ولكن من حق " فلتان " - هكذا كنا نسميه - أن يموت كما يفعل سائر البشر ..
هو صديقي ومن كان يحبه أكثر مني ( فليلاقيني في بطن ذلك الوادي ) قلت هذا المقطع بلهجةٍ منبرية تشبه طريقة الممثل المصري عبد الله غيث في المسلسلات التاريخية .
أي وادٍ ؟ سألني عباس وهو يعتصر عينيه في محاولة فاشلة لإفتعال دمعة ، قلت :
أي وادٍ قريب من هنا ، وادي صقرة أو وادي الحدادة أو حتى .. وادي الرمم ، إن موقفاً مهيباً وحدثاً جللاً كهذا يستدعي التضحية ..هكذا رأيت .. وفي هذا بعض الوفاء مني ل "فلتان" تخليداً لذكراه و تبجيلاً لمقامه .. شفطت نفساً عميقاً من سيجارة الجيتان بدون فلتر و إنتابتني موجة مفاجئة من السعال و الضحك .. لأن " فلتان " لم يعد كياناً قائماً و تخيلت منظر " فلتان " ميتاً و هو مضطجع ببلادة في حفرة ضيقة ويشكو من الضجر كعادته ، رحمه الله كان يخاف من الوحدة والعتمة و يخشى الأماكن الضيقة ، ولعل هذا أحد أسباب تعلقه بنا مع أنه كان يكره معظمنا و بالذات عباس و محسن و صبري و سوزي و فاخر و عصمت و فوزية ، و كثيراً ما طلب منا – قبل موته !! – أن نحرق جثته على كومةٍ من شجر البلوط و لم يقل للمجموعة لماذا البلوط بالذات .. ثم نلقي برماده من على طائرة هليوكبتر في نهر المسيبي ، كان يحبني وكنت الوحيد الذي أودعه سره الخطير " لماذا البلوط بالذات ؟ " وها أنا ذا أحفظ السر ولم أبح به لا للأصدقاء و لا للقراء !
ضحكنا وسألناه : وهل تعرف أين يقع نهر المسيبي هذا ؟
أجاب بنبرة واثقة : في أمريكا الجنوبية .. و أعتقد أنه نهر عظيم كثير المياه .. طويل وعريض .
بدأ تلك الليلة هادئاً وحزيناً أكثر مما ينبغي وأقل قدرةً على إحتمال عبثنا و رذالاتنا المعتادة ، اللعين .. كان يعرف أنه سيموت .
سأله عباس - وهو أكثرنا لؤماً – بطريقة تخلو من حسن النية :
طيب يا عزيزي ..ممكن وبصعوبة أن نرسل رمادك الى نهر المسيبي ولكن لماذا تصر على أن تتناثر في الفضاء من على متن طائرة هليوكبتر .. من منا سيدفع أجرة الطائرة ؟
قال " فلتان " : هذه وصيتي .. و تلك مشكلتكم .
وافقناه بعد أن تغامزنا فيما بيننا – كنوع من التواطء – ولأنه لن يعرف بعد موته إن كنا سنلبي رغبته الحمقاء هذه أم لا ، ولكنني كنت أعتقد أنه يريد أن يمتحن قوة صداقتنا ومدى إحترامنا له .. ظل صامتاً لفترة طويلة ثم قام فجأةً وشتمنا جميعاً ، وقال بصوت مرتعش يغلبه الأسى أنه يأسف لأنه أضاع عمره في صداقة مجموعة من الأنذال – هم نحن – وصفق الباب بعصبية وخرج ..
سادت فترة ثقيلة من الصمت بعد خروجه ، كانت الليلة الأخيرة .. إقترحت على الأصدقاء كتعويض بديل أن نحرق صوره و أوراقه و ملابسه و نلقي بها في نهر" الزرقاء " ، فقال لي عبد المعطي الذي لازال يعيش في " الزرقاء " أن النهر قد إختفى تماماً ، صرخنا جميعا : ياه .. !! معقول ؟؟ ..
قلت : وهل يملك النهر تغييراً لمجراه ؟
قال عبد المعطي بلهجة العارف الواثق : نعم يا أصدقائي .. نعم .. لقد جف النهر تماماً ونهائياً ..
كنت معجباً بمعلومات عبد المعطي البيئية و إقترحت على الأصدقاء أن نقيم إسبوعاً ثقافياً لرثاء النهر الميت وأن نبدأ بحملة لجمع التواقيع لإعادة النهر إلى مجراه .. ترحمنا على النهر الفقيد وكدنا ننسى أمر " فلتان " ، ولكن عباس اللئيم فاجئنا على حين غرة إذ تهدج صوته وقال :
حسناً .. فليكن نهر المسيبي إذن ..
إحتضنته بقوة قائلاً :
إي عباس .. هكذا عهدتك ، رغم لؤمك ، أنت رجل ولا كل الرجال .. بخٍ بخً .. صاحب المبادرات .. تتألق في الأزمات ..تعلو على الصغائر ..مثابرٌ مغامر .
في المقبرة حيث لم يبكِ أحد منا عندما أنزلنا " فلتان " في الحفرة الضيقة ، إنفجر " عباس " بالضحك ، حدجناه بنظرات صارمة ليكف عن هذا العبث الفاضح ، ولفت أحدنا إنتباهه أن الناس يبكون في مثل هذه المواقف أو يتجهمون على الأقل ولا يضحك إلا المجانين أو الشامتين ، فإبتلع " عباس " ضحكته وصار يردد :
ضحكنا عليه .. قال " مسيبي " قال ..
إقتربت من " عباس " وهمست بإذنه :
إنه لأمر محزن أن يكون الإنسان مقطوعاً من شجرة ، وخاصةً في لحظة وفاته ، و أن الأمر يخلو من الإثارة في عدم وجود الأهل الذين يقومون بواجبهم في اللطم والنحيب و العويل ، وأن مثل هذه الإنفعالات ضرورية من الناحية الدرامية في مثل هذه المواقف ..
وافقني " عباس " وقال أن هذه ملاحظة قيَمة مني ، و اضاف أن وجه " فلتان " - ميتاً - بدا في حالة من السكينة و أكثر بياضاً وهادئاً أكثر مما ينبغي وأن الموت يمنح بعض الناس درجة من الوقار الذي كانوا يفتقرون إليه وهم أحياء .
ولكن " فاخر " الذي كان في صباه مفتوناً بقصص " آجاثا كريستي " قال أنه يرجح أن " فلتان" مات مقتولاً !!
سألناه بإستهتار : ومن قتله يا فصيح ؟!
قال : مات بغيظه .. من المنفلوطي .
قلت له : يا أهبل .. المنفلوطي مات من زمان .
قال " فاخر " : لا .. إنه لازال يكتب زاوية ثقافية سجعية مغرقة في السلفية والإسهاب و الإطناب في إحدى الصحف المحلية .. وكثيراً ما سمعت " فلتان" يقول : سيقتلني هذا الرجل .. و كان يقصد" المنفلوطي " تحديداً ..
و دخل الأصدقاء في حوار عقيم حول شخصية المنفلوطي ، أحدنا قال أن المنفلوطي هذا أفغاني من جماعة " بن لادن " ولكن آخر صحح لنا بأن المنفلوطي هو شخص منفلوطي من قرية مصرية إسمها " منفلوط " ولكن مثل الحوار العقيم - الذي هذا ليس بأوانه في أي حال - لم يمنعني من إبداء الإعجاب بسعة معلومات أصدقائي هؤلاء ..
كنا لا نزال نقف فوق قبر " فلتان" .. فزجرتهم بقوة : أبيت اللعن .. أو تعلمون يا قوم فيما ذكره أبو اليقظان أن امرأة الحارث بن يثربي بن مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة وهو أول من قاد بني ثعلبة في الجاهلية ..
كنت سأستطرد لولا أن أحداً من هؤلاء الصعاليك – أصدقائي – لم يأبه بي ، فقلت لنفسي : لا عليك يا فتى .. إنهم قوم جهلاء .. لا يفقهون و لا ينقهون .. و أن الأمور تأتي هكذا على نحو لا ترتجي فيه لومة لائم .
عامل المقبرة ( حفار القبور ) الذي كان يراقبنا مذهولاً تصنع الحزن ، و جاء يقبلنا الواحد تلو الآخر مردداً : الله يرحمه .. عظم الله أجركم ، بينما يمد يده نحونا للحصول على بعض المال ، هو يعرف بما لديه من خبرةٍ هنا أن الناس في مثل هذه المواقف الحزينة يصابون بحالة من الإستلاب و قد تعتريهم نوبة من الكرم المفاجيء .
كان وجهه مغبراً و دبقاً و رائحته غريبة تشبه رائحة الأموات الذين يعيش بينهم ، وعندما إقترب مني أرعبني وجهه ، حدقت في عينيه إحداهما كانت ضامرة والثانية مطفأة واسعة و زرقاء ، فأسرع كل منا ليعطيه كل ما في جيبه من دنانير قليلة كانت بحوزتنا ثم سرنا في طابور شبه منتظم بإتجاه الشارع .
سألتهم : من منكم يمتلك أجرة تاكسي ؟ فهزوا رؤوسهم بلا .. فقلت و أنا أيضاً أعطيت الرجل العشرة دنانير .. أنها كل ما أملك ، وشعرت برغبة في البكاء .
أشرنا إلى شاحنة تحمل التراب مرت من أمام المقبرة ، توقف السائق و أشار لنا أن نصعد الى ظهر الشاحنة لنجلس فوق كومة التراب ، إلا عباس اللئيم الذي أسرع بأنانيته المفرطة وجلس بجانب السائق .
قلت والتراب يعفر بوجوهنا : لقد تبهدلنا أيها الأصدقاء .. ولكن لا بأس .. إن " فلتان " يستحق أكثر من ذلك .. فقال " محسن " : ماذا تقصد ؟ .. هل كنت تتوقع لنا أن نعود من المقبرة في تنك نضح ؟ قلت له : ويحك يا رجل .. ألا تحترم الموتى ؟ ..فرد ساخراً : طبعاً .. أنا أحترمك جداً .
عندها إنفجرنا جميعاً في قهقهةٍ عارمة .. فامتلأت أفواهنا بالتراب .