كتبت في إحدى مذابح غزة 2008
السماء لم تتوقف عن إلقاء حمولتها من ثلج آذار منذ الصباح . بدت سونيا مختنقة و أرادت أن تقاسمني بعض شجنها . شعرت لبرهة بأن سخونتها تناوش بياض الثلج على ذرى الجبال . تكلمت و انكسار طفيف يشرخ نبراتها عن الجرحى الوافدين من غزة إلى عمان ، و الذين اعتنت بهم في رحلتها التطوعية الأخيرة. أخذت تسرد علي حالة أحدهم ، فعاد بي الزمن إلى ذلك الدهليز الرمادي الطويل الذي احتوى ( قاسما ) في إحدى غرفه ، و
ابتلعنا في مسالكه أمدا طويلا.
كان من بغداد ، شهق أنفاسه من رئتيها ، و زفر أوجاعها من شغاف قلبه ؛ من حي لا أذكر اسمه ، ما أذكره أنه شاب رقيق ، له إطلالة هادئة ، و لهجة عراقية محببة ، و ابتسامة مريحة يباغت بها الفريق الطبي من فرجة الباب ككوكب صغير يومض على عجل . مكث في سريره الذي يقع في مقدمة الغرفة الكبيرة - و إلى اليسار منها- ثلاثة أشهر غير مكتملة ، و كنت أناديه بالشاب البغدادي .
أبصرته أول مرة في قسم الطوارئ و قد تجمع الأطباء حوله كمتاريس رملية تحجب الفضاء . كانت أكياس الدم تدفع إلى أوردته دفعا في سباق مضن مع خطافة الموت . و حين تأرجحت روحه على شفير الهاوية ، صرخ الطبيب المقيم، " إلى العمليات فورا " ، و لم ينشب في حبائل ذهني سوى رجع صوته و هو يلهج ، " يا فاطمة".
صادفته في قسم الجراحة بعد فترة ، تراءى لي شبحه الأول و تردد أنينه المحسور في أذني ، و قد بدا مستقرا . قيل لي إنه تخرج من كلية الهندسة حديثا و أتى إلى عمان طلبا للرزق . تم توظيفه كعامل في مصنع للصلب ؛ و في يوم مشئوم ، انحشر ساعده الأيمن بين مسنات الآلة و هو يحاول إصلاحها ، و علق لساعات طويلة. نزف حتى كاد أن يلفظ أنفاسه بين براثن الوحش الآلي ، و حين وصل إلى المشفى، كانت أنسجته ميتة فقاموا ببتر جزء كبير منها.
" أشعر بأني عديمة الفائدة ."
تعيدني صديقتي إلى قصتها وقد تهدج حسها، شعرها المعقوص يكشف رقبتها العاجية الطويلة و مزيج تقاسيمها الرومانية العربية الآسرة . تبث تنهيدتها الحارة ، و يتساقط الثلج من فروع الأشجار المقابلة لساحة مسكننا ، فينبعث صوته الشجي من ركن قصي في ذاكرتي ، و هو يقف عند النافذة ، يفترش مع الليل عباءة حزنه، و يجمع أطرافها مع شقشقة عصافير النهار، يخاطب طيفا غامضا خلف تلة منبسطة، و يناجي نفسه بأغنية كاظم الساهر:
ما بي شي يحترق أنا رماد الآن
لا جمرة بي بقت ولا خيط من دخان
رصدته مرارا و هو يفعل ذلك ،و كنت أرجئ تنظيف جرحه حتى يطلق حرقته إلى الأفق الأشهب ، و يترك لريشة الله أن تظلل ملامح أحبته فوق الغمام ، و لملائكة الليل أن تنوء بأرزائه نحو معراج السماء البعيدة .
قال مرة و هو يتحاشى النظر إلى ذراعه ، إنه يشعر بأصابعه تتحرك تحت الضمادة مع أنه يعرف أنها قطعت ، و هذا ما يعذبه. أقسم بأنه يحس كأن شيئا لم يحدث، بل يخيل إليه أحيانا أنها ستنمو كجذوع النخل تحت قمع الشاش البغيض. آنذاك، لم أستطع أن أشرح له أن النهايات العصبية لا تزال موجودة ، لم أشأ إخباره بأنه صراخ المستغيث على جسد ميت ، و أن ما يحسه عاطفة دماغية صادقة ، تراوغ حقيقة الفقد و تشعل فتيلها القديم، و أن هذا الفقد الدماغي قد يؤرقه لسنوات طويلة .
لم أندم على عدم إخباره ؛ ستبدو الحقائق فارغة و فجة أمام جناح الأمل المهيض ، و سأجعل منها خيبات تكتنز بالشاش الأبيض !
تضيف سونيا ، " يقتلني الذنب."
ذنب تشعر به سونيا منذ فقدت والدها في حرب لبنان و غادرت مع أمها إلى رومانيا ، و لم تحظ بوداع رفاته.
أهز رأسي موافقة ، و أرى الأطفال ينحدرون على سفح الأكمة البيضاء كبطاريق ملونة. تخشخش أجراس الهواء فتحدث صلصلة تشبه صليل مفاتيح أم عمران الآذنة و هي تمسح بلاط الطابق و تدور بسطلها الأخضر المتسخ في حجرات الممر.
مرت بمحاذاته يوما فأهداها بسمته الطيبة . سألته ، " من (وين) يا بني ؟" ، فأجابها ، " بغداد" ، ضربت بيدها على صدرها المترهل و ردت ، " قبرت أهلي ! "
صارت بعد لقائها به تنظف الأرض جهة سريره كل يوم ، و تتباطأ عند مدخل غرفته ، تتحين الفرصة لتحكي له عن عذابات الهجرة في سنة ١٩٤٨ حين لجأت إلى مخيم جنين في الضفة الغربية و من ثم إلى مخيم الوحدات في عمان سنة النكسة . أخبرته عن القدر الذي أرسلها عروسا إلى الكويت في الستينيات ثم أخرجها منها أرملة عاثرة في أول التسعينيات.
كانت تدعك البلاط جيدا عندما نقترب منها في المرور الصباحي، ثم تتسلل إليه و تستفيض في هذيانها عن نهري دجلة و الفرات عندما عبرت برا من بغداد إلى عمان ؛ وقفت على ضفة النهر و تنشقت رائحة جنين . كيف لا ، و قد قضت طفولتها و هي ترى مقبرة شهداء الجيش العراقي٭ حيثما تحركت في أقضية البلدة .
كنا نطلب منها أن تغادر الغرفة ، و بعد أن تتضرع إلى الله بأن يقطع دابر بوش و اليهود و غيرهم، ، يضحك قاسم من قلبه، و تجمع هي أشياءها ثم تربت على ساعده المبتور ، تشد عليه بقبضة امرأة ستينية ، تطرح عليه ثمار حكمتها و تؤكد، " أزمة و ( بتمر ) . "
تغيب أم عمران في البهو ، يتمايل السطل الأخضر مع عرجتها ، و يبقى صوته معلقا بذيل خرقتها و به بحة مفجوعة، " يا ( يما) ، أنتظرك "
ترعش رفيقتي ، تقول و هي تطوق بعض الرسوم و الأشعار من جرحى غزة بيديها ، " آلامهم مكنونة ، يكتبونها ، لكن لا يتفوهون بها أمامنا ..لماذا ؟"
و كأنها تحيا قصتها من جديد مع أجساد أخرى ، كنت أعرف أنها مكثت سنتين لا تتكلم بعد الحرب و قضت في مصحة للأطفال ستة أشهر حتى استعادت صوتها ؛ و كأن سونيا تحاول تطهير روحها من أسمال عالقة.
وقتها أيضا لم أفهم لماذا أتعبنا قاسم . بقيت حيرى بين ما أراه راكدا على السطح و ما يصطخب في العمق الموار . خاطبته بخشونة في لحظة حرجة نهش فيها اليأس من أضلاعه : حياتك أم ساعدك ؟! و كنت أتذمر من سلوكه السلبي.
أجابني : ساعدي !
و لأني لمته على ذلك ، قال بأسى : بتر ساعدي كلف صاحب المصنع و أصدقائي الذين ساعدوني من قوت أهلهم سبعة آلاف دينار ، من أين لي بسبعة آلاف دينار أسد بها رمق أهلي طوال حياتي؟!
أتذكر جيدا كيف رجفت يدي و أنا أقص الجلد الميت ، فوخزت النسيج الحي و آلمته . و ظلت يدي ترجف كلما لامست طرفا غضا لجرحه الممتد إلى كبد بغداد . لم أجرؤ على الاقتراب من وجعه المطوي أكثر ، لم أقو على تسلق أسوار حزنه . بقيت منتصبة على مصطبة قريبة ، قدم مصلبة عليها و عين معلقة على ناصية سوره !
قلت لها و أنا أستعير جملة أمي، " سيعيشون أياما حلوة لكنها ستأتي على مهل. "
و على مهل شديد، ألفنا قاسم و ألفناه . كان من أترابنا ، مختلفا عن بقية المرضى، يحب الممثلين الذين نحبهم و يقرأ كتب أغاتا كريستي ، قصائد نزار قباني ، كتب غادة السمان، چوچل، و عبد الرحمن منيف. يهزأ بنا - نحن (مرمطونات) الطابق و صف الامتياز التعيس - و بالقفص الذي نعيش فيه. و كنا نتعمد أن نثير حفيظته حين نزعم أن طلاب الهندسة قبلوا فيها بعد أن خذلتهم مجاميعهم لدخول كليتنا ، و نتمادى في إغضابه و حرق أعصابه.. تعلم منا الكلمات الطبية و اللهجات المحلية المختلفة. و تكلم قليلا جدا في الليالي الطويلة عن إخوته و أمه ، عن والده الذي فقد في حرب إيران و وصلت عظامه إليهم بعد سنوات طويلة. كان كلامه محاطا بهالة قدسية ، مغلفا بشرنقة حب لا تمنح نفسها لضوء عابر ، و معجونا بحزن ناي عتيق .
تحسنت صحته ، و ظننت بأن جراح قلبه قد ضمت . غبت عن الطابق عدة أيام و أنا أجهز أوراق السفر إلى الخارج ، و ظن هو بأني سأغادر عمان نهائيا. عندما رآني في الدهليز صدفة ، لحق بي لوداعي، هرول ، فأوشك أن يقع على الأرض. حاول أن يتوازن، شد جذعه إلى الأعلى ، لكن جسده لم ينهض ، بسط ساعده المقطوع كي يحمي رأسه ، فخر على وجهه و تهاوى كما تتصدع قلعة طينية على شاطيء مكتظ بالأرجل، و تشظت ساعته كمد من ملح و زبد.
في تلك الليلة بدا نصف وجهه منتفخا ، ملونا بزرقة داكنة ، و بقي صامتا لساعات طويلة ، ثم أخرج من حاجياته دبلة كان يلبسها في يده اليمنى قبل الحادث، منقوش عليها اسم فاطمة ؛ ابنة خالته ، و حب حياته ؛ مؤرخة باليوم الذي ترك فيه بغداد و وفد إلى عمان .
سألني :
" دكتورة ، هل يتغير الحب إن تغيرت ظروفه ؟ "
- لا أدري ......لا أظن ، ماذا تعني ؟
" شاهدت فيلما عن محبين عاشقين، احترق وجه الحبيب فصنع قناعا يخفي به تشوهه ، لكن حبيبته رأته دون أن يدري في صورته المحترقة . في البداية قالت له إنها ستحبه دائما كعهدها في السابق ، لكنها بعد فترة غادرته ."
- لماذا ؟
" لم تستطع أن تألف النظر إلى وجهه و لم تقدر على ذلك ."
- مجرد فيلم !
" لكنه واقعي إلى أبعد حد "
ثم بكى ، بكى كبحر جامح هدار.
يوم خروجه ، رفض أن يتلقى أي مساعدة ، تحسس سريره بالساعد المقطوع كمن يضع لمسة أخيرة على شاهدة قبر لشخص عزيز!
لم يترك عنوانا و لم يقرر إن كان سيعود إلى بغداد ليعايش شفقة الآخرين، أو ليصبح رقما إحصائيا في قائمة الجرحى و القتلى . قال إنه سيحاول اللجوء إلى دولة أوروبية كالسويد، يمارس فيها مهنة تناسب ذوي العاهات المستديمة ، و إنا سننساه حتما ، ربما سنذكره إن اعتنينا بمريض مثله، لكنه لن ينسى أيامه معنا . قال إن رحلته إلى عمان مرة لكنه سيمسح مرارتها بالنصف الحلو الذي عاشه في أروقة المستشفى.
شكرنا جميعا و دمعت عيناه.
مضى في الممر يتلمس بيده اليسرى جانب الحائط و يسند جذعه كلما هاجت عاطفة دماغه ، ثم غاب ظله بعيدا بين شجيرات البلوط.
تسأل سونيا ، " (فكرك) ، ماذا سيحل بهم بعد أن تبرأ جراحهم ؟ "
- سيذهبون إلى حيث ذهب قاسم .
" قاسم ؟! "
- شاب جاء من العراق إلى عمان، فقد ساعده و اعتنيت به و أنا في الامتياز ثم غادر.
" إلى أين ؟ "
- ............
" ماذا حل بهذا القاسم ؟"
- لا أحد يعرف .
تكتم صديقتي شهقتها.
و أقفل الستارة فيتوارى عنا منظر الثلج و الأشجار و الأطفال ، أقرب إليها مناديل الوجه الورقية. نصمت معا لوقت قصير ، ثم تنشج هي على كل ما عرفت و ما لم تعرف ، و أبكي أنا لأني ما أزال بعد كل هذه السنوات متسمرة في مكاني على نفس المصطبة ، و عيني لا تبلغ قمة السور.