تناظر القوم و تباصر يحملق بعضهم في بعض و يلقي كل منهم طرف العين الى من هو بجانبه فهم يبغض بعضهم بعضا غير أن المصلحة تجمعهم يلمهم مجلس واحد وقلوبهم شتى لم يترك الرئاسة أحد منهم زهدا فيها و لكن لكيلا ينالها غيره فجميعهم ثعلب ماكر فلما توجس كل منهم خيفة قالوا فليخلفه ابنه فهو شاب مثقف متعلم فهامة طويل القامة يرى في وسط بطانته كالعلم على الجبل لا يخفى على مبصر و نحن صحبة أبيه فقد شب فينا و لبت سنين عددا بيننا حتى ترعرع فعينه تعرفنا من صباها إلى شبابها إلى كهولتها فإن لم يرع فينا حق الأبوة ألزمناه حق الصحبة و تشفعت لنا عنده التجربة
و الحنكة و ما نملكه من أسرار أبيه فبذلك يخضع كرها أو طمعا و لا يجد إلا السمع و الطاعة واتفقوا اتفاق الماكرين كل منهم يعلم أن رفيقه يراوغ و أمضوا على ورق فيها مداد كذب و أغرو الشاب بقولهم أنك أهل لها فامتطي صهوتها على جواد قد رودها أبوك .
و قطعا أن الغرير يخدع بالأقوال كما تخدع الغواني بقولهم حسناء فطربت نفسه و تهللت لقولهم و هو من الغافلين و لا يعلم أنهم له منكرون و أن الكرسي الذي أجلسوه عليه قاعدته على جرف هار . و جلس عليه يدفعه زهو المكان المملوء بمكاء و تصدية الكاذبين و ظن أنهم له مخلصين و لمكانته رافعين ولقدره مبجلين فاستوى على الكرسي و نظر الى وجوه الملأ و على ثغورهم بسمة الحاسدين و في قلوبهم غل الحاقدين و ما يمنعهم من إظهار غيضهم إلا أنهم به يصلون إلى مآربهم و بسط سيطرتهم
و ما لبث الشاب حتى تعلم على أيدهم و تثقف من موردهم و أحسن مكرهم و تفقه في حيلهم و أشرب في قلبه حب السلطة و كيف لا وأبوه كان أستاذهم و معلمهم و ما أكثر الشعارات التي لقنوها له فنفخته و نفثت في روحه معاني الكبرياء و الجبروات و ظن أنهم له ناصحون و راح الشاب يرتع في مروجهم ويركض في ساحاتهم لاهيا غافلا حتى أصبح يحمل طبائعهم و يجلس موائدهم و يسقى بمائهم وانغمس في غمرتهم يلهو و يسهى فما أفاق إلا على هتاف الشعب وهم له ناصحون و لتصرفه منكرون ففزع منهم وهم يطالبون بحق أزهقه و بعهد ضيعه فركبته الحيرة و أدهشه الموقف فما ظن يوم أن قومه ينذرونه و بحقهم يطلبونه فركبه الهم فهو لا يدري من أين يأتي المخرج غير أن المطرفين و البطانة التي أجلسته على الكرسي أسرعت اليه أيها الشبل لا تبتئس أنت ابن الأسد و للأسد صولة وجولة بمخلب واحد يفتك الجسد و بالزئير يروع بلد و يفزع الشداد لا تترك الهم يقعدك أو الحزن يهدمك و كيف لإبن الأسد أن يهاب أو يخاف أو يلين فارجع الى خزانة أبيك ففيها أوراق لحل كل معضلة و فك كل مشكل فركب الشاب الزهو و عانقته الغطرسة واحتضنه الغرور ولبسه الكبرياء و هو من الخاطئين فراح يهرول الى خزانة أبيه فأخرج مذكراته و راح يلتهم ما فيها من أخطاء و مخزيات فوجد نشوة نفسه وامتلأ وهما وغرورا و خرج على شعبه و أخذته العزة بالإثم فانتفض يقول ما لكون تصيحون و لقدري ناكرين أنسيتم أني بن حافظ و أنا المبشر فليعلم الكل أن هذا ملكي و مراث والدي فلا ينازعني فيه أحد إلا قصمت ظهره و خلعت جلده و لويت عنقه أنتم خدم و حشم فإن لم تنتهوا لأقتلنكم أجمعين و لأشعن في العالم أنكم إرهابيين و لا أبالي و ما أنا مضيع لملك أبي و إن شئتم فاسمعوا وصيته و أنا على سنته من التابعين:
أنا القائد رغم أنوفكم و أنا الحاكم رغم قلوبكم
أنا الزعيم و إن أبت نفوسكم
أنا الروح القدس و إن كنت من أصلاب أسلافكم
أنا الرسول فيكم رغم كفركم
أنا الآمر أنا الناهي لا أحد منكم
أنا الرئيس طوعا و كرها فيكم
لا تسألوني الشمس من مغربها فقد جئت بالظلام في عز مطلعها
لا تسألوني أن أحي موتاكم فقد قتلت أحيائكم
لا تسألوني أن أبريء الأكمه فقد صكيت الأفواه
لا تسألوني أن أتنحى فأنا آية الكرسي فيكم
لا تسألوني حريتكم فأنا طول الدهر سيدكم
لا تسألوني عن شيء فأنا المعصوم بلا حرج منكم
لا تسألوني عن شري فأنا لم أسجد لآدم وهو منكم
لا تسألوني عن خزائني فأنا قرون فيكم
لا تسألوني عن التبذير فأموالي أوهنت ظهور الحمير
لا تسألوني لما و لا تقال لي لا فأنا فرعونكم
أنا الذي علم الحجاج ضرب الأعناق
أنا الذي درب اليزيد على رمي السهام
أنا الذي درس هتلر فن الحروب
أنا الذي علم موسوليني الكراهية
لست طلاع الثنايا بل أنا مفسد الخلايا
لن أضع العمامة بل القباعة على الهامة
لن أترك الرؤوس إذا أينعت سأقطفها إذا تبرعمت
عتق الرقاب عندي محرم كحرمة الخمر عندكم
لا تسألوني تداول السلطة و و لا خلع الحلة
فلما انتهى ناداه الشعب تبا و تعسا و سحقا لأسد تحول الى نعامة رأسها مدفون في الجولان وجسدها أثقل كاهل الأمة فوجب أن ترمى