ربما من المبكر القول إن الحرب على غزة قد وضعت أوزارها ، وان هدأت المدافع والصواريخ والغارات ، إذ أن فعل هذه الحرب قد تجاوز المساحة العسكرية للحرب وأدواتها، لتبدأ تداعياتها في غير مكان وعلى
غير صعيد . فمن هو الرابح ومن الخاسر إذا..؟
إذا كان من نافلة القول أن المقاومة قد أكدت انتصارها الميداني، فإن مقومات هذا الانتصار امتدت إلى خارج فلسطين وكذا غزة النموذج ذات المساحة المحدودة.
فالصراع الآن يتسم بترسيخ الانتصار وتعميمه عبر صراع الثقافات. فالثقافة أنماط من الإيديولوجيات والسلوك ، فإذا كانت الايدولوجيا خيارا لدى الشوب ، فإن الثقافة ليست خيارا وإنما فعل مجتمعي انصهرت في بوتقته كل الإيديولوجيات وبرز إلى السطح منه منتج جديد ينفي كل النظريات ذوات القوالب الجامدة .
وعلى سبيل التدليل ، فإن توجه الصهيونية نحو اليمين ، وإنتاج أحزاب أكثر تطرفا في قيادة المشروع الصهيوني ، أدى إلى ردة فعل عكسية في المشروع القومي العربي ، سارت نحو إنتاج مشروع إسلامي (ديني) وان لبس لبوسا قوميا ، في مراحله الأولى، على حساب المنتج الأمريكي فيما سمي ب " الإسلام المعتدل:وانفضاض الجماهير العربية عنه وهو ما ظهر جليا في المظاهرات المؤيدة لغزة، بطبيعتها وهتافاتها ، كثقافات باتت قائمة.
لقد أبرزت الحرب الصهيونية على غزة، طبيعة التناقض القائم بين الجماهير، والأنظمة ليس في الوطن العربي بل على مساحة العالم.
فالغرب العلماني يدعم الصهيونية ، ويعطيها الأولوية على حساب مصالحه، بما يدلل على عقلية الثقافة المسيطرة في الغرب ، وهو ما تم رفضه من خلال المظاهرات التي تمت في أوروبا ، وشارك فيها حتى اليهود" كدين" الذين نددوا بالصهيونية وقد رفعوا يافطات كبيرة كتب عليها ( أنا يهودي ولست صهيونيا) مما أربك النظم الأوروبية ووضعها أمام استحقاقات لأول مرة لا بد من التعامل معها .
والعلاقة بين أوروبا والصهيونية باتت أمام مفترق طرق يطرح السؤال: هل أوروبا الرسمية تدعم الكيان في فلسطين كيهودي آم صهيوني؟ وهو سؤال يطرح كذلك على النظم الرسمية العربية التي تنادت إلى عقد مؤتمر حوار الأديان في نيويورك قبيل الحرب على غزة.
فعنوان المظاهرات التي شهدها الشارع الأوروبي حاولت أن تخرج من حالة دفع الجزية وما يسمى " عقدة الذنب" الأوروبية تجاه اليهود وسيف معاداة السامية. في حين خرج الشارع العربي ليعكس حالة التململ الذي تعيشه الجماهير العربية من هذه النظم الرسمية وسياساتها.
إذا المظاهرات على مختلف مواقعها عكست لأول مرة جوهر الثقافة السائدة، والتي تجاوزت كل المسكنات السياسية التي اعتادت هذه النظم حقن الشارع بها من جهة، وأظهرت اختمار الثورة داخل أحشائها من جهة ثانية.
إن هذا الواقع هو الذي أثمر قمة غزة في الدوحة، التي رفعت من سقف الخطاب الرسمي العربي "ولو نظريا" وهو خطاب ليس موجها للكيان الصهيوني فحسب، بل إلى كل من يعنيه الأمر.
لقد ازدحمت الجماهير في الشوارع ضمن الهامش الذي انتزعته لنفسها في عجالة الواقع الرسمي العربي، لتزدحم معها القمم العربية وبمستويات متعددة وبمسميات متعددة، وبات شهر كانون الثاني 2009 بحق شهر القمم.
فالجميع يدرك أن الحرب التي دارت رحاها في غزة ستكون لها انعكاساتها على مجمل المنطقة، وكل نظام له حساباته. فقدرة المقاومة على الصمود والانتصار دون أية مساعدة مادية وفي ظل حصار خانق ، يعني قدرتها على التمدد والتحرك في كافة مستويات المقاومةوانتصارها يعني انتصار بوليفيا وفنزويلا وتركيا اردوغان .. إذا إنها معركة الثقافات .
وبخلاف المعارك السالفة فقد جاءت معركة غزة لتبين حالة الاصطفاف لأي من الثقافات القائمة.وحالة الفرز هذه حشرت في أقصى الزاوية السلطة الفلسطينية التي تغربت بين مسماها الوطني وتحركها في المعسكر الأخر المعادي لحركة الجماهير. وبان معها عجز المشروع الأمريكي في أن يصنع لها ساقين من خشب لتتمكن من السير ولو خطوة واحدة الى الأمام.وكانت الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر.
فالسلطة الفلسطينية في تركيبتها النظرية ، هي اجتماع فصائلي في سياق منظمة التحرير الفلسطينية ، أي أن شعاراتها مازالت تحررية "نظريا"وتنضوي في اتونها فصائل فلسطينية شاركت في مقاومة الحرب على غزة ، فبدت السلطة هجينة في تكوينها وشعاراتها وأهدافها.
والاهم أن الهدف الأساس وغير المعلن صهيونيا هو إعادة هذه السلطة إلى غوة وتهيئة المناخ لإعادة دورها الكولونيالي للمشروع الصهيوني ، وهو هدف دعمه غير نظام رسمي عربي باعترافات الكيان الصهيوني نفسه وبالتعبيرات التي ظهرت في التصريحات الرسمية العربية في بداية الحرب عندما حملت المقاومة المسؤولية عما يجري.
إن السلطة الفلسطينية ، وعبر سلوكها قد أيدت الحرب"ودعت إليها" واستنكرت العدوان ، وهو تناقض قلما رأينا له مثيل في تاريخ الصراعات ، فانسجمت مع ذاتها إيديولوجيا وظهرت بغير صورتها ثقافيا.
فالتغريب الحاصل أسقطها جماهيريا ووضعها أمام تحديات كبرى قد تطيح بها سياسيا.
ويتجلى عمق مأزق السلطة في الإجابة على سؤال : من يختلف مع من ؟؟؟؟
والإجابة لا تحتاج إلى حذلقة سياسية لندرك ببساطة أن قيادة السلطة تختلف مع جماهيرها وطليعتها المقاومة إذ أن كل الفصائل قد شاركت في التصدي للعدوان حتى حركة فتح المعبر عنها في كتائب شهداء الأقصى، ما يؤكد أن الخلاف ليس بين فتح وحماس كما يتم تصويره بل هو بين قيادة السلطة التي اغتصبت حركة فتح والمقاومة الفلسطينية برمتها. فلماذا تلام حماس على التهدئة في حين أنها كانت ضمن إجماع فلسطيني رفض تجديد التهدئة ضمن الشروط الصهيونية.
إذا فمنظمة التحرير في إطار هذه الرؤية لم تعد تشكل البوتقة التي يمكن أن تنضوي تحتها فصائل المقاومة وهي تحتاج فعلا إلى إعادة صياغة في بنيتها التنظيمية وكذلك في الأهداف.
إن هذا الاستحقاق تدركه بعمق السلطة الفلسطينية وتتهرب من استحقاقاته منذ اتفاق القاهرة عام 2005 مراهنة على قدرة المشروع الصهيوني على تغيير الواقع المني في غزة وهو أساس التصريحات التي أطلقتها وزيرة الخارجية الصهيونية تسيبي ليفني من القاهرة إيذانا بالحرب وهو ابرز الأهداف غير المعلنة لهذه الحرب.
وواهمة هذه السلطة إذا اعتقدت أن إيجاد دور لها في أن تكون الممر الرسمي لاعادة اعمار غزة سيعيد تعويمها سياسيا فهذه الحرب بينت للقاصي والداني أنها الخاسر الأكبر فهي وان حكمت فلا تملك ، وإذا كانت تستحي فلترحل .. لان النظام الرسمي العربي سيكون مشغولا في البحث عن مخارج لأزماته القادمة ولن يكون بمقدوره إعطائها صك براءة وطني.. ولتدع الجماهير وفصائلها المقاومة تقود نضالات الشعب وتحقق طموحاته وأهدافه بمقتضى ثقافة المقاومة التي ستؤكد له الانتصار ثم الانتصار.
حسين موسى
كاتب وصحافي فلسطيني