قال كليلة: أليس لثالثهم عقل أو بعض عقل و قد مرت بأقرانه المثلات
قال دمنة:يا كليلة لا تسلني عن عقولهم و لا عن خيرهم و اسألني عن ضلالهم وشرهم فهم نفوس طمس فيها تقواها لا يفوتهم طريق سوء أو خدعة مع غيرهم إلا اتخذوه سبيلا واعلم يا كليلة أن للعقول مراتب وأن أدناها عقل لا يفقه الأمور إلا بحواسه و ليس وراء هذا إلا الضلال المبين و لا أجد لهم مرتبا فيما بين هذا و ذاك إلا أن يكونوا أبخس خلق الله كلهم
قال كليلة:كأني بك يا دمنة تقول أن ليس فيهم رجل رشيد و أن الأمة عقمت بطنها أن تلد من يسودها أو يقودها
قال دمنة: ليس ذاك يا كليلة فالأمة ولود ودود ولدت ولا تزال تلد الهمم الصحاح و أن فيها من العقول ما تصنع المعجزات كما صنعتها من ذي قبل و لكن سلط على رأسها قوم جهالا عقروها
قال كليلة :وهذا الذي يحرقني و يحيرني أن أمة صنعت البطولات و سادت العالم قرونا عددا تخبو الآن تحت وطأة أغلاط وأخطاء قادتها و حكامها و العجيب أن ترى كبير قوم يضرم النار في خيام أهله فإن قيل ويحك ما تفعل؟ قال دعوها تشتعل إن لم أمتلك أعمدتها......... كما يفعل فارغ العقل القدافي
قال دمنة : ذاك مثله كمثل فرخ الغراب
قال كليلة :وما خبر فرخ الغراب يا دمنة
قال دمنة : يروى أن فرخ غراب تاه فدخل بستان مختلف الثمرات فوجد فيه عش حمامة مع فراخها و كانت الحمامة مريضة قد أصابها سهم فلم تلبث إلا يسيرا تم نفقت و بقي الفراخ من غير أم ثم توالت الأيام و كان فرخ الغراب يلازمهم و يجاريهم و يؤاكلهم من طعامهم حتى كبر الجميع وظنت الحمائم أن الغراب منهم
و في غفلة و هم يظنون به خيرا قال الغراب لابد أن نولي أمرنا أحدنا فقالوا هذا أمر سديد و قول كريم فبادرهم و هو يخفي كيده....... بما أننا أجمعنا أمرنا على أن نولي أحدنا فلا أرى أفضل مني للأسباب التي أجمعها و للخصال التي تشهدون أني أحملها ألا ترون أني أكبركم جسما و أطولكم قامة و أن لي ميزة ليست فيكم ريش أسود يلمع و منقار أطول أدود به عنكم و راح يصف نفسه وصف الكاذبين و يضمر الكيد و هم لا يشعرون
قال كليلة:وهل وافقت الحمائم
قال دمنة: وافقت على مضض ثم سار الأمر على ما اتفقوا عليه أن يحفظهم و يرعاهم و لا يمسهم بسوء ولكن بعد مرور الأيام بدأت سوأته تظهر ومعايبه لا تخفى يأكل و لا يبقي لهم إلا الفتات ثم طغى و تجبر و جلب شيعته من الغربان يغدق عليهم و يحرم الحمائم و إذا صوت فصوته نعيق فتحيرت الحمائم فما كان إلا أن أجمعوا أمرهم أن هذا الذي و ليناه أمرنا ليس منا و لا يصلح أن يكون قائدا فلما دخل عليهم و جدهم في غير عادتهم و هم له منكرون فقال ما خطبكم قالوا قررنا أن نولي أمرنا من هو أصلح إننا لنراك من المفسدين إذ لا تأتينا إلا بما يسوؤنا و لقد نيفت عن الأربعين فينا فلم تستقيم ولم تعدل
فقال كليلة: رحم الله القائل (إذا كان قائد قوم غراب قادهم إلى الجيف) ثم بعد يا دمنة
قال دمنة: ثار و فار وراح يقتلهم و يكتلهم و ينكل بهم بمساعدة غربان آخرين
قال كليلة: و هل قتلهم جميعا
قال دمنة:ويحك يا كليلة أنسيت أن المظلوم منتصر و لو بعد حين
قال كليلة: فماذا حدث
قال دمنة : جاءت طيور أخرى أعانتها على هذه الغربان وطردوا الغربان لتعيش بعيدا على الجيف
قال كليلة:و الله هذا مثل لكثير ممن تولوا أمر الأمة
قال دمنة :يا كليلة لا تعتقدن أن هؤلاء الحكام و القادة أخذوها بحقها أو استوجبوها بما فيهم من أسباب إن هذه الأمة كان يختلجها الشك في صحة انتماءهم إلى أمتهم و ظلت الشائنة ظاهرة فيهم و كلما توالى الليل بعد النهار تعاظم البين بين الأمة و قادتها فما تآلفت و لا تقاربت الأرواح و لا القلوب و لا النفوس و هذه هي الحالقة التي تقعد الأمم و متى وجد القائد أو الحاكم لا يترفق بأمته فأعلم أنه مقطوع الصلة و لن يوفق
قال كليلة:إذا كان الأمر كما تقول يا دمنة فلما ولوا أمرنا وهم لنا كارهون
قال دمنة:يا كليلة فإن الأمة لما استفاقت من غفوتها كانت هضيمة الجناح فتولى أمرها أراذلها الذين يعيشون على حرفة بطونهم و شهواتهم و لا يهمهم أمر أمتهم و أعلم أنهم اتخذوا كل سبيل وأحكموا القيود على أمتهم حتى لا ينغص عليهم أحد نزواتهم
قال كليلة : و الله ما يفعلها إلا مسلوب عقل أو عدو مبين ليس في ضميره همة و لا في قلبه مثقال ذرة من رحمة و إني لأعجب كيف وضعوا على رأس الأمة؟ وليس لهم من القيادة إلا اللفظ دون المعنى
قال دمنة: هم ألقاب في غير موضعها ألست ترى ذاك الذي يسمى القدافي يراوغ في مظهره فيلبس لباس قومه و في عينيه ما ينبئ عن مضمره السيئ الذي يحمل الازدراء لقومه و تراه حريص على الخيمة لتكون دليلا على جفاء قلبه و بداوة ضميره
قال كليلة: لو صرفت في أمر هؤلاء القادة لوضعتهم في مدرسة إعادة التأهيل و تدرس لهم حكمة واحدة إلى أن يلقوا الله ( متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)
قال دمنة:لن ينفع تأهيلهم فقد طبع على قلوبهم فما يغني عنهم شيء قد شهدت عليهم السماء و الأرض و كثر شكاتهم و قل شاكروهم فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر
قال كليلة: ولكن كيف صبرت عليهم الأمة و هم في طغيانهم يعمهون
قال دمنة:يا كليلة إن هذه الأمة كان يختلجها الشكوك في صحة مودتهم و ليس من العجيب أن ينقلب قلب من لا ينطوي على مودة فأضحى فعله غلط حتى فهمه أهل الجهل و البله
قال كليلة : فما رأت هذه الأمة حكاما أغلظ قلوبا و لا أكثر عيوبا و لا أقبح مطالعا من هؤلاء
قال دمنة: فما أخطأت فراسة الأمة إذ انتفضت من حولهم و أنذرت منهم حتى يكونوا موعظة لمن يأتون بعدهم
قال كليلة: و لن يقع الاختيار إلا على الأصلح الذي يكون عونا للأمة لا أن يكون بلية تردي
قال دمنة:إن الأمة لم تخترهم بل بليت بهم و هي الآن تلفظهم كما يلفظ الملح الأجاج فهم حكام مفاليس فما وجدت فيهم إلا ضعيف الأمانة خادع ينقص الفيء فلم تستنكف أنفسهم فأكلوا أموال الأمة و أكلوا ما تحت أيديهم و لتعلم يا كليلة أن أرض هذه الأمة مخاض بثروتها و رزقها غير أنها من غدر هؤلاء الحكام لم تصل الى الرعية و لم تشمل عامتهم
قال كليلة:فكيف طال بهم الزمان ؟
قال دمنة : إن مثل هؤلاء يا دمنة يمدد لهم حتى توبقهم عيوبهم و يخذلهم أشقاءهم و يرفضهم أصدقاءهم و يميل بهم الزمان ليطيح بهم من سرورهم فيفترشوا السخط و يغطيهم الهوان
قال كليلة:ويحهم ما عرف الخير طريقا أوعر و أصعب من طريقه إليهم فقد جاءوا بشر مستطير
قال دمنة:لقد صبرت الأمة على تجرع الغيظ فيهم حتى بان اليأس منهم و كشف الغيب عن وجه الغلط فيهم فليس لهم دليل إلا الجهل و لا تجد في قولهم و فعلهم دليل عقل
قال كليلة:كأني بك يا دمنة تقول أنهم أضل من ذوات الأربع
قال دمنة: وأيم الله إن من تمشي على أربع أو تزحف على بطن لهي في الميزان أثقل من ملء الأرض من أمثال هؤلاء
قال كليلة: إذا هي فئة خاطئة كاذبة غايتهم في كل أمر أن يحقر و مودتهم معقودة بالذل و الصغار
قال دمنة: إن مثل هؤلاء عندهم من الظلم بقدر ما عندهم من الجهل و كلما تعاظم جهلهم تفاقم ظلمهم لأنه متأرجح بين العلو و الاستكبار و بين الفساد في الأرض
قال كليله: سحقا لمن لا يرعى حقا و يحفظ دمه ولا يعرف للشرف طريقا و لا سبلا للكرم
قال دمنة: هل أتاك حديث كثيب الرمل المغرور
قال كليلة:و ما حديثه فإني لك من الناصتين
قال دمنة:كان في فلآت رمل متناثر فهبت الريح فركمتها إلى قمة الجبل فإذا هي على هيئة كثيب رمل
قال كليلة :وبعد يا دمنة
قال دمنة: فلما سكت الريح و هدأ ما حولها فإذا هي على رأس شامخ يناطح عنان السماء و يفتك السحاب فقالت من هذا الذي هو تحت وطأة أقدامي ومن يكون هذا الصخر كالح الصفائح ألست تعلم يا هذا أن لي ثلثي الأرض أكتسحها فما وطئني قدم إلا أسقطت هامتها عطشا و أدرها للشمس تلفحها و تلهبها
قال كليلة : هذا غرور الخاطئين
قال دمنة:نعم إنهم كانوا خاطئين ...... ثم استرسلت كثيب الرمل تتطاول على الجبل و تبدي و تعيد و ركبها الغرور من أطرافها فعندها نطق الجبل و قال يا كثيب الرمل إنما جاءت بك الريح و لولا قامتي و هامتي ما كان لك مقام و لا استقرار و لذهبت بك الرياح حيث شاءت وأعلمي أنك كنت حبيبات متناثرة في البيداء تدروها الرياح ميمنة و ميسرة ،أما أنا فنسبي من الرواسي الشامخات و الأوتاد الضاربات وهذا مكاني منذ أن نصبت و ما مقامك على رأسي إلا يوما أو بعض يوم وسيكون منا مقيم و منا مرتحل و ما أراك إلا مرتحلة فلا يصدنك غرورك أن تعلمين الحقيقة فاشتط غضب كثيب الرمل و وسوس لها غرورها حتى أنساها أمرها وأبدت عيوبها و أرسلت من لسانها ما ينبئ عن جهلها و ضلالها وما هي إلا لحظات حتى هبت الرياح فحملتها إلى مكان سحيق فنادت يا جبل أجرني فقال بعدا للقوم الظالمين
قال كليلة: و الله يا دمنة لا أجد مثلا يصلح لمثل هؤلاء الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو أكثر من ذلك للذين ضل سعيهم في أمر أمتهم و طغوا وخاب رجاء الأمة فيهم إلا ما ذكرته عن الكثيب الرملي المغرور
قال دمنة:لست أعجب يا كليلة أن تنقلب قلوب هؤلاء فإنها لا تنطوي على مودة لأحد فأمرهم أنهم معجبون بما في أيديهم وأعلم يا كليلة أن كل أفعالهم غلط من فوقها غلط من تحتها غلط حتى فهمها أهل الجهل و البله فقد لزموا من الخديعة كل طريق سوء و سيحيق بهم ما كانوا يفعلون فالأرض تبغضهم بما كسبوا و السماء تلعنهم بما أجرموا فقد خسروا مودة أمتهم و حرموا رحمة ربهم
قال كليلة:صدقت يا دمنة فقد خسروا مودة أمتهم و حرموا رحمة ربهم